جلست المستشرقة الصقلية فرانشيسكا كرّاو أيام دراستها الأولى أمام المستشرق الكبير فرانشيسكو غبرييلي تستمع بشغف إلى ما يقرأه من الشعر العربي القديم. لم تشعر بأن إيقاع هذا الشعر وعوالم بواديه بعيدة عنها، ثمة ألفة تربطها به جعلتها تشعر بظلم المقارنة التي عقدها أستاذها بين هذا الشعر والشعر اليوناني القديم. فرانشيسكو غبرييلي عميد المستشرقين الإيطاليين، كان قد كتب مقدمة المجلد الذي أصدره معهد الاستشراق العريق في نابولي عام 1964 تكريماً لعميد الأدب العربي طه حسين صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي"، وكان يرى هذا الشعر الجاهلي سطحياً وبدائياً مقارنة بالشعر والدراما اليونانية القديمة. شعرت الباحثة الشابة بأن ثمة خطأ ما في تقدير أستاذها للشعر العربي، إذا كان هذا الشعر قادراً على أن يشغفها حباً فهو بلا شك ينتمي إليها وتنتمي إليه بشكل أو آخر. هذه اللحظة كانت بداية الرحلة العلمية للمستعربة ابنة صقلية التي كرست حياتها لدراسة الثقافة العربية وآدابها. وهي كذلك سر تميز دراساتها العربية التي تتجاوز الهدف القريب، وهو نقل الثقافة العربية وآدابها إلى لغتها لتعريف القارئ الأوروبي بها، إلى البحث الدؤوب عن المكونات العربية داخل الثقافة والآداب الأوروبية بشكل عام، والأدب الإيطالي بشكل خاص، والصقلي بشكل أخص.
تنطلق كرَّاو من حقيقة يقرها تاريخ الحضارات، لاسيما المتوسطية، وهي أنه لا يمكن لحضارة أن تبدع جديداً إذا كانت منعزلة عن محيطها الحضاري، وهي اليوم الأساس الذي تقوم عليه المدن الكوزموبوليتانية في الغرب حيث لا مجال للتعددية في الفضاء العام ما لم يكن هناك إدراك ووعي بالتعددية في فضاء الذات. يتجلى هذا التوجه العلمي في كل دراساتها، مثل دراستها حكايات جحا، وتقديمها جحا الصقلي، كما يظهر في كتابها الذي نعرض له هنا، والذي صدر حديثاً بعنوان "فرسان، وسيدات، وصحراوات" والكتاب أنطولوجيا ذات طبيعة بانورامية للشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى نهاية القرن العشرين، لم تتوقف فيه عند تقديم تاريخ الشعر العربي وبعض نماذجه المبهرة فقط بل تجاوزته إلى البحث في تأثيره في الشعر الأوروبي.
الكتاب، كما تقول الكاتبة نفسها في الخاتمة، هو "نظرة عامة سريعة على المؤلفات الشعرية ومؤلفيها" والتي، على الرغم من عموميتها، "تُظهر مدى الخصوبة والتنوع في الإنتاج الشعري العربي في الماضي، كما تظهر أنه ما زال كذلك في الحاضر". (ص 182).
الهدف الأول من هذه النظرة العامة والشاملة بامتداد تاريخ الشعر العربي هو مشاركة القارئ الإيطالي دهشة الكاتبة، منذ كانت في بداية دراستها وهي تحاول تعميق معرفتها فيه بلغته الأصلية. وتقول: "لقد اكتشفت إنتاجاً هائلاً ومتنوعاً من مساحة جغرافية شاسعة على مدى خمسة عشر قرناً". حيث التقت وجهاً لوجه، وليس من خلف حجاب الترجمة بقصائد ذات جمال استثنائي "تخاطب قلب البشرية ولا يزيدها مرور الزمن إلا انفتاحاً وعطاء".(ص 7).
