لم يحدث مثل هذا على حد علمنا مرتين بل مرة واحدة في تاريخ المعارض والمناسبات الفنية. لم يحدث أن جمع معرضان كبيران أقيما بفارق نحو دزينة من الأعوام بينهما، بين أب وابن كليهما مبدع وإن على طريقته الخاصة وفي نوعين فنيين لا في نوع واحد. ومع ذلك لم يكن صعباً على القائمين على المعرضين أن يجدوا ما يوحد الرؤية ويجتذب مئات ألوف المتفرجين كاشفين عن علاقة مدهشة بين الفنين والفنانين. نتحدث هنا عن الرسام الانطباعي الكبير بيار أوغست رينوار وعن ابنه شاعر السينما الفرنسية الأكبر جان رينوار. وبالتحديد عن المعرضين اللذين أقيم أولهما عام 2005 في السينماتيك الفرنسي، والثاني عام 2018 في الغران باليه. ونعرف أن الصرحين هما من أهم مواقع الفنون في فرنسا. أولهما بالنسبة إلى فن السينما، والثاني إلى الفن التشكيلي.
بين السينما والرسم
ولئن تساءل القارئ هنا عن وجه الغرابة في أن يقام معرض سينمائي في الأول وتشكيلي في الثاني، فلا بد من المسارعة بالقول، إن وجه الغرابة كمن في أن المعرضين كانا مشتركين بين الأب وابنه وبنفس العنوان تقريباً، وتقريباً أيضاً بنفس الموضوع: العلاقة الحياتية والفنية التي جمعت بين الاثنين. ولكن في معرض 2005 من وجهة نظر سينمائية تطل على الفن التشكيلي، وفي معرض الأم 2018 من وجهة نظر تشكيلية تطل على السينما. والفارق بين الحالتين قد لا يبدو واضحاً للوهلة الأولى لكنه سيبدو عميقاً ومنطقياً إن نحن تفرسنا فيه عن كثب. والحقيقة أن كلاً من المعرضين اشتغل على تلك العلاقة المتشعبة بين بيار أوغست وابنه جان في مجالات متنوعة وعلى أكثر من صعيد وليس فقط، طبعاً منطلقين من ذلك الكتاب البديع "رينوار أبي" الذي وضعه السينمائي عن أبيه وعلاقته به في أخريات حياته، بل انطلاقاً من أمور كثيرة جمعت بينهما بأكثر كثيراً مما يجمع أباً وابنه كل منهما فنان كبير في مجاله. وبالتحديد مروراً بالكيفية التي تمكن بها جان من أن يشتغل في سينماه منطلقاً من فن أبيه وحياتهما العائلية المشتركة وكذلك من بعض النساء اللاتي جمعن بينهما وكانت واحدة منهن على الأقل "إرثاً" تلقاه الابن عن أبيه!
انطباعية وعائلية
وهنا قد يكون من الأكثر منطقية أن نترك المعرضين لحالهما وقد خدمانا كنقطة انطلاق لافتة لموضوعنا، لنتوقف عند تأثيرات بيار أوغست على ابنه السينمائي جان كما تجلت في بعض أهم أفلام هذا الأخير، إن لم يكن في كل أفلامه. ولئن كان كثر من المنقبين في ثنايا هذا الموضوع يتطلعون عادة إلى بعض أكثر أفلام رينوار الابن انطباعية وباريسية بحثاً عن تلك الأبعاد، فإننا هنا نجدنا ميالين إلى تركيز حديثنا على فيلم واحد أساسي هو "غداء على العشب" الذي حققه جان رينوار عام 1958 ليكون، من ناحية واحداً من آخر أفلامه الكبيرة، ومن ناحية ثانية الفيلم الذي اقترب به من أبيه بأكثر مما فعل في أي فيلم آخر له، هو الذي غالباً ما فعل ذلك في أفلام قد تبدو أكثر وضوحاً وشفافية. وللوهلة الأولى هنا لن يكونوا مخطئين أولئك النقاد والمؤرخين الذين رأوا في فيلم "الغداء على العشب" نوعاً من التحية العامة للتيار الانطباعي في الفن الفرنسي، وبخاصة لفن إدوار مانيه الذي تجلى بقدر كبير من الوضوح في لوحته التي تحمل نفس العنوان الذي سيعطيه جان رينوار لفيلمه. غير أن هذا لن يكون إلا للوهلة الأولى.
