تطرح الناقدة هدى فخر الدين في كتابها "الميتا شعرية في التراث العربي، من الحداثيين الى المحدثين، كشفٌ وتأصيل" (ترجمته عن الإنجليزية آية علي، وصدر عن دار "أدب" السعودية، 2021)، جديداً في النقد، ومن منظار نقدي، وعبر مسارٍ منطقي ومنهجي بيّن. والناقدة اللبنانية هي أستاذة الأدب العربي والنقد في جامعة بنسلفانيا، ولها مؤلفات عدة بالإنجليزية والعربية.
تستهلّ الناقدة كتابها بعرض إشكالية الأطروحة، التي تكمن في محدودية النقد في عالمنا العربي، وعجز المنهج التاريخي عن إحداث الخرق المطلوب في إدراك خصائص الحداثة النسبية للشعر العباسي، والإسقاطات والربط القاصر بين الحدود الزمنية والحداثة والمعاصرة. وأعانتها على سلوك بحثها لإماطة اللثام عن بعض الكشوفات الكبرى، في الشعر العربي العباسي، بيئة علمية حاضنة ومشرفون، وعلى رأسهم سوزان ستيتكيفيتش، الباحثة المتخصصة في الشعر العباسي، وياروسلاف ستيتكيفيتش ومايكل سيللرز، وغيرهم، من أساتذة جامعة بنسلفانيا. مثلما أعانها منهج في النقد بينيّ، أي متشكّل من ميادين عدة، على رأسها المنهج الموضوعاتي والدلالي والسيميائي، على إمعان النظر في التحوّلات العميقة، لا السطحية، الحاصلة في الشعر العباسي والتي يمكن إدراجها في باب الحداثة.
تحدّيان نقديان
إذاً، يُستفاد من الكتاب البحثي أن المؤلفة هدى فخر الدين كانت إزاء تحدّيين كبيرين، وربما أكثر: أولهما إثبات أن ثمة مغالطة أو خطأ في مسلّمة النقد العربي (وربما الأجنبي) عند تناوله الشعر العربي العباسي يقوم على الربط الجائر بين الشعر العربي القديم، نسبة إلى زمن كتابته أي العصر العباسي الأول (القرن الثامن والتاسع ميلادي)، وبين صفة التقليد التي ربما لا تبارحه، في مقابل صفة التجديد والتحديث التي تطلق بصورة تلقائية على الشعر العربي المنظوم في زمن قريب. أما التحدي الثاني، فهو إثبات أن منطلقات المنهج النقدي (التاريخي) خاطئة ما دامت أعجز عن إدراك التحوّلات والدلالات العميقة في الخطاب الشعري، وفي بنية القصيدة العربية العباسية، في آن. ولمّا كان ذلك لا يتحقق إلا بإمعان النظر في بنى الشعر العباسي العميقة، لا سيما المواضيع أو الموتيفات (الأغراض الشعرية)، اختارت الباحثة هدى فخر الدين أن تركّز بحثها على الميتا شعرية أو ما وراء الشعرية، وتجلّياتها في نتاج الشاعر أبي تمّام، على سبيل المثال، ونموذجاً يمكن تعميمه على سائر الشعراء العباسيين، من الجيل الأول، من مثل ابن الرومي والبحتري وعبيد الله بن طاهر.
في المبحث الأول من الكتاب، تجهد المؤلفة في التعريف بالميتا شعرية في التراث الشعري العربي، فتورد ما مفاده بأن المصطلح يعني، من منظور المنهج الموضوعاتي، أن يتحدّث الشاعر، في شعره، عن الشعر نفسه، وأن يضمّنه كذلك تصوّره عن مكانته الاجتماعية ورؤيته للعالم، في ما وصفته الباحثة الأميركية بالشعر، بينما صنّفه الألمان، لا سيما ألفريد ويبر، بأنه شكل (self-reflected) دوروتي بيكر المنعكس ذاتياً ما دام يتحدث عن أحوال ذات الشاعر، ويعيّن حدود Poetologische-lyric متميّز من الشعر الغنائي الصلات بينه وبين مجتمعه، والظواهر التي ينوي التفاعل معها، أو يزمع ردّها.
