واقع يفوح بالأسطورة، وموروث يُبعث في زمن الحداثة، ومستقبل يحدث الآن. هكذا جمع المصري عبد الرحيم كمال مزيجاً من المتناقضات، في روايته "أبناء حورة" (الكرمة)، ليسلك عبر رحلته السردية عالم الواقعية السحرية، مانحاً الخيال قابلية الحدوث ووجوب التصديق.
لم يكن الكاتب جزءاً من الأحداث، لكنه اختار أن يكون الحكَّاء الذي ينقلها، مستدعياً بذلك موروثاً شفاهياً، قرر أن ينفث فيه من روحه، ليبعثه من جديد. وبين الحين والآخر، يطل برأسه من السرد، ليذكر القارئ بموقعه في الحكي، وأنه الناقل لتلك الأحداث والشاهد عليها. ثم يتوارى تماماً ويكف عن التذكرة، مكتفياً بدور الراوي العليم، الذي جاء متسقاً ومنسجماً مع الطابع الأسطوري للأحداث، ومع ذلك العدد الهائل من الحكايات والشخوص، التي كان أغلبها شخوصاً محورية حظيت بموقع حيوي داخل النص.
تبدأ الأحداث بعد العقد الثالث من الألفية الثانية، ومن هذا المستقبل يعود الراوي عبر تقنيات الارتداد إلى عام 2020، مستعيداً وباء كورونا، الذي اجتاح العالم، وما خلَّفه من ضحايا، ورِدة علمية عادت بالمجتمعات إلى الوراء، وحرمتها من عديد من مزايا التقدم. ثم ينوه عن حدث خطير يحدث في العام الثالث من اجتياح الفيروس، لكنه يرجئ الكشف عنه لمرحلة لاحقة. ما يدعم عنصر التشويق، الذي ظل ملازماً لرحلة السرد. تلك التي بلغت ما يربو على 420 صفحة من القطع المتوسط.
طابع أسطوري
يعود الكاتب للمستقبل الذي بدأ منه رحلته السردية. ويشرع في نسج الأحداث ذات الطابع الأسطوري، حول طائر عملاق له وجه أنثى، تضع أربع بيضات في أربع دول مختلفة، هي مصر، وتونس، والمغرب و"دولة اللاجئين". يفقس البيض، فيخرج منه سبعة أطفال عمالقة في مصر، لكل منهم جسم إنسان ووجه طائر. وخمسة في تونس، وواحد في المغرب. أما البيضة في "دولة اللاجئين"، فتفقس أمرأة جميلة يغطي جسمها الريش. يحكم العمالقة الدول التي خرجوا فيها (باستثناء دولة اللاجئين)، بعد أن يتنازل حكامها لهم طواعية عن السلطة. يرسون قواعد حكم عادل، لكنهم يجرّمون أكل الطيور، ويجرمون الحقد والكذب والبغي. ولأنهم يستطيعون اختراق أفكار الناس والنفاذ إلى عقولهم، كانوا يحاكمونهم على أفكارهم. ويصلحونهم بالعقاب، حتى يعودوا صالحين. يأمر العمالقة الذين يحكمون مصر "عبد الحليم الخردواتي" بكتابة التاريخ الاجتماعي للمصريين ووصف شخصيتهم، وعاداتهم، وحكاياتهم وطبائعهم. ويصبح كتاب الخردواتي نواة لصراع جديد، يبدأ بعد انتهاء عصر العمالقة، ويكون مطمعاً لـ "طاكين" حاكم بلاد الشمال، الذي يسعى ليسود الشعوب، بعد سرقة حكاياتهم وطمس تاريخهم.
