كاسحة الجليد العملاقة "لينين" تقف الآن في ركن من أركان ميناء مورمانسك، أكبر مدينة في العالم داخل الدائرة القطبية الشمالية. من عام 1959 إلى عام 1989، رافقت هذه السفينة الضخمة آلاف السفن عبر أكثر من نصف مليون ميل من الجليد القطبي الشمالي السميك، وهو ما يعادل رحلة ذهاب وإياب للقمر.
كما يليق بأول كاسحة جليد تعمل بالطاقة النووية في العالم، جرى تصميم "لينين" لإثارة الإعجاب، فهي تمثل فخر الأسطول التجاري السوفياتي، الذي أصبح الآن متحفاً عائماً، جرى تجهيزها بدرج متعرج أنيق من خشب البلوط وبيانو كبير في الغرفة الاجتماعية الفسيحة، حيث كان طاقم السفينة يجتمع للغناء خلال أمسيات القطب الشمالي الطويلة.
لقد تغير كثير منذ ذروة الرئيس لينين، فمع تسارع تغير المناخ، تتلاشى الظروف القطبية الهائلة التي جرى بناؤها لتحملها. ترتفع درجة حرارة القطب الشمالي أكثر من ضعف سرعة بقية الكوكب، ويقول العلماء إنه بحلول عام 2050، سيكون جزء كبير من المنطقة خالياً من الجليد في الصيف. وقالت وكالة الأرصاد الجوية الروسية العام الماضي، إن الغطاء الجليدي على طريق البحر في القطب الشمالي وصل إلى مستوى قياسي منخفض.
وبالنسبة لروسيا، يشير الذوبان السريع للصفائح الجليدية إلى فرص جديدة للشحن التجاري المربح على طول طريق البحر الشمالي، وهو ممر من شمال أوروبا إلى آسيا يروج له الكرملين كبديل أسرع لقناة السويس. الطريق، الذي يمتد لآلاف الأميال على طول ساحل القطب الشمالي لروسيا، يمكن أن يقطع ما يقرب من أسبوعين من رحلة من هامبورغ إلى طوكيو عبر القناة.
تلقى المشروع دفعة في مارس (آذار) عندما أغلقت سفينة حاويات ضخمة القناة المصرية ستة أيام.
تطوير القطب الشمالي ومشروع نفط عملاق
يُعد طريق البحر الشمالي عنصراً رئيساً في محاولة روسيا الأوسع نطاقاً، لتطوير القطب الشمالي، وعلى الرغم من أن موسكو تخطط لمشروع نفط عملاق في المنطقة، أعلنت الحكومة أخيراً عن هبة مجانية من الأراضي في محاولة لوقف هجرة السكان. وقال يوري تروتنيف، نائب رئيس الوزراء الروسي، "يجب أن نتقن ذلك، القطب الشمالي هو منطقة استراتيجية لروسيا، إنه يعطينا مجموعة كاملة من الاحتمالات الجديدة".
وزادت أحجام البضائع على الطريق بالفعل عشرة أضعاف خلال العقد الماضي، لتصل إلى 32 مليون طن العام الماضي. ويريد الرئيس فلاديمير بوتين أن يتضاعف هذا الرقم ثلاث مرات تقريباً بحلول 2024.
وتتكون معظم البضائع من النفط والغاز الطبيعي المسال وأنواع الوقود الأخرى من كندا والصين وروسيا. المفارقة القاتمة أن تغير المناخ الناجم عن اعتماد العالم على النفط والغاز قد جعل من السهل نقل نفس أنواع الوقود الأحفوري الملوثة عبر القطب الشمالي، وهو أمر لم تغفل عنه المجموعات البيئية.
التغير المناخي فتح الطريق
انحسار الجليد يعني أن الرحلات التي بدت ذات يوم وكأنها من قصص الخيال العلمي أصبحت الآن حقيقة واقعة. وفي عام 2017، أصبحت الناقلة "كريستوف دي مارجيري"، المملوكة لروسيا، أول سفينة تسافر عبر طريق البحر الشمالي دون مساعدة سفن تكسير الجليد في حين تستمر السجلات البحرية في القطب الشمالي في الانهيار هذا العام، ففي فبراير (شباط) تحديداً، وضعت ناقلة غاز روسية علامة بارزة جديدة عندما نفذت أول رحلة ناجحة لسفينة تجارية عبر طريق البحر الشمالي، وأكملت معظم رحلتها الشاقة ببخارها الخاص.
ويذكر أن شحن الناقلات على طول الطريق قد انتهى في السابق في نوفمبر (تشرين الثاني)، من كل عام، ولم يستأنف حتى يوليو (تموز).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي أكتوبر (تشرين الأول)، عادت "أركتيكا"، كاسحة الجليد التي تعمل بالطاقة النووية، والمصممة لتحطيم طوافات يصل سمكها إلى ثلاثة أمتار، من رحلتها الأولى إلى القطب الشمالي دون أن تكون قادرة على اختبار قدراتها. ببساطة، لم يكن الجليد سميكاً بدرجة كافية. وقال أوليغ ششابين، قبطانها، "لم تواجه كاسحة الجليد أي مقاومة على الإطلاق".
لكن الكرملين لا يكتفي بالنافذة المتزايدة للشحن في القطب الشمالي، فهو يريد أن يظل طريق بحر الشمال مفتوحاً طوال العام، وقد شرع في مشروع طموح لبناء كاسحات جليد جديدة تعمل بالطاقة النووية، في حين أن حزم الجليد التي تشكلت على مدار عديد من فصول الشتاء المتتالية قد اختفت تقريباً على طول ساحل القطب الشمالي لروسيا، فإن الجليد المنجرف، الذي يصعب غالباً اكتشافه، يمكن أن يؤدي إلى مخاطر جسيمة على الشحن.
