فعلها جورج لوكاس مع فيلم "الغرافيتي الأميركي" (1973) American Graffiti، إذ استعاد سنوات مراهقته حين كان وفتيان مراهقون آخرون، في أعوام الستينيات، يجوبون شوارع موديستو، كاليفورنيا، بسياراتهم الهادرة. وكانوا يستمعون إلى موسيقى "الروك أند رول" ويحاولون اصطياد [استمالة وجذب] الفتيات، فيما تبقى معاناتهم خبيئة، وانشغالاتهم سرية بما قد تخبئه لهم حياة النضوج.
والآن، قبيل نهاية حياته المهنية، إذ يقترب من سن الـ75، يخوض ستيفن سبيلبرغ اللعبة ذاتها، ملتفتاً إلى تجربته الحياتية كي يستلهم منها فيلمه الجديد. وكاد سبيلبرغ، هذا الصيف، أن يخرج النتاج الأخير من سلسلة أفلام إنديانا جونز. بيد أنه فضل ترك المهمة لصديقه المخرج جايمس مانغولد، تزامناً مع شروعه (سبيلبرغ) بالعمل على فيلم "ذا فابيلمانس" (آل فابيلمان) The Fabelmans، المستند إلى سيرة حياته خلال طفولته وسنوات مراهقته.
وتتحدث الكتب التي تتناول سبيلبرغ عن ستيفن الفتى، صاحب الشخصية النابوليونية المتفجرة [تملؤه الحماسة]، والتلميذ غير المتميز في مدرسته الثانوية بمدينة فونيكس، أريزونا. وهو في تلك الفترة لم يتميز حتى في حصص الرياضة بالملعب، ولا بأيّ من صفوف التدريس. لكنه، ما إن بدأ بعمل أفلام منزلية، كذاك الفيلم القصير عن الحرب العالمية الثانية بعنوان "كتيبة المقاتلين" Fighter Squad، أو فيلم مغامرة الخيال العلمي الطويل "وهج [ضوء النيران] النار" Firelight، فقد أظهر على الفور عبقريته الفتية، ومهاراته الحاذقة.
عن الفيلم الجديد (آل فابيلمان) يتحدث كاتب سيرة سبيلبرغ، جوزف ماكبرايد، فيقول "إنها قصة رائعة عن هذا الفتى، هاوي الإخراج السينمائي الذي يلقن نفسه منذ سن العاشرة طريقة صنع الأفلام". يتابع ماكبرايد "لا ينتبه الناس إلى أنه، منذ عام 1957 ولغاية الآن، كان يصنع الأفلام على مدى 64 سنة. فحين صدر إنجازه فيلمه الاحترافي الأول (أمبلين) Amblin سنة 1968، كان بدأ صناعته [الإخراج] الأفلام قبل ذلك التاريخ بـ11 عاماً".
والدا سبيلبرغ، في هذا الإطار، كانا أول متواطئين معه في مساره السينمائي. إذ إن والده أرنولد، مهندس كهرباء الفذ والرائد في مجال الكمبيوتر، الذي توفي العام الفائت عن عمر 103 سنوات، دفع له ثمن المعدات السينمائية وزوده بإرشادات ونصائح تقنية. أما والدته ليا، عازفة البيانو الباهرة في الحفلات الموسيقية الكبرى، التي توفيت سنة 2017 عن عمر 97 سنة، فقد ساعدته في مسائل التغيب عن المدرسة، إذ كانت تدعي في حالات التغيب تلك أنه يعاني من ارتفاع في الحرارة. وقد قام سبيلبرغ الشاب بتصوير مشاهد في مستشفى محلي، كما تمكن من إقناع شركة الخطوط الجوية الأميركية بإعارته طائرة لعشر دقائق – البادرة التي لم تتكرم بها الشركة في العادة لمراهقين متغيبين عن مدارسهم.
في الفيلم الجديد تؤدي ميشيل ويليامز دور والدة بطل الفيلم، فيما يؤدي بول دانو دور والده، وسيث روغين دور عمه المفضل. ويلعب غابرييل لابيل دور الفتى المراهق، بطل الفيلم.