تطويع الزمن
اختار الكاتب المستقبل، وزمن ما بعد كورونا، ليكون فضاءً لأحداثه، التي صبغها بالفانتازيا والأسطورة. أما الزمن الداخلي للسرد فنوع فيه بين التدفق الأفقي، الاسترجاع والاستباق. وعلى الرغم من هذا التنوع في الإيقاع الزمني، استطاع الكاتب أن يحافظ على انسجام الزمن، وانسيابية السرد. ومرر عديداً من المفارقات السردية، والاستباقات، التي دعمت عنصر التشويق، وضمنت له إحكام قبضته على القارئ... "ألقت نوفلة بنظرة إلى الفتى من بعيد، ليفاجأ بها والدها ووالدتها وهي تدخل عليهم وتقعد أمام عريسها مبتسمة في جرأة غير معتادة، وتقول بصوت واضح لا خجل فيه، "أهلاً بزوجي الذي سأنجب منه جمال، ذلك الفتى الذي سيتزوج بين السماء والأرض" صـ 120.
ومثلما نوع الكاتب في تقنياته الزمنية، نوع كذلك في الفضاءات المكانية للسرد، التي امتدت من مصر إلى تونس والمغرب والعراق ودمشق. كما أبرز فضاء مكانياً متخيلاً في "دولة اللاجئين". واختار في كل فضاء مواضع لها دلالات رمزية، مرر عبرها رؤاه. فكان ميدان التحرير في مصر وساحة الاستقلال في تونس موضع بيضتي "حورة" في الدولتين، ليمهد بذلك لما ينتظر تلك الدول من تغيير في عصر العمالقة. أما الفضاء المكاني المتخيل أو "دولة اللاجئين"، فكان تميزها وما قامت عليه من قيم العدل والحب والحرية، وتقدمها على الأقطار الأخرى، دلالة على انتصار الكاتب لأولئك البعيدين قسراً عن أوطانهم، والمضطرين إلى اللجوء. بينما كان إبراز المكتبة في العراق كمسرح مهم للأحداث، إشارة إلى الخصوصية الثقافية لهذا القُطر.
وظائف السرد
فضلاً عن الإخبار وهو الوظيفة الأساسية للسرد، أو السرد في ذاته. برزت وظائف أخرى للسرد في "أبناء حورة" كان بينها وظيفة تفسيرية (كما في تراث ألف ليلة وليلة) تجلت في عروج الكاتب على قصص ثانوية لاحقة، تفسر القصة الرئيسة للنص. كذلك كانت للسرد وظيفة تعبيرية، بدت في رصد الكاتب انطباعاته حول عادات وطبائع المصريين... "أما المصريون فهم من الشعوب الطيبة على كل حال، جمعوا عديداً من الخصال الحميدة وما هو دون ذلك، نظراً لقدم وجودهم على الأرض، فهم أبناء حضارة قديمة ودولة عريقة. صبروا على الاستبداد مرات وقاوموه، ومرات يستكينون له حتى تظن بهم الضعف، ثم يفيقون حتى تظن بهم الجبروت..." صـ 106.
جعل الكاتب من نصه مسرحاً لحضور ألوان شتى من الثنائيات والمتناقضات "العدل والظلم، الخير والشر، الحب والحقد، القبح والجمال". وأبرز أيضاً عديداً من التقنيات المتقابلة الأثر. فبينما عمد إلى الإسراع في السرد من خلال تقنية الحذف في غير موضع من النسيج، لجأ إلى الوصف والديالوغ المسرحي في مواضع أخرى، لإبطاء سرعة السرد.
ثغرة سردية
ربما سبّب استخدامه تقنية الحذف ثغرة سردية في البناء الروائي. فهو حين انتقل مباشرة من حكم العمالقة أبناء "حورة"، إلى الجزء الثاني من الرواية، متتبعاً آخر نسلها، وسعي "طاكين"، للاستيلاء على حكايات وتاريخ الشعوب وسيادة العالم، واكتفاؤه فقط بالإشارة إلى موت أبناء حورة وانقضاء عصرهم، صنع في موضع حادث موتهم الغائب فجوة سردية، كانت تستحق ملأها بالأحداث، التي تفسر موت العمالقة ونهاية حكمهم.
