كان يذرع غرفة مكتبه طولاً وعرضاً ويقلب نظره بكل الاتجاهات، ويتمتم بكلام فيه من الغضب كثير ومن السباب أكثر، يفتش عن طريقة لاستيعاب الخبر الذي وصله قبل دقائق وهز أركان كيانه، وقد يهز موقفه أمام آخرين يحاورهم ويفاوضهم على ما في أيديهم من ملفات على علاقة بانتهاك حقوق الإنسان والحريات في النظام.
هكذا كانت حال الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي لحظة وصله خبر مقتل الصحافية الكندية من أصل إيراني زهراء كاظمي في سجن إيفين، في وقت كان ينتظر أن يقفل الملف ويطلق سراحها في محاولة لتخفيف الضغوط الدولية في ملف الاعتقالات وسجن الناشطين الإعلاميين والسياسيين، بعد أن تحول إلى سيف أشهره المجتمع الدولي في وجه الفريق الإيراني الذي كان يجلس إلى طاولة التفاوض حول الملف النووي مع "الترويكا" الأوروبية حينها.
تقدير إيراني خاطئ
عندما خرجت فضيحة سجن أبو غريب العراقي إلى وسائل الإعلام والرأي العام بعد تسريب جنود صور التعذيب الذي كان يمارسه جنود أميركيون بحق المعتقلين العراقيين، وحجم الإذلال والإهانات التي تعرض لها السجناء على أيدي السجانين من رجال ونساء، من أساليب تعذيب وما فيها من اغتصاب وتكديسهم عراة أمام أنظار بعضهم بعضاً، لم تتردد وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية في استغلال الحدث وتضخيمه والنفخ فيه وتوظيفه للرد على الاتهامات التي توجه إلى الأجهزة الأمنية الإيرانية، وتبرئتها مما يدور من اتهامات حول ما يجري من انتهاكات لحقوق السجناء المدنيين والسياسيين، وكأن الجهات الرسمية المعنية بالسجون وما يدور خلف جدرانها من انتهاك لأبسط الحقوق الإنسانية والتعاليم الدينية والأخلاقية التي تشكل أحد أبرز عناوين إسلامية النظام، غاب عن تقديرها بأن يوماً سيأتي وستكون في الموقف نفسه الذي وقفته الإدارة الأميركية جراء تسريبات سجن أبو غريب.
إلا أن الأولى، أي واشنطن، عمدت إلى محاكمة المتورطين والمقصرين بغض النظر عن الخلفيات التي أجبرتها على ذلك، سواء أكانت لترميم موقفها في جانب حقوق الإنسان واستيعاب الأصوات الداخلية للرأي العام الأميركي الرافضة هذه التصرفات، أم محاولة لامتصاص غضب الشارع العراقي، في حين أن أجهزة النظام الإيراني لم تفعل أي شيء، حتى إن الجهات المسؤولة عن قتل زهراء كاظمي لم تكلف نفسها عناء تقديم اعتذار من أهلها أو من الحكومة الكندية أو الرأي العام، حتى إن الدولة العميقة منعت الحكومة الرسمية من تقديم مثل هذا الاعتذار.
ممارسات غير أخلاقية
التسريبات المصورة التي خرجت إلى العلن ونشرتها بعض وسائل الإعلام خارج إيران وعدد من مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها لم تنته بعد، مما يعني أن صورة ما يجري خلف جدران هذه السجون لم تكتمل بعد، فإن ما فيها من يدل على مؤشرات إلى عمق الفجيعة والممارسات غير الأخلاقية وغير الإنسانية وانتهاك لأبسط حقوق الانسان، ويصبح هذا المحتوى تفصيلاً أمام ما نشر من أخبار قبل أيام عن صدور حكم براءة بحق قاضي التحقيق سعيد مرتضوي المتهم بإصدار أحكام تعذيب حتى الموت، وانتهاك كرامة واعتداءات جسدية وجنسية بحق الشباب الذين جرى اعتقالهم في التظاهرات التي شهدتها إيران عام 2009 أبناء الثورة الخضراء، عندما جرى تجميع المعتقلين في سجن "كهريزك" المستحدث على الأطراف الجنوبية للعاصمة طهران، وحشرهم تحت أشعة الشمس الحارقة في مستوعبات حديدية وتكديسهم فوق بعضهم من دون أن يساورهم والجلادون معهم أي خوف من موتهم اختناقاً، وهو ما حدث بالفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد تحولت هذه القضية حينها إلى أحد أهم وجوه المعركة التي خاضها الشيخ مهدي كروبي في وجه السلطة القضائية ومن ورائها المرشد الأعلى، بعد أن تبنى قضية الشباب الذين جرى الاعتداء عليهم جنسياً بإشراف من القاضي مرتضوي شخصياً، وقد استخدمها النظام كأحد الأوراق لتسويغ قرار وضع كروبي في الإقامة الجبرية منذ ذلك التاريخ حتى الآن، في حين تبقى الاعترافات المتلفزة التي أدلت بها الشخصيات السياسية التي اعتقلت خلال اعتراضات العام 2009 في دائرة التساؤل والاستفهام، خصوصاً لجهة نوعية التعذيب وحجم التهديد الذي تعرضوا إليه لإجبارهم على تقديم هذه الاعترافات، وهي أساليب تعيد فتح الأسئلة حول صدقية كثير من الاعترافات المتلفزة التي أدلى بها مسؤولون سابقون منذ بداية الثورة، لم يصنفوا في خانة المعارضين السياسيين، بل ولتسهيل عملية إعدامهم اتهموا بالإفساد في الأرض والعمل على إطاحة النظام، ولم تشفع لهم بإبعاد حبل المشنقة من أعناقهم.