وسيكون مثيراً في هذا السياق أن نرى كيف سيقوم سبيلبرغ، الذي كتب السيناريو بمشاركة طوني كوشنير، بمقاربة مصاعب نشأته الأولى، على الشاشة، وأن نرى إن كان سيبرز الجوانب الكوميدية من حياته، أو سيصور نفسه كفنان شاب يواجه المعاناة، أمام عالم عدائي. إذ ثمة مواد كثيرة في تجربة حياته وقصتها، تناسب المقاربتين على حد سواء.
استكمالاً، وإلى جانب مآثره حين كان فتى يسمى "سيسيل ب دوسبيلبرغ"، وفق اللقب الذي أطلقته عليه أمه، كان ثمة الكثير من الحزن أيضاً. إذ حين انتقلت العائلة إلى كاليفورنيا، واجه سبيلبرغ على مدى وقت طويل فترة تعيسة في مدرسة ساراتوغا الثانوية، حين تعرض لأسوأ ابتزاز معادٍ للسامية في حياته. كما تزامن الأمر مع واقعة انفصال أهله، بعد أن وقعت أمه في غرام الصديق الأقرب إلى والده، بيرني آدلير.
عن تلك الفترة اعترف سبيلبرغ لـ"سوزان لايسي"، ضمن وثائقي تناوله عرضته قناة "أتش بي أو" HBO سنة 2017، قائلاً "لم أكن أتمتع بتقدير كبير لنفسي. لقد كنت شاباً وحيداً وأنا أكبر [أثناء نشأتي]".
من جهة أخرى يذكر ماكبرايد في كتابه (سيرة سبيلبرغ) عن كيفية إبطال ستيفن تأثير أعدائه، فيقول "لقد تعرض للاضطهاد لأنه يهودي، لذا قام، وعلى نحو حاذق، بتحويل مضطهديه هؤلاء إلى مشاركين في أفلامه. لقد كان هناك فتى يبتزه، فمنحه دور شخصية نازية وأدواراً أخرى ثقيلة من هذا العيار... وهكذا كان بإمكانه السيطرة عليه".
وماكبرايد، كاتب سيرة سبيلبرغ، يذكر أيضاً مقابلته أحد زملاء ستيفن في الصف بمدرسة فونيكس، ذاك الزميل الذي تحدث بإعجاب عن سلطة المخرج الشاب في موقع التصوير وفي أثنائه. "هذا الولد قال، إن (ستيفن) الانطوائي، الذي يمكنك أن تدفع برأسه إلى المرحاض بالمدرسة، سرعان ما يتحول إلى آمرٍ ناهٍ وصاحب سلطة (حين يكون في موقع التصوير)".
من جانب آخر وفي السياق العام، فإن أفلام السير الذاتية تبقى نادرة نسبياً، خصوصاً في "هوليوود". حتى إن أكثر المخرجين غروراً نادراً ما صنعوا أفلاماً تستند مباشرة إلى قصة حياتهم الشخصية. وثمة تراث مديد في هذا الإطار لقصص بلوغ سن الرشد، تراث يشمل أفلاماً مثل "حياة هذا الولد" (1993) This Boy’s Life، و"قف إلى جانبي" (1986) Stand By Me. كذلك ألهمت تجارب الحياة في المدارس الثانوية عدداً لا يحصى من الأفلام التي تتناول قصص المراهقين، فيما جاءت أفلام طويلة عديدة (صنعها على الدوام مخرجون رجال) كي تتناول السلوكيات الغريبة لشبان وفتيان تثيرهم [تحركهم] هرمونات التيستوستيرون على مشارف بلوغهم سن الرشد، فيغرقون في حياة اللهو والخلاعة. فيلم "شبه السيرة الذاتية" الذي أخرجه باري ليفينسون بعنوان "عشاء" (1982) Diner، يمثل واحداً من أشهر تلك الأفلام.
