كلما أراد العالم أن يتذكر ما جرى في أفغانستان من أحداث مفاجئة مباغتة محيرة مذهلة سيلجأ إلى أرشيف الصور الفوتوغرافية، تلك الصور التي تعدت حدود كونها أفضل من ألف كلمة أو أصدق من مئة تفسير أو أبلغ من مليون شرح وإسهاب وتبرير. الصورة الفوتوغرافية المقبلة من أفغانستان والمؤرِخة- ربما دون قصد- للحظات إنسانية خارج حدود الخيال، والدالة- دون افتعال- على إمكانية المستحيل وواقعية الخيال، ستبقى محفورة في أذهان البشرية، وذلك بغض النظر عما ستؤول إليه الأوضاع في أفغانستان.
أفغانستان الملقبة بـ"مقبرة الإمبراطوريات" تاريخياً، والمكتسِبة اسم "عرين الشهداء" من قبل قادة "طالبان" حديثاً، صدرت إلى العالم كماً مذهلاً من الصور الفوتوغرافية التي تحمل كل منها واقعة رهيبة أو حدثاً جللاً أو تطوراً مذهلاً أو ببساطة شيئاً لا يصدقه عقل.
صدمة المنظومة الخبرية
عقل المنظومة الخبرية واجه صعوبة في استيعاب الحدث الذي استيقظ عليه نصف الكوكب يوم 6 يوليو (تموز) الماضي، وهو مغادرة القوات الأميركية قاعدة "باغرام" الأفغانية ليلاً دون أن تخبر الجانب الأفغاني بنية الرحيل.
صورة مذهلة لجندي أفغاني يتفقد ما بدا أنها قاعة صغيرة في مطار، مزودة بصفين من مقاعد الانتظار، والمقاعد مليئة ببقايا أطعمة وزجاجات مياه ومشروبات غازية ملقاة على الأرض وذراع مقعد مهشم إلى جوارها.
ويتتابع الذهول عبر صور القاعدة التي هجرتها القوات الأميركية سراً ليلاً حيث صورة لجندي أفغاني جالس على كرسي مكتب في مدرج ملحق بالقاعدة ويتحدث في هاتفه المحمول وتبدو على وجهه أمارات الهدوء والسكينة والراحة، بينما تفاصيل الخبر نفسه تحوي تصريحاً لقائد تلك القاعدة الأفغاني الجديد الجنرال عبد الله كوهستاني بأن الأميركيين تركوا القاعدة في الثالثة فجراً لكن القوات الأفغانية علمت بذلك في وقت لاحق، وأن القاعدة تحوي سجناً فيه نحو خمسة آلاف سجين قيل إنهم من "طالبان" في ظل توقع هجوم قريب جداً على باغرام.
صورة باغرام
الصورة المقبلة من باغرام في الأيام التالية حملت للعالم استسلام القوات الأفغانية لمقاتلي "طالبان" من دون مقاومة تذكر، ومئات وربما آلاف السيارات والمعدات التي خلفتها وراءها القوات الأميركية، إضافة إلى كميات من الأدوات والمعدات المستعمَلة التي تحولت إلى "جنة لتجار الخردة" وذلك قبل وأثناء وبعد سيطرة "طالبان" على القاعدة.
الصور المتواترة من باغرام في الأسابيع التالية ضاعت في زحمة تفاقم الأحداث في أفغانستان وتمدد "طالبان" السريع والسهل والمذهل، ففات على العالم لحظات إطلاق سراح السجناء الذين تختلف الأقاويل حول هوياتهم، بين قوات أفغانية قائلة إنهم من مقاتلي "طالبان"، وأفراد من "طالبان" يؤكدون أنهم من دواعش خراسان، وأنباء صحافية أمسكت بالعصا من المنتصف إذ قالت، إنهم خليط من "داعش" وجماعات إرهابية أخرى.
صورة تبدو عادية، لكن هول ما قاله صاحبها جعلتها غير عادية. الصورة للمتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية جون كيربي وهو يتطرق في إحاطة صحافية عن احتمالات الربط بين التفجير الدامي الذي حدث في محيط مطار كابول وإطلاق "طالبان" سراح سجناء باغرام وعدم استبعاده تورط الحركة في التفجير على الرغم من العداوة "المعلَنة" بينها وبين التنظيم.
صور للاستدلال
ترتيب صور أحداث أفغانستان لا يحتاج إلى عقلية سياسية فذة أو معرفة عسكرية متعمقة، لكنه يحتاج إلى قدرة على الاستدلال لفهم ما وراء تلك الصور، وهنا تكمن أهمية الصورة في هذا الحدث وتفوقها، على غير عادة العصر الحديث، على مقاطع الفيديو المصورة وحتى البث الحي من موقع الأحداث الساخنة المتلاحقة. الصورة الفوتوغرافية الواضحة الثابتة تمنح المتصفح القدرة على التدقيق في ملامح الوجوه وتفاصيل المحتويات بمساعدة التقنيات الحديثة من تكبير وغيره، وتسلط ضوءاً ساطعاً على محنة إنسانية غير مسبوقة في العصر الحديث.