سردية الذات
يُقال إن المواجهة بين الهويات المختلفة هي العنصر الحاسم في إنتاج سردية للذات على المستوى الفردي والجماعي، والبحر المتوسط هو أقدم فضاء، تاريخياً وسياسياً وحضارياً، تشكلت داخله الهويات في إطار العلاقات الجدلية بين الذات والآخر. ومنذ آلاف السنين كان الشعر أحد أهم مظاهر إنتاج الهويات في فضاء المتوسط، حيث ظل ينتقل بين ضفافه ناثراً بذور هوية متوسطية جامعة للثقافات التي تحتضن البحر العتيق من كل جانب. وهذا هو الهدف الثاني من جمع هذه المختارات بين ضفتي كتاب، وهو قدرتها على إدخال ضفتي المتوسط في حوار. تقول كرَّاو: "يقدم هذا العمل تلك المشاعر المشتركة بين البشر على ضفتي البحر الأبيض المتوسط ، التي ساهمت في رسم مصائر العديد من الأشخاص منذ سرد هوميروس رحلة أوديسيوس". (ص 11).
هذه الرؤية التي تقدمها الكاتبة مغايرة تماماً للرأي السائد في أوروبا الذي يعتبر أن الأدب العربي بعيد كل البعد عن الأدب الغربي، وقد لا يخطر ببال واحد من ألف، من قراء الأدب الأوروبي أن لهذا الأدب علاقة بالأدب العربي، فقد استقر في الأذهان، أن الأدب الغربي ترجع أصوله إلى الأدبين اللاتيني والإغريقي، وقليل من المستشرقين والباحثين يرى في الأدب العربي أصلاً من أصول الآداب الأوروبية الحديثة، كالمستشرق الإنجليزي هاميلتون جب الذي يؤكد أنه: "في آخر القرن الحادي عشر ظهر فجأة طراز جديد من الشعر الغزلي في جنوب فرنسا، كان جديداً في موضوعه وفي أسلوبه ومعانيه، ولم يكن لهذا النوع من الشعر أساس في الأدب الفرنسي القديم: وهو يشبه الشعر الأندلسي شبهاً قوياً جداً، إذ هو ضرب من الموشحات والأزجال الأندلسية الغنائية التي تدور موضوعاتها على الغزل والحب العذري". ثم يتساءل: "أليس من المعقول إذن أن نرد هذا الضرب من الشعر الفرنسي الجديد، إلى الشعر العربي الأندلسي، بخاصة إذا علمنا أن نظرية "الحب العذري" التي يدور عليها هذا الشعر الفرنسي الجنوبي، ليس لها أصل في الأدبين اللاتيني والإغريقي؟ وليس الأمر مقصوراً على الشعر الفرنسي، ولكن الشعر الإيطالي أيضاً تأثر تأثراً قوياً بالشعر العربي في صقلية، وبخاصة في عهد "فريدريك الثاني" الألماني".
ترى الكاتبة أنه لكي يظهر هذا الأثر للشعر العربي بشكل كامل، ولكي يعلن عن قدرته على لمس قلب كل إنسان والاستمرار في الانخراط في الحوار مع تراث الشعر الأوروبي، كان من الضروري مراجعة الترجمات الكلاسيكية لهذا الشعر وإعادة تقديمها بلغة تلائم الذوق المعاصر يسهل فهمها وتأمل جماليات هذا الشعر من خلالها. وهذا الهدف من هذه الأنطولوجيا الشعرية الجديدة يمكنني القول إن فرانشيسكا كوراو نجحت فيه تماماً وتمكنت من فتح آفاق جديدة لقراءة هذا التراث الشعري في قاعات الدرس وخارجها. حيث لم تعد اللغة القديمة للترجمة تجسيداً للهوة الزمنية بين هذا الشعر وبين الذوق المعاصر، فالقارئ لا يشعر بأنه يستمع إلى صوت نساء ورجال عاشوا قبل عشرات القرون، ولكن صوت نساء ورجال في عصرنا ممن عاشوا تجارب مماثلة لأولئك وقد تكون لدينا أو عشناها.
