تشغل الكاتبة الكندية ماري – رينيه لافوا مكانة مهمة في قلوب القراء لا سيما الشباب منهم. ولعل هذه المكانة هي التي جعلتها تفوز بجائزة أرشامبولت للمواهب الناشئة وجائزة راديو كندا للكتاب عن روايتها "الصغيرة والعجوز"، وجعلت مدينة كيبيك الكندية تختار روايتها "الدبابات تموت" لحملة "مدينة وكتاب"، وجعلت مبيعات روايتها "سيرة أنثى مملة" التي تشكل الجزء الأول من مغامرات ديان ديلونيه، تتجاوز العشرة آلاف نسخة.
الضحية والجلاد
في "سيرة أنثى مملة"، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بترجمة زينة إدريس، تتناول لافوا موضوع الانفصال الزوجي، وتداعياته الخطرة على المرأة، في المجتمع الكندي. وتفعل ذلك، من خلال تجربة الأربعينية ديان ديلونيه، بطلة الرواية. وهي تجربة قاسية، بكل ما للكلمة من معنى. تبدأ بصدمة الانفصال. وتمر بمخاض عسير، تتواءم فيه الانهيارات المترتبة على الصدمة، من جهة، وآليات المواجهة التي تستخدمها البطلة للبقاء على قيد الحياة، من جهة ثانية. وتؤول، بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، إلى امتصاص الصدمة، والبدء من جديد. والمفارق، في تجربة البطلة القاسية، وفي تجربة صديقتها كلودين التي تحضر على هامش تجربتها، أن الرجل هو الذي يبادر إلى الانفصال في التجربتين، وأن المرأة هي التي تتحمل تبعاته؛ فتترجح بين تبكيت الذات وتحميل نفسها المسؤولية والشعور بالذنب، بالتزامن مع الغرق في وهم تلاوة الزوج فعل الندامة، والعودة تائباً عما جنت يداه، الأمر الذي تبدده الوقائع اللاحقة. بينما يسدر الرجل في غيه، ويتنكر لسنين طويلة من العشرة الطيبة متذرعاً بأسباب واهية. وهكذا، تتمخض تجربة الانفصال الزوجي في المجتمع الكندي/ الغربي عن: ضحية هي المرأة، وجلاد هو الرجل. ولا تختلف عنها في المجتمع العربي/ الشرقي.
بالدخول في الوقائع الروائية، يسقط قول جاك المفاجئ، بعد ربع قرن من الزواج: "سأرحل، فأنا أحب امرأة أخرى"، سقوط الصاعقة على رأس زوجته ديان. ويدخلها في محنة تستغرق سنوات من عمرها لتجاوزها. وتتمظهر هذه المحنة في سلسلة من السلوكيات وردود الفعل؛ تكرهه وتكره نفسها، تنقطع عن الناس وتلغي حسابها على "فيسبوك"، ترفض الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للزواج، تمارس النقد الذاتي وتحس بالذنب، تتزعزع ثقتها بنفسها، تبحث عن عيوبها، تشعر أنها ضعيفة ومملة، تعترف بانهيار مخططاتها وعجزها عن التفكير، تتردى في الوحدة والتمزق. ويزيد الطين بلة صرفها من وظيفتها في إطار إعادة هيكلة الشركة التي تعمل فيها، وحمل شالين، عشيقة الزوج، ما يقضي على أي احتمال لعودة المياه إلى مجاريها بين الزوجين. وغني عن التعبير أن هذه التمظهرات تجمع بين النفسي والجسدي، وتعكس التداعيات الخطيرة للانفصال على جسد المرأة وروحها ونفسيتها.
آليات المواجهة
على قسوة هذه التمظهرات وتداعياتها، لا ترمي ديان أسلحتها، فتلجأ إلى المتاح منها، على المستويين الذاتي والموضوعي. وتقرر المواجهة لاستعادة توازنها المفقود. وتنخرط في محاولة تغيير الواقع ووقائعه القاسية أو تغيير نفسها، فتفشل في الأول، وتنجح في الثاني. ويكون إلى جانبها في هذه المحاولة أولادها وصديقتها كلودين. وتستطيع، في نهاية الرواية، تجاوز محنتها والبدء من جديد. وهي في محاولتها تزاوج بين الانتقام، من جهة، وتعزيز عناصر المناعة في شخصيتها، من جهة ثانية.
في الانتقام، تقوم ديان بتحطيم أغراض الزوج في المنزل، ترمي إبريق الماء على عشيقته وتزيل مناديل الحمام لتحرمها من استعمالها. تغيض حماتها بلانش بالإيحاء لها بشذوذ ابنها الجنسي. ويرفض ابنها ألكسندر أن يكون عراب أخيه الرضيع المنتظر. وعلى الرغم من هذه الوقائع، فإن ديان التي صرحت بكره زوجها، ذات مكاشفة، لا تتورع عن الاعتراف، في جلسة علاج نفسي، بحبها له وتوقعها أن يعود إليها، ما يعني أننا إزاء مشاعر غير مستقرة، وشخصية مصدومة.
