بعد أقل من شهر على تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن التي استبعد من خلالها عودة "طالبان" للسيطرة على أفغانستان، استيقظت الولايات المتحدة والعالم على مشهد سوريالي، تسقط فيه كابول بيد "طالبان"، بعد استيلائها على المدن الأفغانية، وفرار الرئيس السابق أشرف غني.
وفي أعقاب التقارير التي أشارت إلى أن بايدن أصر على الانسحاب على الرغم من تحذيرات مسؤولين في الجيش والاستخبارات، اهتزت الصورة التي رسمها الرئيس الديمقراطي لنفسه، بوصفه سياسياً ينصت إلى المتخصصين، وينتقد نظراءه ومنافسيه، وعلى رأسهم دونالد ترمب، لتهميش العلم والأطباء في مواجهة وباء كورونا.
واليوم، وبعد تجاهل مخاوف مسؤولين بارزين، مثل وزير الدفاع لويد أوستن الذي أبدى أمام الكونغرس قلقه من الخروج من أفغانستان، يواجه بايدن سيلاً من الانتقادات إثر الانسحاب الذي وصف بـ"الفوضوي". وانخفضت نسبة تأييد الرئيس الأميركي إلى أقل من 50 في المئة، وفق استطلاعات رأي متعددة، في مشهد مشابه لما حدث لسلفه، بعد اتهامه بإقصاء العلماء، وعدم الأخذ بتوصياتهم، ما فاقم تأثيرات الجائحة في البلاد.
وبسرعة خاطفة كسقوط كابول، راح البعض يروج لأفكار منها أن "طالبان" استحوذت على السلطة بتخطيط أميركي، ويستشهد داعمو هذه النظرية بمحادثات الدوحة التي جمعت "طالبان" وواشنطن، وغابت عنها الحكومة الأفغانية.
لكن الانسحاب الأميركي الفوضوي وموقف إدارة بايدن الضعيف الذي يلاحظ في رسائلها المتضاربة، يقوضان نظرية المؤامرة تلك، ويشيران إلى فشل أميركي في إدارة انسحاب عسكري منظم، يتزامن مع إجلاء الرعايا الأجانب والأفغان الذين ساعدوا القوات الأميركية وقوات حلف "الناتو".
ومن يقول إن واشنطن اتفقت مع "طالبان" على تسليمها أفغانستان، يستطيع دعم نظريته بالاستشهاد بقوة استخبارات وجيش أقوى دولة في العالم، وكيف أنه من غير المحتمل أن تفشل قوة عظمى مثل الولايات المتحدة في تنبؤ الزحف السريع لـ"طالبان" نحو المدن الأفغانية الكبرى، وما يعنيه ذلك من خسائر معنوية ومادية بعد 20 عاماً من الحرب على الحركات المتطرفة.
لكن، وفقاً لمسؤولين حاليين وسابقين في واشنطن، فإن التقييمات السرية التي أجرتها وكالات المخابرات الأميركية خلال الصيف، رسمت صورة قاتمة للوضع في أفغانستان، وتوقعت بالفعل انهيار الحكومة الأفغانية، ذلك على الرغم من استبعاد بايدن ومستشاريه سيطرة "طالبان" على السلطة.
تقول "نيويورك تايمز"، "بحلول يوليو (تموز) الماضي، أصبحت التقارير الاستخباراتية أكثر تشاؤماً، وشككت في قدرة قوات الأمن الأفغانية على المقاومة، وما إذا كان بإمكان الحكومة الصمود في كابول".
وبينما كان بايدن يحاول طمأنة الرأي العام، ليحظى بلحظته ويحقق وعده الانتخابي بإنهاء أطول حروب الولايات المتحدة، اعترف تقرير استخباراتي بوجود مخاطر متزايدة تواجه العاصمة. وأشار إلى عدم جاهزية الحكومة الأفغانية لصد هجوم "طالبان"، التي كانت حينها تبتلع عشرت المقاطعات الأفغانية، وتحاصر عديداً من المدن الكبرى.
وفي الثامن من يوليو الماضي، قال بايدن إنه "من غير المرجح أن تسقط الحكومة الأفغانية، وإنه لن تكون هناك عمليات إجلاء فوضوية للأميركيين على غرار ما حدث في أعقاب حرب فيتنام"، إلا أن ما استبعده الرئيس الأميركي هو ما تحقق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذ لم تسقط كابول بسرعة لفتت العالم كله فقط، بل وصف البعض ما حدث بأنه أسوأ من سقوط سايغون في عهد الرئيس جيرالد فورد، مستشهدين بالمشاهد القادمة من مطار العاصمة الأفغانية من تساقط أفغان من طائرة مقلعة، قبل العثور على أشلاء عالقة في عجلاتها، وفق الجيش الأميركي.