وفي مقابل الحذف والإسراع في السرد، استخدم كمال الوقفات الوصفية للإبطاء من حركة وإيقاع السرد في مواضع أخرى... "أفاق رماح ليجد نفسه في مكان بارد، مكان ليس ثابتاً لكنه يميل ميلاً متتابعاً، وحين اعتادت عيناه المكان أبصر في جانب أحد حوائط الغرفة المتحركة كوة صغيرة تشبه النافذة، تحرك بصعوبة شديدة حتى وصل إليها ونظر منها ليجد مياهاً لا نهاية لها إلا زرقة السماء، وهنا أدرك أنه في قعر سفينة تبحر به إلى المجهول" صـ 293.
واتسمت لغة الكاتب في الوقفات الوصفية وخلال رحلته السردية في مجملها بالمشهدية الفائقة، وحضور التكنيك البصري، الذي حول الحدث إلى صورة قادرة على استثارة حاسة البصر لدى القارئ، وربما تواطأت معها بقية الحواس، وذلك يتسق مع كونه في الوقت نفسه كاتب سيناريو، له أعمال تلفزيونية وسينمائية ناجحة.
أما الديالوغ المسرحي، فكان تقنية أخرى، عمد الكاتب لاستخدامها بكثافة. وتمكن عبرها من إبطاء حركة السرد أيضاً. وتحقيق الإيهام بحضور الأحداث وتطورها. وتصوير الشخوص تصويراً دقيقاً. والكشف عما يعتمل في دواخلهم. وهذا ما بدا على سبيل المثال، في الكشف عن باطن "أمجد" حاكم "دولة اللاجئين"، وتعرية نفسه الحاقدة على أخويه... "وأحمل أبناء بدر الدين ونيرة وألهو معهم ثم أموت بلا أثر كأنني لم أمر بقدمي على هذه الأرض، لم يجئ أمجد إلى تلك الدنيا، ها أنا والعدم سواء، بأي شيء تطيب خاطري وتمنحني الصبر؟" صـ 159.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على امتداد رحلة السرد، بدا التأثر بالموروث الديني، والتناص المباشر وغير المباشر معه. وذلك عبر الحضور الصريح للنص القرآني مرات عديدة. وتوظيف ذلك الحضور لخدمة النص الروائي. وكذلك برزت تقنية التناص في شكله غير المباشر، عبر استدعاء ما يحيل إلى ذلك الموروث من قول ومعنى، والإحالة إلى قصة يونس، وقصة الخضر عليهما السلام. كما غلفت النسيج مسحة صوفية، تجلت عبر بعض الشخوص، مثل شخصية أبو شوال والشيخ صفي الدين. وهما الزاهدان، العاشقان، اللذان تكشفت لهما الحجب.
ولعب الحلم دوراً رئيساً في البناء الروائي. فكان كاشفاً عن هواجس الشخوص ومخاوفها، ومنفذاً لتحرير بواطنها المقيدة والمخبأة. ولعب كذلك دوراً مهماً في تطور الحدث الروائي، والوصول إلى نقطة النهاية التي حددها الكاتب. فبينما كان "طاكين" قاتلاً متجبراً ماكراً في صحوه، كان مطارداً مذعوراً من ضحاياه في أحلامه. وكان سحر "سيرانا" سبيلاً للقضاء على البرزخ الفاصل بين الحلم واليقظة، ليختلط على حاكم بلاد الشمال صحوه ونومه، ويعبر ضحاياه من الحلم إلى اليقظة، لتستمر مطارداتهم له. وتكون تلك المطاردات سبباً من أسباب نهاية "طاكين"، والقضاء عليه، والبلوغ بالحدث الروائي إلى الوجهة التي أرادها الكاتب، والتي بدت لوهلة أنها نهاية الحكي. غير أن الكاتب عاد ليضع نهاية أخرى مفتوحة على أحداث جديدة، سلم زمامها لـ "رمّاح" الحكاء، ليشي بأنه ما زال في جعبة السارد والحكاء الأصلي للنص، أحداث وحديث.