لا يكاد يمر يوم في تونس، بعد إعلان الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو (تموز) إقالة رئيس الوزراء، هشام المشيشي، وتجميد عمل البرلمان، من دون سماع خبر إيقاف أحد المشتبه فيهم في ملفات فساد، أو وضع بعض الشخصيات السياسية، أو التي كانت تتحمل مسؤولية في الدولة، رهن الإقامة الجبرية. وارتفعت وتيرة ملاحقة هؤلاء مع تعيين سعيد وزير داخلية جديداً.
هذه الإجراءات استبشر بها غالبية الشعب الذي عانى ويلات الفساد، لكنها أثارت تخوفات البعض من أن تصبح هذه الملاحقات محاكمات شعبية لا تحترم مبادئ حقوق الإنسان.
في هذا الصدد يقول النائب السابق ورئيس لجنة مكافحة الفساد في البرلمان، بدر الدين القمودي، في تصريح خاص، إنه "يتفهم جيداً هذه الإيقافات ومذكرات الجلب ووضع شخصيات قيد الإقامة الجبرية والتحفظ عليها حتى لا نجد أنفسنا أمام ملفات من دون متهمين، وحتى لا يفلت أي كان من العقاب، خاصة أننا عشنا أخيراً على وقع فرار عديد من العناصر المتعلقة بهم شبهات فساد".
"ملفات حارقة"
ويضيف نائب حركة الشعب المساندة لقرارات الرئيس التونسي، "المطلوب الآن بعد هذه الملاحقات إحالة هذه الملفات إلى القضاء بعد ما قامت وزارة الداخلية بدورها، وأن تضمن لهم محاكمة عادلة بعيداً عن الشعبوية والمحاكمات الشعبية"، موضحاً، "تونس لديها جهاز قضائي على الرغم من كل ما يقال عنه وما يعانيه من فساد، إلا أنه يضم عدة كفاءات وطنية تعرف بالنزاهة والشرف"، مؤكداً، "نحن نريد إحالة كل الملفات إلى القضاء من دون استثناء".
كما يرى القمودي أن "محاربة الفساد لا تزال في بدايتها، وننتظر إحالة كبار اللصوص للقضاء، وأيضاً فتح ملفات حارقة طالما شغلت الرأي العام التونسي كالجهاز السري للنهضة، والاغتيالات السياسية، وغيرها".
ويشاطره المحلل السياسي صغير الحيدري الرأي قائلاً، "ما لا يريد فهمه البعض أن تونس تعيش ظروفاً استثنائية، بالتالي فإن هذه الظروف تستوجب إجراءات استثنائية أيضاً في إطار حالة الطوارئ التي ينظمها الأمر الرئاسي الصادر عام 1978، وأصدره آنذاك الزعيم الحبيب بورقيبة".
وأشار إلى أن "الإجراءات فيها ما هو غير دستوري ويقيد الحريات، لكنها تبقى ضرورية لوضع حد لحالة العبث والفساد الذي استفحل في البلاد"، مضيفاً، "اليوم، هناك دوائر سياسية متهمة بعقد تحالفات مع فاسدين، سواء من رجال أعمال، أو غيرهم، من أجل الدفاع عنهم".
ويقول الحيدري، "ما يحزّ في النفس أكثر أن من يشتكي اليوم من هذه الإجراءات، سواء من حقوقيين في المجتمع المدني، أو سياسيين، وبينهم من كانوا نواباً في العشرية السوداء التي شهدتها البلاد، أنهم لم يقوموا بخطوات نحو تغيير هذا الأمر وإحلال قانون آخر محله".
مع ذلك، يعتقد الحيدري أنه من "الضروري أن توضح الرئاسة التونسية خريطة الطريق لإزالة الغموض الذي يحيط بهذه الإجراءات أولاً، وبما سيأتي بعد انتهاء مدة الشهر التي من المقرر أن يمدد فيها الرئيس سعيد حالة الاستثناء ثانياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حق دستوري
وتعيش تونس منذ أقل من شهر على وقع تغيرات جذرية سياسية واقتصادية في محاولة من رئيس الجمهورية للخروج بالبلاد من حالة الأزمة متعددة الأبعاد التي عاشتها منذ عشر سنوات في ظل حكم الإخوان، ويبدو أن سعيد قد اختار الانطلاق في محاربة الفاسدين.
في المقابل، يعتقد الصحافي سمير الجراي، أنه "لا شك في أن كل التونسيين يريدون إجراءات لمكافحة الفساد والفاسدين واللوبيات التي ارتهنت الدولة لعقود، ودمّرت الاقتصاد الوطني وأفقرت العباد، غير أن كل الإجراءات التي اتخذها رئيس البلاد لم تكن مستندة لاستراتيجية معينة ولا رؤية واضحة"، بحسب اعتقاد الجراي، موضحاً، "الإجراءات التي اتخذت بحق بعض المتهمين أو الذين تحوم حولهم شبهات فساد كانت مخالفة للقانون بخصوص البعض منهم، وهو ما يفتح الباب على خروقات دستورية تمس حقوق المواطنين".
وأضاف، "لقد حدثت وقائع بمنع السفر بحق عدة رجال أعمال وقضاة غير متهمين فقط لأنهم حملوا هذه الصفات، وفي هذه الإجراءات خرق واضح للقانون والدستور والمعاهدات الدولية، ومن ناحية أخرى عمدت وزارة الداخلية إلى وضع عدة نواب مجمدين ومسؤولين سابقين تحت الإقامة الجبرية، وهذا مخالف للقانون ما دام يحدث دون إذن قضائي".
وعبّر الجراي عن مخاوفه التي وصفها بـ"المشروعة على الحقوق والحريات العامة"، مواصلاً أن "وضع مواطن تحت الإقامة الجبرية هو اعتداء غير قانوني على حق دستوري، وهو حق التنقل". وتابع قائلاً، "إن هذه الملاحقات والقرارات من دون أي توضيحات من رئاسة الجمهورية عن خلفياتها وملفاتها ومدى قانونيتها لا تجلعنا نشعر بالارتياح لما آلت إليه الأوضاع".
ويختتم، "الانقلابات المدنية تبدأ بمثل هذا المسار، لذلك ما زلنا سنعتبر ما يقوم به الرئيس غير دستوري وغير قانوني إلى حين وضعه برنامجاً واضحاً وخريطة طريق تعود بالمسار الديمقراطي إلى طبيعته، وتعمل فيه مؤسسات الدولة بشكل طبيعي".
إلا أن الباحث في القانون الدستوري رابح الخرايفي، وفي قراءته القانونية لهذه الإجراءات، يقول، إن "الأمر المؤرخ في 26 يناير (كانون الثاني) لسنة 1978، وفي ظل التدابير الاستثنائية التي ينص عليها الفصل 80 من الدستور يمنح وزير الداخلية السلطة التقديرية المطلقة لوضع أي شخص تحت الإقامة الجبرية".