هكذا، مع لغة متجددة أقرب إلى الحساسية الشعرية المعاصرة، تسترجع المؤلفة تاريخ الشعر العربي بأكمله من عصور ما قبل الإسلام حتى يومنا هذا، وتخصص فصلاً لكل عصر وتحافظ دائماً على تقديم كل مرحلة شعرية تاريخية أو جمالية من منظور الحوار بين الآداب والثقافات والذي يمكن اعتباره المفتاح الحقيقي لقراءة الكتاب. فهي تحاول في هذه المختارات أن تجد، في الأدب العربي عموماً والشعر بشكل خاص، نقاط الالتقاء والإثراء المتبادل الذي كان حاضراً في جميع العصور بين الحضارتين.
تحقيقاً لهذه الغاية، أعطت كرّاو مساحة واسعة للشعر الأندلسي وتأثيره في الغناء والموسيقى في غاليسيا والبرتغال، وكذلك في الشعر البروفنسالي. كما خصصت مساحة واسعة أيضاً للشعر العربي في صقلية. وأسهبت في تقديم السمات البلاغية للشعر العربي الكلاسيكي التي يمكن العثور عليها كثيراً في الشعر الصقلي. هذا إلى جانب موضوعات هذا الشعر التي أفردت لها صفحات مطولة مثل: الانفصال والفراق، والعتاب والمصالحة بين الحبيبين، وصرعى الغرام. وقدمت أشهر الاستعارات في إطار كل موضوعة من هذه الموضوعات. تكتب كرّاو: "في البيئة الصقلية، هناك اتصال أكثر حميمية وديمومة بين العالمين، وكان للراوية وظيفة مباشرة في نقل فكر العالم الكلاسيكي، بين ضفتي المتوسط". (ص 85).
إذا كانت المؤلفة قد ركزت في فصول الكتاب الأولى على تأثير الشعر العربي في شعر الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط وأدبه، فإنها في الفصول المخصصة للشعر العربي الحديث سلطت الضوء على مدى أهمية تأثير الآداب الغربية فيه، وتربط مثلاً راسين ولافونتين وأونغاريتي بأحمد شوقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أنها في الفصل المخصص للشعر العربي المعاصر حاولت إبراز أن الحوار المستمر بين الثقافتين يمر عبر عالمية المشاعر الإنسانية في كل زمان ومكان. يتجلى هذا بشكل خاص في شعر محمود درويش، الذي تقول المؤلفة عنه: "تكمن عظمة درويش في استحواذ شعره على رواية الألم الكوني لمنفي فقد وطنه حتى أصبح رمزاً للجميع. لكل البشر المجبرين على مغادرة وطنهم" (ص 172).
واتساقاً مع المدخل الذي اختارته لقراءة الشعر العربي تختتم كرّاو مختاراتها الشعرية بالدفاع بقوة عن "عروبة" الشعراء العرب الذين يعيشون اليوم خارج العالم العربي، ويمثلون شتاتاً عربياً جديداً حتى لو كانوا يكتبون نصوصهم الشعرية باللغات الأوروبية التي يعيشون في بلادها، وهم، بحسب كرّاو، مصدر إثراء وتجديد أساسي لكل الشعر العربي، وعامل قوي لاستمرار الحوار الجمالي بين الثقافات. تقول كرّاو:
"تراث الصور الشعرية لهؤلاء الشعراء واستعاراتهم مستمدة من التراث العربي الإسلامي، إلى جانب ثقافة البلدان التي تستضيفهم والتي تشكل الحياة فيها خبرتهم الإنسانية والجمالية" وكأن الحوار الذي كان قائماً بين ضفتي المتوسط وصل إلى منتهاه بين جنبات صدر شاعر واحد. فالكتابة بلغة أخرى أو من مكان آخر تقود الشاعر إلى أن يكون له منظور مختلف، وأن ينظر إلى الواقع حتى بعيون الآخر". (ص 176-177).
تختتم كرّاو رحلتها عبر تاريخ الشعر العربي بالقول: "إن القراءة المتأنية تظهر أن الشعر العربي عالمي بلا شك، وأنه، كالماس، قادر على التقاط كل جانب من جوانب الإنسانية". وماذا غير الشعر يمكنه أن يساعدنا على معرفة إنسانية الآخر التي يمكن أن تساهم في تطوير إنسانية جديدة وخلقها". (ص 183).