هو "العرّاب" وكفى. لا، لا يكفي، إذ لا بد من صفة تلي. فهل هو "عرّاب الثورات"؟ ربما. هل هو "عرّاب الربيع العربي"؟ معقول. هل هو "عرّاب الفوضى"؟ بالتأكيد.
بكل هذه الصفات، أو أكثر مما يشبهها، يحضر برنار هنري ليفي (72 سنة)، فجأة، في أفغانستان، وعلى وجه الدقة في وادي بنجشير. نقلت وكالة Pajwok "باجوك" الأفغانية الخبر على هذا النحو (الفجائي). لكن ليفي، ليس ضيفاً مفاجئاً في أفغانستان. فقد كان هناك في عز الحروب الأفغانية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. اقترب كثيراً من أحمد شاه مسعود، الذي نهل من الثقافة الفرنسية وأتقن لغة موليير، وكان عدواً شرساً للسوفيات ولحركة "طالبان"، وقضى غيلة بانفجار نفذته "القاعدة" عشية هجمات 11 سبتمبر.
من ليبيا إلى بنجشير
ماذا يفعل برنار هنري ليفي في أفغانستان الآن؟
تقارير صحافية متعددة تقدم الإجابة: تقول مجلة "بوليتيكو" الأميركية، إنه يعبر عن دور فرنسي داعم لأحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود، أقوى المناهضين لحركة "طالبان"، والذي يتخذ من وادي بنجشير قاعدة لقواته.
وتقول المجلة أن ليفي سافر إلى وادي بنجشير في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكتابة تحقيق عن واقع الحال في أفغانستان لصالح مجلة "باري ماتش".
وفي 14 أغسطس (آب) الحالي، نشر ليفي في صحيفة "جورنال ديمانش" الباريسية، مضمون رسالة بعث بها إليه أحمد مسعود، يطلق عبرها نداء إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لمساعدة الأفغان ضد "طالبان"، باعتبار أن فرنسا هي الملاذ الأخير لهم (بعد التخلي الأميركي عنهم).
ويعلق ليفي على هذا النداء لمجلة "بوليتيكو" بالقول: "من الطبيعي أن تتدخل فرنسا، وأعتقد أن العلاقات التاريخية بين باريس ووالد أحمد مسعود، ستدفعها إلى تقديم المساعدة له حتى ولو بصورة سرية".
هل يكفي ذلك، لفهم ما الذي يفعله برنار هنري ليفي في مضائق وادي بنجشير؟
نعم، يكفي لوضع عنوان للمرحلة، لكنه أعجز من أن يلم بالتفاصيل.
ففي تلك المنطقة يتم التحضير لمقاومة ضد سيطرة حركة "طالبان" على البلاد، بعدما "ابتعدت" عشرين عاماً، وعادت في عشرين يوماً، بفضل حضور الأميركيين أولاً، وبسبب غيابهم ثانياً.
لكن، وبناء على التجارب السابقة، خصوصاً ما جرى في البلاد العربية بعد عام 2011، فإن الوصفة التي يقدمها برنار هنري ليفي هي "تعويذة فوضى" وليست "معادلة تغيير". ففي ذلك الوقت أطلقت عليه صحيفة "غارديان" البريطانية، صفة "وزير الخارجية الفرنسي الثاني"، الأمر الذي كان يحرج وزير الخارجية الأول أو الرسمي في حينه آلان جوبيه.
ولعل التجربة الليبية تقدم مثالاً واضحاً عما جرى هناك بعد إسقاط نظام القذافي. وبحسب "نيويورك تايمز" فإن الرجل مثّل قوة ضغط كبيرة على الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي للقيام بدور (من ضمن إطار دولي) لصالح مناهضي القذافي، انتهى إلى إدخال البلاد في أتون فوضى مدمرة ما زالت آثارها فاعلة أو ماثلة. وكاد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، خلال زيارة قام بها في يوليو (تموز) العام الماضي إلى غرب البلاد.
ويبدو أن التونسيين أدركوا متأخرين قليلاً طبيعة الدور الذي قام ويقوم به هذا "الناشط الفرنسي"، فخرجوا إلى شوارع العاصمة عام 2014 مطالبين بإخراجه من بلادهم، ما اضطر رئيس الجمهورية يومها المنصف المرزوقي (المتحالف مع حركة النهضة الإخوانية)، إلى التنصل من الدعوة التي وجهها إليه.