وكان فيلم كاميرون كرو، "بالكاد مشهور" (2000) Almost Famous، قد استلهم من تجربته كصحافي شاب يكتب لمجلة "رولينغ ستون"، فيما جاء فيلم بوب فوس "كل ذلك الجاز" (1979) All That Jazz مستنداً على نحو وثيق إلى فترة من حياة فوس، حين كان يحاول عرض مسرحية غنائية طموحة في "برودواي" تزامناً مع تنفيذه عمليات المونتاج لفيلم ميزانيته مرتفعة [إنتاج ضخم]، فبدا إذ ذاك كأنه يدفع بنفسه نحو التشتت والضياع.
أما الكوميديون من جهتهم، فهم غالباً ما يسندون أفلامهم إلى نسخ كوميدية عن أنفسهم، مبالغ بها. وفي هذا الإطار، ادعت إيمي شومير أن فيلم "مهزلة" (2015) Trainwreck، الذي كتبت نصه وأخرجه جود أباتو، كان إلى حد كبير "سيرة ذاتية"، على الرغم من أن "أناها" الأخرى على الشاشة، التي اسمها إيمي أيضاً، مارست الجنس وشربت الكحول أكثر بكثير مما فعلت هي في حياتها الواقعية.
بيد أن "هوليوود" تكره التأمل المعمق بالذات، ولا تحبذه. وعلى المخرجين الذين يودون في الأفلام تناول شغبهم وفترات تكون شخصياتهم، أن يفعلوا ذلك بطريقة مواربة وماكرة. في هذا الإطار جاءت أفلام سبيلبرغ الثلاثة، "قطار شوغيرلاند" Sugarland Express، و"لقاءات قريبة بالنوع الثالث" Close Encounters with the Third Kind، و"إي تي" ET، حافلة بعناصر ووقائع من سيرته الذاتية: أولاد وحيدون، مثلما كان هو، وعائلات تتفكك مثل حال عائلته. وقد اعتبر سبيلبرغ فيلمه التلفزيوني المبكر "مبارزة" Duel بمثابة ترميز [إشارة] للابتزاز (الذي كان يتعرض له)، واستحضر فيه على نحو وثيق تلك السيارة التي انحرفت عن الطريق وتعرضت للمطاردة من قبل شاحنة مسعورة. عن ذلك قال مرة، مشيراً إلى الطبيعة الذاتية العميقة في أعماله؛ "الكاميرا كانت قلمي. لقد كتبت قصصي من خلال العدسة".
ويرى ماكبرايد أن سبيلبرغ "حين بلغ أخيراً مرحلة صناعة (لائحة شيندلر) Schindler’s List، فإن الأمر مثل له قفزة إلى الأمام كي يتناول (يهوديته)، تلك المسألة التي تجنبها في حياته وعمله على مدى فترة طويلة، لأنه أراد قبل التطرق إليها، أن يكون مستعداً ومؤهلاً لها".
لذا، فإن تجربة سبيلبرغ برمتها يمكن النظر إليها كتمرين في إطار سيرة ذاتية مبطنة. بيد أن أفلام السيرة الذاتية المعلنة تميل في الغالب إلى أن تكون بتوقيع مخرجي الأفلام الأوروبيين النخبويين. إذ إن مخرجين بريطانيين أمثال بيل دوغلاس، في ثلاثيته التي بدأت مع "طفولتي" (1972) My Childhood، وتيرينس ديفيس، في أعمال مثل "الأصوات البعيدة ما زالت تحيا [تتردد]" (1988) Distant Voices Still Lives، و"خواتم اليوم الطويل" (1992) The Long Day Closes، كانت قد استندت مباشرة إلى تجربة طفولة هؤلاء في كنف الطبقة العاملة (البريطانية) وحياتها القاسية. أما في مرحلة أحدث، فقد قامت جوانا هوغ، الآتية من خلفية اجتماعية أكثر حظوة ورفاهاً، باستعادة تجارب شبابها حين كانت تخطو كي تصبح مخرجة سينمائية، وذلك في فيلمي "التذكار" The Souvenir، و"التذكار 2" The Souvenir II.
