يحتمل مفهوم الطبيعة فلسفياً معانيَ شتّى. تدل الطبيعة أولاً على المبدأ الناظم الذي يحكم الكائنات، ويضبط إيقاع نموها. في أصل الاصطلاح اليوناني (phusis) دلالة على انبساط الكائنات بحسب قوامها الخاص وناموس تكوينها الذاتي. تناول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976) إصطلاح الفيسيس الإغريقي هذا، فاستكشف فيه معاني التفتح الذاتي والانبساط العفوي المنعتق من سطوة التقنيات التشويهية. ومن ثم، فإن الطبيعة التي نستدل عليها بواسطة اصطلاح الفيسيس إنما تنطوي على علة نشوئها ونموها، وتخالف بذلك الصناعة الفنية أو التقنية التي تفرض عليها تبديلاً قاهراً متعمداً.
تدل الطبيعة ثانياً على ماهية الكائنات، أي على مجموع السمات أو الصفات التي تحدد قوام كل كائن، وتجعله ينتمي انتماء انسجامياً إلى صنفه الأوسع. يتناول بعضهم الطبيعة الإنسانية على هذا المعنى، فيعاينون فيها ضمةً من الخصائص الثابتة التي تهبها هويتها الذاتية وفرادتها المتميزة، غير أن مذاهب شتّى في علم النفس والإثنولوجيا والفلسفة تعارض هذا التعريف، وتصر على تجريد الطبيعة الإنسانية من كل عناصر الثبات والانتظام والرسم النهائي. من أشد معارضي مفهوم الطبيعة الإنسانية الثابتة الماركسية التي تنادي بالجدلية المادية التاريخية سبيلاً إلى التكون التدرجي في الكائن الإنساني، والوجودية الإلحادية أو اللاأدرية التي تعتقد أن هوية الإنسان مسرى معقد من التفاعلات الحية مع البيئة الإنسانية المحيطة والإطار الثقافي الأوسع الذي تنسلك فيه.
تدل الطبيعة ثالثاً على العنصر التلقائي الكامن اللصيق بالكائنات المنتمية إلى صنف من الأصناف، قبل أن تصيبه عوامل التغيير التي يستحدثها العقل الناظر أو الفعل الناجز، لذلك تبدو الطبيعة منحةً أصليةً متشحةً بردائها التكويني الأول، قبل أن تجري عليها مراسيم الأحكام الاصطناعية التقنية أو الفنية الجمالية. في حال الطبيعة الإنسانية، يجدر التمييز بين المعطى العفوي الثابت في عمق الكائن الإنساني، والمكتسب الثقافي الطارئ المستجد.
مجموع الكائنات
تشير الطبيعة رابعاً إلى مجموع الكائنات الحيوانية والمعدنية والنباتية التي يحتضنها منفسح الكون ويخضعها لنواميسه العامة. بحسب هذا المعنى، يمكننا إما أن نضع الطبيعة هذه تحت وصاية إلهية ونعتمد مبدأ الخلق من العدم (creatio ex nihilo)، وإما أن نتصور لها قواماً ذاتياً مستقلاً، وإما أن نضم الرؤيتين معاً، على غرار الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677) الذي اعتبر الله والطبيعة حقيقةً واحدةً. في جميع الأحوال، تنتظم الطبيعة، وقد أخذت على هذا المعنى، وفقاً لسببية ذاتية تعارضها معارضةً صريحةً حرية الإنسان العاقل. تجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم الطبيعة هذا يقابله مفهوم ما وراء الطبيعة أو ما فوقها أو ما تحتها أو ما بعدها. إنها عبارات تنطوي على تصور فلسفي يروم أن يخترق جدار الطبيعة السميك ليبلغ جوهرها المنحجب. إلا أن هذه الطبيعة لا يمكنها أن تقوم إلا على قاعدة الانتظام والخضوع لقوانين ذاتية مستلّة من صميم قوامها الخاص، لا يجوز للإنسان أن ينقضها نقضاً مطلقاً من غير أن يهددها بالاضطراب والفساد والانحلال.
جماليات الحدائق
تتحرى فلسفة الجمال عن علاقة القيمة الفنية بالمشهد الطبيعي الذي تستقر عليه عناصر الكون. وكذلك تعنى باستجلاء مقام المشاعر التي تستثيرها في الوعي الإنساني جمالية الطبيعة. إذا تأمل المرء في فن الحدائق، على سبيل المثال، أدرك أن الناس يختبرون في هذا الميدان ارتباطاً فذاً يجمع الطبيعة والفن في وحدة الإلهام الفني. ذلك بأن الحدائق المزينة تفصح عن التواطؤ البهي بين عمل الطبيعة العفوي وعمل الإنسان الاصطناعي.
استثار فن الحدائق المزينة اعتناء الفكر الجمالي في القرن الثامن عشر حين أكبّ يصور مثال الحديقة النموذجي الذي أعقب حقبة ازدهار الحدائق الإنجليزية والصينية. نحا هذا الفن منحى التجريد، فأعرض عن الهندسات الخارجية والبناءات المرصوفة، واستبدل بها الرسم والشعر، مهملاً المشهدية الصارخة المهتاجة رقصاً ومسرحةً، ومؤثراً استيقاظ أحوال النفس الباطنة استيقاظاً خفراً.