"أمير الفراغ"
فمن هو برنار هنري ليفي، الذي يتردد اسمه في عالم الفلسفة والفكر، وفي ميادين السياسة والثورات، وفي مسارح الفنون أيضاً؟
خلال السنوات الماضية، وعلى وجه التحديد خلال سنوات ما سمي "الربيع العربي"، اختصر كثر دور ليفي بأنه "المرشد الروحي/ الفلسفي" للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خصوصاً، وللسياسة الخارجية الفرنسية عموماً. ولكنه اختصار يعتريه خلل الابتسار. فالبحث في حقيقة هذا الرجل (السياسي والفيلسوف)، ليس بحثاً في السياسة، ولا في الفلسفة. إنه ببساطة محاولة لمقاربة سلوك وفكر رجل، عبث بالسياسة والفلسفة معاً، وصفق له جمهور من "الثوار" العرب، اختلّت لديهم بوصلة السياسة والفكر.
والواقع إنه من غير المجدي إدانة هذا الرجل، الذي وقف في غرفة التحكم بسياسات أرفع مسؤول فرنسي في عام 2011 وبعده. مضيعة للوقت البحث في نتاجه وسيرته عما يثبت تهافته. فكل تهشيم فكري لطروحاته يجعله يذوب طرباً، وكل شتيمة لسلوكه تدفعه إلى الرقص فرحاً. هو نفسه ينهال على نفسه بتوصيفات مقذعة (...).
من دون أن تبحث عنه تجده أمامك: في المنتديات الثقافية، والبرامج الحوارية، وأخبار الثوار والميادين.. وأيضاً في صفحات الكتب، ومنها واحد عنه بقلمه. هو جوهر "الخديعة الثقافية" بحسب تسمية فلاسفة كبار مثل جيل دولوز وجاك دريدا، و"أمير الفراغ" بحسب تسمية الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس، أو "منظّر الربيع العربي" كما يحلو لمثقفين "وثوار" عرب تسميته.
برنار هنري ليفي مثال حيّ على التهافت.
منذ أن صك الإمام أبو حامد الغزالي هذه العبارة، ورد عليه معاصره ابن رشد بمثلها، لم تعد هناك حاجة إلى استعمالها. لكن بعد قرون من المساجلة بها وحولها، بين فلاسفة عرب ومسلمين، تبدو، اليوم، عنواناً شيّقاً للاشتغال الفلسفي الغربي، خصوصاً ما ينتجه تيار الفلاسفة الجدد في فرنسا الذي يتزعمه "المرشد" برنار هنري ليفي.
لسبب ما اشتهر هذا "الفيلسوف" بين العرب، منذ تصدره في أواسط سبعينيات القرن الماضي المشهد الثقافي الفرنسي، متحركاً مع رهط من أصحابه في مساحة يسارية انتقادية. لكن سرعان ما سوف تتبدى المكوّنات العنصرية في فكر ليفي، والتي سوف تصبح أساساً لنزعة عدائية.
منذ صدور كتابه "البربرية بوجه إنساني" عام 1977، احتل برنار هنري ليفي (مع شريكيه آلان فينكلروت وأندريه غلوكسمان) المنابر والشاشات، لتقديم جوهر فكره من خلال "كليشيهات" كانت سهلة التناول والهضم. فهو يتوجه بخطابه أساساً إلى جمهور، تحكمت فيه عقدة الذنب التي سببتها النازية الألمانية، ويحتاج إلى ذلك المسوّغ الذي يجعله يتقبّل ممارسات شبيهة تجري أمام أعينه على الشاشات. وقد قدّم ليفي، لهذا الجمهور صيغة سحرية لتلاوة فعل الندامة على أفعال جرت قبل أجيال ولم تكن نيابة عنه أو باسمه أصلاً.
والواضح أن ما يعبر عنه ليفي ليس مجرد موقف سياسي آني، تستدعيه الحاجة ويفرضه الحدث. بل هو رؤية تأصيلية... بل ـ بلغة أوضح ـ هو خطاب أصولي غربي، له مرتكزاته الفكرية، وتبريراته الفلسفية. هو، بكلام آخر، "الأصولية المضادة" بكل تجلياتها، والتي لم تكن يوماً مجرد رد فعل غير منطقي، أو استجابة منطقية لأصولية سبقتها.
غير أن البناء الفلسفي الذي شيّده ليفي، وتيار الفلاسفة الجدد، كان منذ بداياته هشاً وركيكاً، على حد تعبير جيل دولوز (1926 ـ 1995)، الذي رأى أن فكر هؤلاء هو "عديم القيمة، وقد أدخلوا فرنسا في التسويق الأدبي والفلسفي". بل إنهم ـ والكلام لدولوز ـ أعادوا إنشاء وظيفة المؤلف الفارغ واعتمدوا مفاهيم ضخمة عديمة المحتوى غارقة في الثنائيات.