وقال أليكسي تشيكونكوف، وزير تنمية القطب الشمالي الروسي، لوكالة "بلومبيرغ"، "نعتقد أن الملاحة يمكن أن تتم على مدار العام، ونحن لا ننتظر حتى يحدث ذلك من حيث المناخ". وأضاف، "نحن نبني أقوى أسطول من كاسحات الجليد النووية في العالم، إنه في الواقع الأسطول الوحيد من نوعه في العالم، فلا يوجد بلد آخر يمتلك حتى كاسحة جليد نووية واحدة".
تعزيز الشحن للقطب الشمالي
وفي أبريل (نيسان)، أشاد بوتين بالعمل على "لايدر"، وهي كاسحة جليد نووية بطول 673 قدماً مصنوعة من مواد "التشخيص الذاتي" و"الشفاء الذاتي" التي تخطط روسيا لإطلاقها في عام 2027. وقال بوتين إن "لايدر"، ستكلف روسيا نحو 1.1 مليار جنيه استرليني (1.5 مليار دولار أميركي)، على عكس أي كاسحة جليد جرى إنشاؤها على الإطلاق. وتخطط موسكو لبناء ثلاث سفن من هذا القبيل كجزء من محاولتها لتعزيز الشحن في القطب الشمالي.
ومع ذلك، يحذر دعاة حماية البيئة من أن سهولة الوصول إلى مياه القطب الشمالي تأتي مع مخاطر متزايدة على النظام البيئي الهش في المنطقة. وقال سيان بريور، كبير المستشارين في مجموعة "كلين آركتك ألاينس"، إن "تسرب وقود الشحن سيكون كارثياً في القطب الشمالي، وسيثبت أنه من المستحيل تنظيفه، في ظل الظروف الصعبة". كما أن للعدد المتزايد من السفن في المنطقة عواقب لا يمكن التنبؤ بها على الحياة البحرية في القطب الشمالي.
وقال أليكسي كنيجنيكوف من الصندوق العالمي للحياة البرية، "يفضل كل من قباطنة السفن والحيتان المياه التي تحتوي على أقل تركيز للجليد، وهذا يعد بزيادة مخاطر الاصطدامات، إضافة إلى الضوضاء والأنشطة الأخرى التي يمكن أن تؤثر سلباً على الحيوانات".
مخاطر الكربون الأسود
ويتشكل زيت الوقود الثقيل من بقايا غير مكلفة تشبه الحمأة تستخدم لتشغيل السفن التجارية، وعند حرقه ينتج عنه سخام الكربون الأسود، وهو مساهم رئيس في تغير المناخ تم حظره في مياه القطب الجنوبي منذ عام 2011. وبعد سنوات من الضغط من قبل الجماعات البيئية، أصدرت المنظمة البحرية الدولية أخيراً حظراً على استخدامه في القطب الشمالي، لكن الحظر لم يدخل حيز التنفيذ حتى عام 2024، ولن ينطبق على روسيا وغيرها من البلدان ذات السواحل القطبية الشمالية حتى نهاية العقد. ويقول النقاد إن هذه الخطوة "لن تؤدي إلا إلى انخفاض خمسة في المئة بانبعاثات الكربون الأسود".
ويأتي هذا الخلاف في الوقت الذي يشير فيه بحث جديد إلى أن ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي يمكن أن يتسبب في تغييرات في أنماط الطقس المسؤولة عن الطقس البارد بشكل غير معتاد في جميع أنحاء أوروبا، فضلاً عن التجميد الكبير لهذا العام في تكساس.
في المقابل، تروج شركة "روساتوم"، الشركة الذرية الروسية الحكومية التي تشرف على طريق بحر الشمال، إلى زيادة الشحن في المنطقة كحل جزئي لمشكلة تغير المناخ. وقالت الشركة، "ستمنع الملاحة على مدار العام على طول طريق بحر الشمال ملايين الأطنان من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون فقط عن طريق قطع المسافات، وأوقات السفر، وكمية الوقود التي تحرقها السفن بشكل فعال".
وقال أليكسي كالينين، الأكاديمي الذي يقدم المشورة لشركة روساتوم في شأن قضايا القطب الشمالي لـ"صنداي تايمز"، إن استخدام أنواع الوقود البديلة مثل الغاز الطبيعي المسال والميثانول، وكذلك السفن التي تعمل بالكهرباء من شأنه أن يقلل من الأضرار البيئية.
وفي أبريل (نيسان)، أعلنت شركة البحر المتوسط للشحن، ثاني أكبر خط شحن حاويات في العالم، أنها لن ترسل سفنها عبر هذا الطريق. وقال بود دار، نائب رئيس الشركة، "محاولة فتح طرق ملاحية جديدة تتخطى الغطاء الجليدي القطبي تبدو وكأنها طموح جاهل لمستكشف من القرن الثامن عشر".
وقال ميكا ميريد، المتخصص في شؤون القطب الشمالي لدى "كيفيبوف"، وهو معهد أبحاث فرنسي، إن روسيا تخطط لخطواتها التالية بعناية. وأضاف، "الروس يعرفون أنهم لا يستطيعون العبث، لأنه لن تكون لديهم فرصة ثانية إذا فعلوا ذلك. وهذا يعني أن الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل أن يتم فتح طريق بحر الشمال على مدار العام. إنها ليست مجرد مسألة وجود كاسحات جليد كبيرة".