عناصر المناعة
في تعزيز عناصر المناعة الشخصية، تلعب صديقتها كلودين الطالعة من تجربة مشابهة دوراً واضحاً، في هذا السياق؛ فتزورها، وترفع معنوياتها، وتحثها على التفكير الإيجابي، وتصغي إليها، وتسدي لها النصح، وتحاول إعادتها إلى جادة الاستقرار. ويلعب أولاد ديان دوراً مشابهاً؛ فيقومون بالاتصال بها، ويزورونها، وتأتي لها ابنتها شارلوت بقط أليف، وتنخرطان معاً في مشاريع جري ومشي وتسوق. وتنجم عن هذا الاهتمام مجموعة وقائع تسهم في تحسن حالتها؛ فتختلف إلى عيادة مستشارة نفسية، وتتردد على صالون مصففة شعر، وتكلف تحرياً خاصاً جمع معلومات عن الزوج، وتحاول الدخول في علاقة غرامية، وتقبل الاهتمام بالهر الأليف. ويكون لكل من هذه الوقائع دورها في المساعدة على تجاوز المحنة، باستثناء واقعتين اثنتين؛ الأولى إهمال ملف التحري الخاص خوفاً من الاطلاع على ما يؤكد هواجسها، في عملية هرب من مواجهة الواقع، والثانية إجهاض مشروع الدخول علاقة غرامية بفعل عامل خارجي فلا يؤتي ثماره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن بلوغ عملية الشفاء خواتيمها المنشودة كانت بحاجة إلى بعض الوقائع الأخرى، حتى إذا ما علمت ديان أن عشيقة الزوج حامل، تفقد أي أمل في عودته، فتطلب الطلاق، وتبيع بيتها، وتشتري مع صديقتها كلودين بيتاً جديداً، وتقبلان على الحياة، من جديد، مشياً وزرعاً وسهراً وشراباً وطعاماً ورقصاً وموسيقى. وبذلك، يبلغ الشفاء منتهاه، وينطوي على إشارة روائية مزدوجة إلى: قدرة المرأة على تجاوز الماضي الأليم، والتخفف من أعباء الزوج، واجتراح حياة جديدة، من جهة، وأهمية الصداقة في تخطي المحن، من جهة ثانية.
إلى هذه الحكاية المحورية، تشكل حكاية كلودين تنويعاً عليها، وإضافة إليها؛ فهي عاشت تجربة الانفصال الزوجي، وعانت تعدد علاقات الزوج، وتحملت تبعات انفصاله عنها، وصبرت على تحريضه ابنتيها عليها، وتألمت من قطيعة والدها لها وإلقائه اللائمة عليها بفعل تفكيره الذكوري. ومع هذا، استطاعت، في نهاية المطاف، تخطي الأمر، ومد يد المساعدة إلى صديقتها لتتجاوز محنتها. وبذلك، أثبتت الصديقتان قدرة المرأة على أخذ أمورها بيدها، وتمكنها من مواجهة خيانة الزوج، وذكورية الأب، ولا مبالاة المجتمع.
الخطاب الروائي
تضع ماري – رينيه لافوا روايتها في إحدى وعشرين وحدة سردية، تتخذ مساراً خطيا أفقياً، تتراكم فيه الأحداث، وتتعاقب، وتتمخض عن بناء شخصيتي البطلة وصديقتها. ذلك أن كل وحدة سردية تضيء ملمحاً أو أكثر، خارجياً أو داخلياً، في هذه الشخصية أو تلك، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها، تكون عملية البناء اتخذت شكلها النهائي. والملاحظ أن الكاتبة تستخدم الصيغة نفسها في عنونة الوحدات الإحدى والعشرين، فتعنون كلاً منها بجملة اسمية، مؤلفة من ضمير منفصل مسبوق بواو الحالية، وفعل مضارع أو أكثر مع معموله. ولعل هذه الصيغة توحي بحالية السرد وراهنيته وانتمائه إلى اللحظة الحاضرة لا إلى الماضي المنصرم، حتى وإن استخدمت صيغة الماضي الصرفية. على أن الكاتبة التي أسندت عملية الروي إلى بطلة الرواية، فأوحت أنها تروي سيرتها وواءمت بين عنوان الرواية ومتنها السردي، استطاعت أن تزاوج بين تلقائية السرد وطلاوته، وبين حيوية الحوار وبداهته؛ وهي فعلت ذلك بلغة رشيقة، سلسة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة، ولا تخلو من السخرية والطرافة في مطارح عديدة. وبهذه المواصفات، استطاعت لافوا أن تنزع الملل عن "سيرة أنثى مملة"، على مستويي الحكاية والخطاب.