تداعيات التسريبات
قد يبدو مستغرباً أن يسارع المسؤول عن سجن إيفين إلى تقديم اعتذاره من الله والمرشد والشعب عن المشاهد التي سربها القراصنة الذين وضعوا شعار "عدالة علي" مع ميزان مائل، في إشارة ليس إلى الإمام علي بن أبي طالب الذي يشكل نموذج الحكم الإسلامي في العدالة والإدارة الذي يسعى النظام إلى تطبيقه، بل رسالة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي تهدف إلى القول بفقدان الحد الأدنى من العدالة.
صوّب القراصنة سهامهم إلى الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي ليس لكونه رئيس السلطة التنفيذية وحسب، بل بما له من صفة قضائية كان في جميع مراحل اشتغاله في القضاء جزءاً من المنظومة القضائية التي تشارك في الإشراف على السجون، وتصدر الأحكام بحق من يعتبرهم النظام متهمين باستهدافه.
المسارعة إلى الاعتذار قد تعني أن المسؤول عن هذا السجن، وهو سابقاً كان مسؤولاً عن سجن مدينة شيراز جنوب إيران حيث حصلت جرائم قتل أحد المعتقلين تحت التعذيب، يحاول قطع الطريق على التداعيات التي ستكشفها التسريبات اللاحقة التي بدأت بالظهور تباعاً، وأن يكون كبش فداء للمنظومة التي تقف وراءه ووضعته في هذا المنصب وهذه المسؤولية.
أسئلة مشروعة
هذا الاعتذار لم يحصل لو لم تكشفه عملية القرصنة هذه أمام الرأي العام، وبالتالي فهي محاولة لصرف الأنظار، لأن ما يمكن أن توصف به هذه الأحداث أنه جريمة تستدعي محاسبة عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين، فهل يمكن إنهاء ملف من هذا النوع باعتذار من مثل هذه الأعمال الشنيعة، وهل المطلوب من الرأي العام الإيراني القبول والاكتفاء بهذا الاعتذار، في حين أن الأجهزة القضائية أو الأمنية لا تقبل اعتذار أشخاص قاموا بأخطاء بسيطة لا يمكن مقارنتها مع هذا العمل؟ ولماذا لا تقبل أعذار المعتقلين الذين زج بهم في السجن ويتعرضون للتعذيب بسبب خروجهم في تظاهرات عام 2019، نتيجة قرار رفع أسعار البنزين؟ أو من الأشخاص الذين اعترفوا مكرهين بارتكابات سياسية وفكرية بدل أن يساقوا إلى المشنقة؟
قد تلجأ أجهزة النظام لتوزيع الاتهامات شمالاً ويميناً وتحميل أطراف خارجية المسؤولية عن عملية القرصنة، وقد يكون القراصنة قاموا بعملهم من الخارج، إلا أن ذلك لا يلغي أصل القضية ووجودها، كما حصل في عملية قرصنة جزء من أرشيف الأنشطة النووية وبعض أنظمة التشغيل لمؤسسات عامة أمنية وحكومية، وآخرها شبكة القطارات وسلسلة التفجيرات التي حصلت في بعض المنشآت الحيوية النووية والكهربائية والاقتصادية الأخرى.
بعض الأطراف الداخلية أيضاً لم تسلم من توجيه الاتهام وإن كانت في إطار التكهنات، وليست من جهة رسمية مثل الاتهام الذي وجه إلى رئيس السلطة القضائية الأسبق صادق لاريجاني وشقيقه علي لاريجاني بهدف الانتقام من أجهزة النظام التي عملت على إبعادهم من مواقع القرار، في حين وجهت اتهامات مماثلة للرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي سبق له أن هدد بفضح الممارسات التي تحصل خلف جدران سجن إيفين، اعتراضاً على اعتقال أقرب مساعديه مثل حميد بقائي ورحيم اسنفديار مشائي وعلي أكبر جوانفكر، إلا أن الخطر الأبرز لتداعيات عملية القرصنة هذه أن تعيد إلى الواجهة وبشكل كبير وقوي القانون الذي سحب من التداول خلال الأسابيع الماضية، والذي سبق أن بدأ البرلمان في مناقشته حول وضع قيود على استخدام الإنترنت في إيران، وتأكيد فصل إيران عن الشبكة الدولية وربطها بشبكة محلية تسمح بالتحكم في المحتوى والرقابة على المعلومات التي يجري تبادلها بين المستخدمين.