فالرحابة الفكرية الفرنسية المعهودة تعيش منذ عقود أسيرة للفلسفة الشعاراتية التي أغرقها بها ليفي ورفاقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فضيحة فكرية
يعطي خصوم ليفي مثالاً على السطحية الفكرية في اشتغالاته، مستندين إلى كتاب يشبه الفضيحة أصدره بعنوان "عن الحرب في الفلسفة... أو الفلسفة كساحة حرب وصراع"، كرّس معظمه للتهجم على فيلسوف التنوير إيمانويل كانط (1724 ـ 1804)، معتبراً أنه تجريدي مهووس بالمصطلحات العويصة بسبب من ميوله الجنسية الشاذة. والمفارقة أن ليفي اعتمد في أحكامه على كتاب فبركه صحافيون ساخرون بعنوان "الحياة الجنسية لكانط" وابتدعوا اسماً لمؤلفه هو جان باتيست الذي ألقى "سلسلة محاضرات في الكانطيين الجدد في البارغواي"، فأصبح، هذا الكتاب المفبرك، مرجعية لا يشق لها غبار عند برنار هنري ليفي.
انطلت الحيلة الساخرة على فيلسوف فرنسا المعاصر، فراح ينطلق منها في دروسه الفلسفية، من دون أن يدري أن هناك من سيحفر وراءه لكي يكتشف ضحالات أخرى في اشتغاله، لعل أكثرها مثاراً للسخرية كان استشهاده بشعر لرامبو بينما هو في واقع الأمر لمالارميه.
هذا هو برنار هنري ليفي، الفيلسوف العتيد، الذي ذاع اسمه من مدينة بنغازي الليبية خلال ثورتها ضد العقيد، والذي رعى مؤتمراً للمعارضة السورية في باريس، والذي يقول عن نفسه ما لم يقله مالك في الخمر. ففي كتاب "أعداء الشعب" (عنوان الطبعة الإنجليزية التي صدرت عام 2014)، ينشر ليفي وصديقه الروائي ميشال ويلبيك مراسلاتهما حول قضايا متنوعة، يستهلانها بالقول: "نحن كلانا شخصان محتقران". يقول ويلبيك عن صديقه إنه "فيلسوف بلا فكرة أصيلة ولكن لديه ارتباطات ممتازة".
الإبهار الإعلامي
يبدو أن ليفي، الوريث الثري، والناشر، ورجل الأعمال، والسينمائي، والروائي الفاشل، والمستشار السياسي، يحمل خطأ لقب فيلسوف. وهو لقب صنعته وسائل الإعلام له منذ أن أطلق في عام 1976 حركة الفلسفة الجديدة في فرنسا. وهي حركة لم تضف إلى، ولم تلغ من، المنجز الثقافي الفرنسي العريق. ومن يراجع قائمة مؤلفات ليفي الـ 38 خلال الـ 38 عاماً الماضية، يلاحظ أن أكثر من 30 منها هو تجميع لمقالات سياسية مباشرة، وإن الكتب الفكرية الباقية كانت سطحية بشكل عام ابتداء من كتابه الأول "البربرية بوجه إنساني".
جلد الذات الذي يمارسه ليفي (وصديقه) في كتابهما المشترك، هو نوع من تحصين النفس ضد الهجمات الجادة، التي تكشف عوراته السياسية وتدحض منظومته الأخلاقية. فسليل العائلة اليهودية، المولود في المستعمرة الفرنسية الجزائر، تروق له كثيراً صورة الفيلسوف أندريه مالرو إلى جانب الجنرال ديغول، على رغم بعد المسافة بينه وبين صاحب "الشرط الإنساني" كما هي المسافة نائية بين محرر فرنسا وأغلب من خلفه.
خبرة ليفي الفلسفية لا تتجاوز لعبة البروباغندا السياسية. فقد حقق نوعاً من التزاوج بين وهم الفلسفة وصلف السياسة. وهي تركيبة لها معادل آخر في شخصية ليفي، هي الجمع بين يسارية الفكر الفلسفي وعنصرية الموقف السياسي. وليس مهماً أن تكون تلك المعادلة قابلة للحياة، لكنها كانت ضرورية جداً لتسويغ سياسات حكومية في الداخل والخارج.
ومع ذلك لم ينتبه كثير من المصفقين العرب لبرنار هنري ليفي، أنه عند نقطة معينة تتوقف "إبهاراته" الإعلامية. أو بشكل أوضح تتضح بأنها شخصيته المصنوعة التي "يبيعها" للعرب. أما شخصيته الحقيقية فتظهر في تلك الأنقاض التي تتراكم منذ عام 2011 وحتى اليوم.