فهل خططت إدارة بايدن فعلاً لوصول "طالبان" وإحراج نفسها أمام العالم؟ أم أنها فشلت في تأمين انسحاب منظم يضمن سلامة رعاياها بعد تجاهل توصيات الاستخبارات والمسؤولين العسكريين؟ تؤكد "نيويورك تايمز" أن الإدارة الأميركية اتخذت قرارها بالفعل قبل يوليو، وحينها كان الإجماع في مجتمع الاستخبارات على أن حكومة أشرف غني يمكن أن تصمد لمدة عامين، وأن "طالبان" على بعد 18 شهراً على الأقل من السيطرة على البلاد.
لكن مسؤولاً رفيعاً في الإدارة، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، دافع عن قرار الانسحاب، وقال إنه بحلول شهر تموز (يوليو)، حين كان الوضع أكثر اضطراباً، لم تقدم وكالات الاستخبارات أي تنبؤ واضح في شأن استيلاء "طالبان" على السلطة. وقال المسؤول إن التقييمات الاستخباراتية لم تكن بدرجة "ثقة عالية"، أعلى مستوى من اليقين لدى الوكالات.
مع ذلك، فقد حث كبار المسؤولون العسكريين، وفي مقدمتهم رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي، مارك ميلي، الرئيس بايدن، على الاحتفاظ بقوة قوامها نحو 2500 جندي. وقال وزير الدفاع لويد أوستن، الذي عمل سابقاً قائداً عسكرياً في المنطقة، إن الانسحاب الكامل لن "يقدم تأمينا ضد عدم الاستقرار".
كما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، أن مسؤولين في الجيش والاستخبارات حذروا بايدن في سلسلة من الاجتماعات التي سبقت قراره، من أن الأمن في أفغانستان آخذ في التدهور، معربين عن مخاوفهم في شأن قدرات الجيش الأفغاني وقدرة "طالبان" المحتملة على السيطرة على المدن الأفغانية الكبرى.
قائد القيادة الأميركية المشتركة فرانك ماكنزي، الذي زار مطار كابول قبل أقل من أسبوع، كان أيضاً متحفظاً في شأن الانسحاب من أفغانستان، فقبل 4 أشهر تقريباً، خالف ماكنزي تصريحات الرئيس بايدن المتفائلة، وأبدى في إحاطة أمام الكونغرس قلقه من انهيار الجيش الأفغاني بعد سحب القوات الأميركية.
وجاءت تصريحات مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي السابق، الذي قال، أخيراً، إن دونالد ترمب قوّض الصفقة المعقودة مع "طالبان" بدفعه نحو سحب القوات من دون ضمان التزام الحركة بالشروط، لتؤكد مسؤولية إدارة بايدن في فشل الانسحاب، كونها تجاهلت عيوب الاتفاق الذي ورثته، على الرغم من مراجعتها لمعظم سياسات الإدارة الجمهورية السابقة، في أبسط الملفات وأكثر تعقيدها.
وفيما قال بايدن في إحاطة صحافية يوم الجمعة الماضي، إن "القاعدة" اختفت من أفغانستان، أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إضافة إلى مسؤولين في البنتاغون، وجود "القاعدة" في أفغانستان، بالإضافة إلى تنظيم "داعش".
وتشير هذه الرسائل المتضاربة التي تزامنت مع فوضوية الانسحاب وسقوط أسلحة ومقاتلات أميركية بيد "طالبان"، وفق مراقبين، إلى تقديم إدارة بايدن رغبتها في تحقيق انتصار سياسي على مستقبل أفغانستان وأمن المنطقة، متجاهلةً بذلك تحذيرات المسؤولين العسكريين، ما شكل ضربة أولى لصورة بايدن على المسرح السياسي داخل بلاده كرئيس ينصت إلى آراء المتخصصين.
ومن أبرز المنتقدين للخروج الأميركي من أفغانستان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، الذي اعتبر المبررات الأميركية "غير مدفوعة باستراتيجية كبرى، بل باعتبارات سياسية"، مشيراً إلى أن الانسحاب جاء "امتثالاً لشعار سياسي غبي حول إنهاء "الحروب التي لا نهاية لها"، كما لو أن التزامنا في 2021 يمكن أن يقارن بالتزامنا قبل عشرين سنة أو عشر سنوات".