محنة الأفغان الهاربين من "طالبان"، ربما ليست أكثر فداحة المحن المعاصرة في سوريا واليمن وليبيا والعراق وغيرها، لكنها تتميز في كونها محنة تفجرت بين ليلة انسحاب أميركي وضحى هيمنة طالبانية قلبت موازين حياة ملايين الأفغان دون سابق إنذار. وعلى الرغم من بشاعة الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة، فإنها تحدث بمقدمات. أما المباغتة التي تدفع الآلاف لمحاولة الهرب دون أمتعة أو أوراق ثبوتية ولو بالتعلق على جناح طائرة فهذا أمر رهيب وصادم.
الصدمة التي تسببت بها صور المواطنين الأفغان الراكضين أمام وخلف وأسفل وفوق وعلى جانبَي طائرة عسكرية أميركية أثناء محاولتها الإقلاع من مطار كابول، مستمرة كلما ظهرت تلك الصورة لمتصفح أو باحث. ستظل الصورة محفورة في القلوب باحثة عن عقول تعيها. ومعها تلك الصورة الملتقطة من مقطع فيديو لحظة سقوط مواطنين أفغان من طائرة بعد تحليقها لتوثق محاولات الهروب الجنونية من قبضة "طالبان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبضة الأذرع الإعلامية
لم تكشف قبضة "طالبان" بعد عما هو آتٍ، لكن صوراً أخرى تطرحها أذرع إعلامية للحركة التي كانت مصنفة "إرهابية جداً" ثم صارت "غير محددة جداً"، حيث تجري لقاءات على أكبر المنصات الإعلامية الإقليمية والدولية مع متحدثيها ومسؤوليها ناهيك عن مقابلات ومكالمات هاتفية مع رؤساء ومسؤولين هنا وهناك. كما أن هناك الصور التي تطرحها "طالبان" لأطفال يحتفلون بوصول مقاتلين أفغان للسيطرة على قراهم ومدنهم، وأخرى لمواطنين يرحبون بـ"طالبان" ويلتقطون الصور السيلفي إلى جوارهم. جوار "طالبان" يحتمل العديد من القصص والروايات والصور. فهناك على الجانب الآخر كذلك، صورة حريق. الحريق يرمز وربما يستشرف مستقبل البنات في أفغانستان. وتقول مؤسِسة مدرسة للفتيات هناك اسمها "شبانة باسيج – راسخ"، إنها لم تجد وسيلة لحماية الطالبات من قوات "طالبان" التي ستستهدفهن، سوى من خلال إحراق سجلاتهن. ومع الصورة تأتي الخلفية التاريخية المعلوماتية، إذ تقول راسخ إنها في مارس (آذار) 2002، وبعد سقوط "طالبان"، كانت من ضمن آلاف الفتيات اللاتي تمت دعوتهن إلى الالتحاق بأقرب مدرسة للخضوع لاختبارات تحديد مستوى دراسي، وذلك بعدما أحرقت قوات "طالبان" سجلاتهن لمنعهن من التعليم. وكانت راسخ واحدة من تلك الفتيات. وبين حريق الأمس واليوم، أصابت مجريات الأحداث في أفغانستان، العالم بـ"خرس دولي"، سواء بسبب الصدمة أو الحيرة.
"إنسانية" القوات الأميركية
الحيرة التي تسببت فيها صور "إنسانية" القوات الأميركية في محيط المطار في تعاملها مع أطفال أُسر الأفغان التي تحاول الهرب من قبضة "طالبان"، حتى بعد إقلاع آخر طائرة عسكرية أميركية من المطار الذي صار في قبضة "طالبان". صورة جندي أميركي هنا يروي عطش طفل أفغاني فيسقيه الماء بنفسه، وجندي آخر يداعب طفلاً يقف إلى جواره، وثالث يوزع زجاجات المياه على الأطفال الأفغان العطشى، تدفع إلى التساؤل عن الوجه الآخر لهذه الإنسانية التي أقلعت قبل يومين إلى غير رجعة. لكن رجعت التساؤلات تُطرح بشكل أكبر بعد تداول صورة فواتوغرافية للجندية الأميركية نيكول جي وهي تحمل رضيعاً أفغانياً في مطار كابول قبل ستة أيام من وفاتها ضمن 13 جندياً أميركياً قضوا في التفجير الضخم الذي أعنت "داعش خراسان" مسؤوليتها عنه في محيط مطار كابول.