ضمن العائلة!
وذلك تحديداً لأن العناصر التي تحيلنا إلى رينوار الأب، رسام الانطباعية الكبير بدوره، تفوق كثيراً تلك التي تحيلنا إلى مانيه. ومن هنا لن يكونوا على خطأ أولئك النقاد والمؤرخين الآخرين الذين رأوا في هذا الفيلم نوعاً من وصية فنية عائلية، كما نوع من تكريم أخير من الابن تجاه أبيه، وقد أصبح الأول في نفس تلك السن المتقدمة التي كانت سن أبيه يوم أجرى معه بعيد الحرب العالمية الأولى ذلك الحوار الذي كان في أساس كتاب "رينوار أبي". فهناك في المقام الأول المكان الذي موضع فيه رينوار الابن "أحداث" الفيلم: بلدة كاني سور مير التي اشترى بيار أوغست عقاراً فيها كان يمضي فيه آخر سنوات حياته ولطالما أمضى الابن كما بقية أفراد العائلة طفولته وصباه هناك. وإلى هذا تبدو واضحة حتى في حوارات الفيلم ومنذ البداية مواقف استعارها جان من أبيه الذي كثيراً ما عبر عن عدائه للتكنولوجيا والحداثة الآلية، وذلك من خلال مشهد يطلب فيه عالم بيولوجيا يدعى إتيان آلكسي يد خطيبته بواسطة بث تلفزيزني. غير أن هذه الغمزة التي تبدو بريئة وربما تتلاقى مع اهتمام جان رينوار بالتلفزة في ذلك الحين، سرعان ما تتخذ معنى آخر حين يضل العالم طريقه وسط الغابة والطبيعة وروائعهما!
تأرجح بين عالمين
ثم إن الفيلم يتأرجح بين بعدين لن يخفى على المتفرج تفضيل السينمائي بينهما: العلم الحديث وحياة الريف والطبيعة من خلال حوارات ومواقف سيتضح بالتدريج ومن خلال قراءة حوارات مع أبيه في الكتاب المذكور كم أنها تدين بجوهرها وربما بحرفيتها أيضاً إلى الأب. وربما يمكننا من خلال الإمعان في البحث عن عناصر اللقاء بين الفيلم وفكر رينوار الأب، أن نغوص إلى أبعد من ذلك. فمثلاً يمكننا التأمل في اختيار كاترين روفيل بطلة للفيلم هي التي تشبه إلى حد بعيد غابريال مربية جان الصغير وعشيقة الأب، وصولاً إلى مشهد تسبح فيه كاترين بشكل يقول ناقد إنه من المستحيل ألا يذكرنا مباشرة بواحدة من أجمل لوحات رينوار الأب، "السابحات". ومهما يكن من أمر هنا يكفي مثلاً أن نقرأ مذكرات كاترين وغيرها حول أيام تصوير الفيلم في تلك المنطقة الساحرة كي نكتشف معها كم أن جان كان مستمتعاً خلال التصوير وكأنه تقمص أباه شكلاً ومضموناً ناهيك بمحاكاته مواقفه وأحكامه الفنية والإنسانية. ومن المؤكد أن هذا كله يجعلنا ننظر إلى "الغداء على العشب" بوصفه فيلماً أنجزته حساسيتان معاً: حساسية الأب والابن، فكان من المنطقي أن يكون هو نفسه نقطة المحور في المعرضين اللذين بدأنا بهما حديثنا هذا، واللذان كانا لحظتين نادرتين في تاريخ فنين ومبدعين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مسيرة الابن