في المقابل فإن فيلم "الضربات الـ400" (1959) The 400 Blows، لفرنسوا تروفو، وهو أحد الأفلام التي أطلقت "الموجة الفرنسية الجديدة"، كان "سيرة ذاتية حتى في أدق تفاصيله" (وفق كلمات كاتبي سيرة تروفو، أنطوان دو بوكوي، وسيرج توبيانا). وفيه كان الصبي المشاكس أنطوان دوانيه (جان بيير ليو)، العابث والمتغيب عن المدرسة، بمثابة نسخة عن تروفو نفسه، حتى لو حاول المخرج تمرير فيلمه كعمل خيالي روائي تدور أحداثه في الخمسينيات، بدل أن يستحضر سنوات الاحتلال (النازي، إبان الحرب العالمية الثانية) التي نشأ خلالها. إذ إن تروفو انتبه إلى أن عالمية الفيلم تبقى مرهونة بمقدار ما يتميز به من دقة وصدق في المقاربة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك، فإن عناصر السيرة الذاتية تتسلل عميقاً في العديد من أفلام فيديريكو فيلليني. في هذا الإطار انتهج فيلم "أماركورد" (1973) Amarcord منحى كوميدياً وسوريالياً في تناول طفولة المخرج. أما فيلم "آي فيتيلوني" (1953) I Vitelloni، عن الاندفاع والملل، وأيضاً عن متع الحياة في قرية محلية صغيرة، فقد استلهم جزئياً ليس من حياة فيلليني وحسب، بل أيضاً من حياة شريكيه في كتابة نص الفيلم، إنيو فلايانو وتوليو بينيلي. الكاتبان المذكوران عادا وتعاونا فيما بعد في كتابة سيناريو أكثر أفلام فيلليني استحضاراً لسيرته 81\2 (1963)، الذي صور مخرجاً يشبه فيلليني إلى حد كبير (حتى لو أدى دوره مارسيلو ماستروياني) يجهد لصناعة فيلم.
وحين صنع المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي فيلم "المرآة" (1975) Mirror، فقد اعتمد متقصداً مقاربة حلمية وانطباعية. ووردت قصائد والده الشاعر على نحو بارز في الخلفية الصوتية للفيلم. وبدا المخرج مهجوساً في إعادة استحضار أجواء الريف التي يستذكرها من طفولته. لذا، زرع تاركوفسكي حقلاً من الحنطة السوداء قبل سنة من موعد التصوير، كي تبدو الحقول كما يتذكرها. كذلك أعاد بناء مسكن العائلة المؤلف من طابق واحد، كي يبدو تماماً وفق ما يتذكره. ويمكن القول هنا إن "المرآة" يعد من أشد الأفلام استناداً إلى سيرة ذاتية صافية، في تاريخ السينما. هو فيلم جميل ومؤثر، لكنه أيضاً ذاتي، ومبعثر، ويصعب تتبعه. إذ إن المخرج يتناول فيه تجارب ماضيه على الشاشة بالطريقة التي قد يتناول بها كاتب غنائي تجربته، في رواية شاعرية من نوع stream of consciousness novel [وهي نوع أدبي غير خيالي يدوِّن الانطباعات البصرية والسمعية والحسية واللا وعية].
وليس في مقدور أي من مخرجي "هوليوود" الوصول إلى مستويات الغوص في الذات تلك. هم بدل ذلك يضطرون إلى تهريب عناصر شخصية في سياق أفلامهم، فيمررونها عنوة من باب فرعي [في خلفية العمل أو على مستوى ثانوي]. لذا فإن المفاجأة تجاه الطبيعة السيرية لفيلم سبيلبرغ الجديد، تبقى في غير محلها. فعمله هذا لا يعد أبداً انطلاقة جديدة ومقاربة غير مسبوقة. في كل فيلم يصنعه يبقى سبيلبرغ مخرجاً عكس على الدوام حياته الشخصية في المرآة [العدسة].
كتاب جوزف ماكبرايد عن سيرة حياة ستيفن سبيلبرغ متوفر عند دار نشر "فايبر أند فايبر" Faber & Faber. فيلم سوزان لايسي الوثائقي عن سبيلبرغ Spielberg، الذي صنعته لقناة "أتش بي أو" HBO متوفر عبر "أمازون". أما فيلم سبيلبرغ الجديد "ويست سايد ستوري" West Side Story فسيطلق في 10 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
© The Independent