وظل مطار العاصمة الأفغانية مصدراً رئيساً لإبقاء المصورين الفوتوغرافيين في الصدارة والصور الفوتوغرافية سيدة الحدث، حيث تم توثيق كل ما هو عجيب وغريب. وضمن العجائب والغرائب صورة فوتوغرافية لطالب فيزياء بريطاني في جامعة "لافبارة" اسمه مايلز روتلدج يقول عن نفسه، إنه يحب السياحة السوداء والمتطرفة، قرر السفر إلى أفغانستان في عطلة الصيف لأنه لا يحب قضاء العطلات على الشاطئ أو في الاسترخاء. وعقب بدء الانسحاب الأميركي وتمدد "طالبان" تزامناً مع ذلك وأحياناً أسرع منه، بدأ يرسل استغاثات وصوراً فوتوغرافية غريبة، منها صورة في سيارة مع معدات متهالكة وأسلحة رشاشة، وأخرى في شوارع كابول التي تحولت إلى فوضى عارمة، وأخيراً صورة سلفي وهو على متن طائرة عسكرية في طريقه إلى دبي. وعلى الرغم من محو كل صوره من على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة به، فإنه ما زال يتحدث مع وسائل الإعلام البريطانية عن "رحلته المذهلة" إلى أفغانستان وكيف أن الزمن لو عاد به إلى الوراء لقام بالرحلة السياحية نفسها.
السياحة السوداء
لكن الرحلة السياحية نفسها غير مرشحة للتكرار أو السماح بتكرارها في المستقبل القريب. المستقبل الذي بدأ منذ انسحاب القوات الأميركية وتمدد قوات "طالبان" يتحدث عن نفسه بصور فوتوغرافية من شوراع العاصمة الأفغانية. قوات "طالبان" الخاصة المتجولة في شوارع كابول لـ"حمايتها" تقول الكثير بملابس عسكرية مختلفة، وبعضها ملابس مموهة على هيئة جلباب قصير مع بنطلون، وآخرون بملابس أفغانية تقليدية مع نظارات شمسية حديثة، وتبدو الحياة وكأنها تسير بشكل طبيعي من حولهم.
صورة أخرى يُفترض أنها "طريفة" لكنها في الوقت نفسه دالة على ما خلفته وراءها القوات الأميركية وغيرها من القوات الأجنبية التي انسحب جميعها من أفغانستان. مقاتلان من "طالبان" يجلسان في قمرة طائرة عسكرية أميركية تركها الأميركيون وأحدهما يمسك بهاتف محمول ينظر إلى شاشته وهو يضحك ويشاركه البهجة زميل له.
بقية الزملاء والأصدقاء من مقاتلي "طالبان" يقفون في ضفة مقابلة لضفة النساء والفتيات في أفغانستان. وعلى الرغم من تصريحات مسؤولي الحركة بعدم إيذاء النساء واحترام وجودهن، فإن صور النساء والفتيات المقبلة من أفغانستان لا تبشر بالخير. وتزامناً مع "مطالبة" الحركة النساء العاملات البقاء في بيوتهن لأن مقاتليها ليسوا مدربين على الحديث أو التعامل مع النساء، تعاود صور النساء من دون ملامح الظهور، في مقابل صور بملامح تعكس خطوات أُنجزت ويتوقع إجهاضها في مسيرة المرأة والطفلة الأفغانية.
أخماس في أسداس
بضعة آلاف من النساء الأفغانيات نجحن في الفرار من قبضة "طالبان" إلى أميركا أو فرنسا أو بلجيكا أو غيرها. لكن الملايين الباقية تضرب، ومعها العالم المتابع للصور، أخماساً في أسداس حول مصائرهن وبقية الشعب الأفغاني الذي تُرك لحاله وأغلق العالم الباب عليه بالمفتاح.
صورة الميجور جنرال كريس دوناهيو قائد الفرقة 82 المحمولة جواً في طريقه ليستقل آخر طائرة قبل دقيقة واحدة من منتصف ليل 31 أغسطس (آب) الماضي، ستظل صورة العام وربما بضعة أعوام. ومعها صور في صباح اليوم التالي لحلوى يوزعها مقاتلو "طالبان"، وصلوات شكر يؤدونها في المطار، وجولات لتفقد لمخلفات القوات الأميركية بدءاً بالطائرات والسيارات مروراً بالمعدات والتجهيزات وانتهاءً ببقايا ملابس عسكرية ووجبات جافة ووسائل ترفيه.
خير الصور ما قل ودل وكشف ووثّق لتبقى الأحداث والحوادث في ذاكرة الإنسانية.