قبل ذلك بأكثر من ربع قرن أي في عام 1924 كان جان رينوار في الثلاثين من عمره، حين اتخذ قراره النهائي بأن يصبح سينمائياً، وهو أمضى السنوات الأربع الأولى من حياته السينمائية خائضاً في تجريبية طليعية مزج فيها بين إرثه الانطباعي وتأثره بالمدرسة التعبيرية الألمانية، وهو ما نلاحظه في أفلام مثل «فتاة الماء» و«نانا» ثم خاصة «شارلستون» و«بائعة أعواد الثقاب». غير أن تلك الأفلام لم تحقق النجاح المرجو على الرغم من أنها دفعت إلى الصدارة شخصية «موديل» أوغوست رينوار السابقة التي باتت امرأة لجان رينوار ونجمة استثنائية تحمل، هذه المرة، اسم كاترين هيسلنغ. وفي النهاية حدث الانفصال بين المخرج والنجمة وانتهت بذلك مرحلة التأسيس في مسار رينوار السينمائي، لتبدأ في عام 1931 مرحلة تالية استمرت عقداً من السنين هي المرحلة الواقعية، التي كان أول أفلامها «الكلبة» الذي حقق قدراً لا بأس به من النجاح، مع أن رينوار بقي على تجريبيته، إذ خلف رداء الواقعية الجديد الذي بدأت ترتديه أفلامه التالية، راحت تظهر تنويعاته الغرائبية وتأثره بالكوميدي ديل آرتي، وفنون الدمى والأساليب الوقحة واللغة المستقاة من ابتذالية الشارع الشعبي. وهو أمر نلاحظه يتكرر في أفلام تلك المرحلة مثل «طوني» و«بودو أنقذ من الغرق» و«ليلة الكارفور» و«مدام بوفاري» و«جريمة السيد لانغ» وصولاً إلى أفلام مرحلة الجبهة الشعبية ذات النزعة التقدمية مثل «الحياة لنا» و«المارسيلية» و«قواعد اللعبة» الذي أوصل قوة تعبيره وأداءه الفني إلى ذروة لم تكن متوقعة، بعد أن كان فيلم «الوهم الكبير» (1937) قد حقق له سمعة عالمية ما قاده حينها إلى منفاه الأميركي.
انخراط في العالم الهوليوودي
في العالم الجديد الذي وصله رينوار في 1940 وجد الأبواب مفتوحة أمامه، بخاصة أنه كان يرغب، من أعماقه، في الانخراط في اللعبة السينمائية الهوليوودية. غير أنه اضطر هناك لتحقيق أفلام نضالية ضد الهتلرية أبقته على الهامش، حتى كان فيلمه «رجل الجنوب» الذي نقل فيه الصراع المعتاد لديه، بين الفرد والمجتمع إلى صراع بين الإنسان والطبيعة، مقتبساً من عالم أميركا المعقد اهتمامه بالطاقة البشرية الخلاقة في مواجهة أي صراع مفروض على الفرد. وهو نفس ما صوره في الهند حين توجه إليها، في 1951 ليحقق واحداً من أجمل أفلامه: «النهر»، وعند بداية سنوات الخمسين عاد رينوار، بشكل شبه نهائي إلى فرنسا حيث حقق أولاً فيلم «العربة الذهب» ثم ألحقه بواحد من أجمل أفلامه، على الصعيد الشكلي، كما على صعيد استخدام اللون - «فرانش - كانكان»، ثم كان «إيلينا والرجال» (1956) فـ«الغداء على العشب» الذي اعتبر أول الأمر وكما رأينا نوعاً من التحية للوحة مانيه الشهيرة، مثلما كان «فرانش كان كان» تحية لتولوز لوتريك.