من التحولات الطارئة على هذا الفن الأشكال الالتوائية التي تلهمها تحركات الحيات حتى إن أشكال المياه أضحت أشبه بمستنقعات اكتئابية وبحيرات منزوعة الأطراف تحل محل القنوات المستقيمة المجرى، والأحواض المرصعة المتلألئة، والينابيع المتفجرة. وظهرت أيضاً في هذه الحدائق مشاهد صخرية برية مضطربة متبلبلة تنوب مناب التماثيل الفرسانية وتجسيمات الآلهة. وطغى العشب الأخضر على المساحات يغلفها بردائه، ويطوي في امتداداته الأشكال الهندسية كلها. وشقت دروب ضيقة حلزونية متعرجة تقوم مقام المسالك الواسعة المستقيمة المضيئة، مشيرةً إلى زمن الاجتهاد الإنجازي والفاعلية المنتجة.
من بعد أن انتظم المشهد الرمزي في الحديقة الجمالية، ارتبطت الفسحة الفنية هذه بمشاعر الحنين إلى الجنة المفقودة حتى إن البسيطة كلها يمكنها أن تتحول إلى حديقة رحبة تمتد إلى اللانهاية. ومن ثم، ينبثق السؤال الفلسفي الخطير عن مكانة الإنسان في الطبيعة وفي المجتمع. ذلك بأن المتنزهات الأنيقة، إذ تعزز الوحدة وتغذي المخيلة الحالمة، تحث الإنسان على الاعتناء بجوانيته وتساعده في اختبار الانسجام بالكون انسجاماً اتحاديا، غير أن الحديقة تتهددها مخاطر العولمة والهيمنة التقنية والغزو الآلي المحض، لذلك استشعر الكثيرون موت فن الحدائق وانطفاء جماليته الكلاسيكية. لا غرابة، من ثم، أن تصاحب ظاهرة الأفول هذه انقضاء حقبة معرفية من حقبات التطور الإنساني.
الجمالية الطبيعية والجمالية الاصطناعية
يجدر السؤال هنا عن الفرق الحقيقي بين اختبارات الجمالية الطبيعية واختبارات الجمالية الاصطناعية. من الاختلافات الواضحة أن الجمالية الطبيعية تنشأ في ذاتها، ومن أجل ذاتها، في حين أن الجمالية الاصطناعية تولد أولاً في فكر الفنان العبقري قبل أن تستوي صنيعاً بهياً في أحضان الطبيعة، لذلك يجب اعتبار هذه الجمالية عرضةً للتغير والاضطراب والتحول، على غرار الفن عينه الذي تتبدّل مبادؤه وأحكامه وقواعده بتبدّل القرائن الثقافية والأزمنة المعرفية.
أما الجمالية الطبيعية، فتظل على حالها من عصر إلى آخر، تعتصم بشمولية كونية وجدارة ذاتية وصلاحية إلهامية راسخة. لا ريب في أن منظر القمر يلهب مشاعر الرقة في فؤاد الآسيوي والأفريقي والأميركي والأوروبي، في حين أن الهندسة المعمارية في بيئة ثقافية معينة ربما لا تستقطب إعجاب الناس في بيئة أخرى. ومن ثم، فإن الجمالية الطبيعية لا تتأثر بأذواق الناس وإحساساتهم ومشاعرهم وميولهم، في حين أن الجمالية الاصطناعية غالباً ما ترتبط بالخلفيات التذوقية السائدة في مجتمع من المجتمعات، وبالاستنسابات الإعجابية الناشطة، وبالاستعدادت الاختبارية التي تترقب انبثاق هذا النمط أو ذاك من الفن في هذه الثقافة أو تلك. وعلاوةً على ذلك، فإن الفنان العبقري يحمل صنيعه ضمّةً من المعاني التي يأمل أن يستخرجها الإنسان المتأمل المسحور بجمال الإنجاز المعروض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن السؤال الأخطر يتناول قيمة الجماليتين الطبيعية والاصطناعية. فهل يجوز لنا أن نفاضل بينهما، وحجتنا في ذلك أن الروح الإنساني قادر على تجاوز بهاءات الطبيعة المرتسمة في الكون الفسيح؟ إذا ثبت أن الفكر أرفع من الطبيعة، فإن الجواب محسوم قبل المناقشة. أما إذا تبين لنا أن الطبيعة الرحبة التي لم يستطع الإنسان أن يستكشف أبعادها السحيقة، سواء في اللامتناهي صغراً أو في اللامتناهي كبراً، تزخر بجمالات فائقة الوصف يعجز الروح عن استيعاب جميع دلالاتها، فإن المفاضلة تضحى عمليةً محفوفة بمخاطر الاستنساب الاعتباطي. زد على ذلك أن العقل الإنساني صفحة بيضاء ما برحت تنطبع فيها الصور البهية المستلة من صميم البهاء الذي يسطع في أنحاء الكون. فهل يكون التطور الذهني الإنساني قادراً على تخطي المستندات الفنية الأصلية التي ارتسمت في مخيّلته منذ تفتح وعيه الأول على الكون؟ ليس لهذا الجدل من خاتمة حاسمة إلا على قدر ما يوازي المرء بين كنوز الجمالية الطبيعية المنغلة في ثنايا الكون، وقابليات الإبداع الفني المنطوية في تضاعيف الجوانية العاقلة المتفكرة المبدعة.