ولمّا كان البحث يستوجب منها التثبّت من صلاحية المصطلح (الميتا شعرية) ومن إمكان انطباقه على مدوّنة الشعر العباسي، قصدت المؤلفة فخر الدين درس الشعر الحرّ (أو التفعيلة) لتتحرّى وجود الميتا شعرية فيه، فتبيّن لها، لدى استعراضها نماذج الشعر الغربي الحديث، أنه كان ثمة ميل بارز إلى تسويغ الشاعر كتابته الشعرية، وذلك من خلال المزيد من النصوص الشعرية التي يضمّنها رؤيته للشعر وللعالم. وازداد هذا الميل مع اطّراد النزعة الرومنطيقية، وبحسب المؤلفة، شهدنا تحوّلاً من النظرية في الشعر (من أرسطو، إلى عصر النهضة والعهد الفيكتوري) إلى النظرية كشعر، على حدّ قول رينه ويلّك. حتى كان النمط الغنائي في الشعر، الذي يحاكي الذات، ويستغرق في تأمّله الطبيعة والشعر، واستحق بذلك أن يطلق عليه رينيه ويلّك وصف "الميتا شعرية". (ص:52)
شعراء أوائل
ولمّا أنست الباحثة فخر الدين من مصطلحها، وتثبّتت من صلاحيته، مضت إلى مدوّنة الشعر العربي الحر، واستنطقت الدراسات التي تناولته، لا سيما تلك التي تنسب ظاهرة "الميتا شعرية" فيه إلى الغرب، وإلى بعض الشعراء الأوائل فيه (مثل ويليام كارلوس وليمز، ت.إس. إيليوت، ويليام.ب. ييتس)، "الذين هدموا الحاجز الفاصل تقليدياً بين الشعر والنقد... والذين وضعوا الأسس لنوع جديد من الشعر يُعرف الآن بالميتا شعرية". ولعلّ أول من أدرك هذا الميل في الشعر العربي الحديث، متأثّراً بما لدى الشعر الغربي، شعراء مجلة "أبولو" وعلى رأسهم، أحمد زكي أبو شادي، مثل ما يُنسب إلى شعراء الحداثة، من أمثال عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة ويوسف الخال من بعدهم وشعراء مجلّة "شعر". وفي السياق التاريخي عينه، تتنبّه المؤلفة إلى أن الإطار النظري لحركة الشعر الحر الذي يتكوّن من كتابات نقدية ومحاضرات وافتتاحيات لمجلات مهمة، أبطل صفة العفوية عنها، وجعلها "ثورة في شكل القصيدة، وبياناً متعمّداً من لدن الشعراء المنظّرين للحركة"(ص:66). بالتالي، يمكن اعتبار ظاهرة "الميتا شعرية" الماثلة في أشعار هؤلاء الشعراء، تحصيلاً للحاصل، وتحقيقاً لوعيهم آليات الكتابة الشعرية، وصلتهم بالتراث وبمجتمعهم ومكانتهم فيه، وغيرها من الموتيفات التي تتحكّم بصوغ نصوصها.
ولكن بيت القصيد، في الدراسة، كان بالتفاتة المؤلفة إلى العصر العباسي، وإلى الشاعر أبي تمّام طمعاً في التحقق من فرضية مفادها بأن ظاهرة "الميتا شعرية" ماثلة في التراث الشعري العربي، وبصورة خاصة في الشعر العباسي العربي الحداثي، وأن نشأتها منوطة بأمور يجري التعرّف إليها من سياقات المدوّنة الشعرية، وليس من التصنيفات التاريخية التي أثبتت عقمها، على ما بيّنته المؤلفة في مقدمة الكتاب. ولم تزَل الباحثة هدى فخر الدين تتقصّى متون الشعر الجاهلي وأبي تمّام، والدراسات عنهما، فتتبيّن لها الأمور الآتية: أن النقلة من الشفاهية التي ميّزت الشعر الجاهلي، إلى الكتابية التي طبعت الشعر العباسي ضاعفت من وعي الشاعر لأدواته وتجربته الشعرية، وأن التحوّل العميق في الشعر العباسي- الذي أكسبه صفة الحداثي- حصل من خلال ظاهرتين: الأولى أسلوبية، وتتمثّل في "البديع" أو النزعة إلى التجديد في الصور الشعرية وابتداع أجواء ومناخات في الشعر العربي لم تكُن، بفضل الثقافة الموسوعية والفلسفية المتوافرة للشاعر العباسي أبي تمّام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا البديع لصاحبه أبي تمّام الحداثي، وإن لاقى استهجاناً ونفوراً من قبل النقّاد، حرّاس التقليد، مثل الآمدي والقاضي الجرجاني وغيرهما، بحجّة اتّسامه بالصنعة في مقابل الطبع، فإنه ما لبث أن حاز أوّليته واعتباره من نقّاد علماء آخرين، مثل عبد القاهر الجرجاني. وأن التحوّل الموضوعاتي الكبير، في الشعر العباسي، لا سيما شعر أبي تمّام، إنما حصل في تعديل النظرة إلى أركان العمود الشعري القديم، فبدلاً من استعادة الوقوف على الأطلال، في صيغته الجاهلية، يعمد الشاعر العباسي إلى تجاوز فعل استحضار المكان الأول والحبيب الأول، إلى جعله تصوّراً نموذجياً يحسن أن يستهلّ به الشاعر قصيدته، من دون أن يؤثّر في بنية مضمونه، ولا في الغرض الأساسي منها.
ومن الخلاصات المستفادة من الكتاب – وهي كثيرة - أن الشاعر العباسي أبا تمّام (وصحبه، من مثل بشار بن برد وأبي نواس والمتنبّي، لاحقاً) لم يتوانَ عن صوغ وعيه ذاته وشعره شعراً، بالتالي توفّرت لديه النصوص الميتا شعرية بأجلى صورها. وهذا مما يستدعي إبطال فرضية أن الميتا شعرية هي ظاهرة شعرية مجلوبة من الغرب، ويحيي فرضية أن الميتا شعرية إنما هي لازمة لكل شعر، وبغضّ النظر عن زمن حدوثه، ومكانه.
إن من ألزم خصائص النقد الجاد والجدّي أن يكون "بعيداً من الهوى" على حدّ قول عبد القاهر الجرجاني، ومن أدقّها أيضاً أن يخرج الناقد، الناظر في الأدب، شعراً ونثراً، بمعارف جديدة لم يُسبق إليها، ويحدث بمعارفه نقلة نوعية في النقد، يُعرف بها، بعد أن حاز قصب السبق فيها. وذلك كلّه بوساطة منهج علمي موضوعي، يتوخّى النظر في متن المدوّنات، وإمعان التفكير والمقارنة، قبل المجازفة بالتعميم الخائب والبلوغ إلى الخلاصات المصاقبة للمتون والمخالفة للظنون.