في عام 2001، انتشرت صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو لمقاتلي "طالبان" بعد إقصائهم من حكم أفغانستان، التي هيمنوا عليها منذ عام 1996 وقتها. لم يتمعن العالم كثيراً في الصور أو يدقق ملياً في المقاطع. تعاملت معها الغالبية باعتبارها توثيقاً لهزيمة جماعة متطرفة منعوتة بـ"الإرهابية" وموصومة بسوء معاملة النساء ومعروفة بالعنف والفظاظة وإنهاء الخصومة بطلقة أو قنبلة أو تفخيخة بسيطة. قليلون من ركزوا في ملامحهم أو دققوا في ملابسهم أو أمعنوا النظر في أكسسواراتهم وماكياجهم!
نعم، أكسسواراتهم وماكياجهم. مقاتلو "طالبان" الذين حازوا لقب "مجاهدين" من قبل معارضي الغزو السوفياتي في عام 1979، ثم أصبحوا مقاتلين حين تحولت دفة القتال تجاه الغزو الأميركي ظلوا في نظر العالم رجالاً تبدو عليهم معالم الحدة والغلظة. يرتدون ملابس هي خليط من الأزياء الأفغانية التقليدية من "بيران تنبان" أو القميص الطويل والبنطلون الفضفاض، مع غطاء الرأس سواء كان "لونجي" (عمة) أو الـ"باكول" أو غيرها. بعضهم يغطي جانباً من وجهه، والبعض الآخر تهيمن على ملامحه لحية طويلة وحاجبان معقودان وغضب مستدام تشتت انتباه الرائي وتمنعه من التدقيق في التفاصيل الأخرى.
"مقاتلو 2.0"
لكن التفاصيل الأخرى تعود هذه الأيام وتجذب الأنظار، وذلك مع عودة مقاتلي "طالبان" إلى سُدة الحكم والإعلام والاهتمام سواء قدامى المقاتلين أو الجيل الجديد المسمى "مقاتلي طالبان 2.0" أي الجدد. التدقيق والتمحيص والتفحيص الدائرة رحاها حالياً في شتى أرجاء الكوكب لصور وفيديوهات قوات "طالبان" أسفرت عن اكتشاف إطلالة بعيون جريئة وجفون كحيلة.
استوقف الكحل في عيون "طالبان" البعض ممن تركوا تحليل الانسحاب الأميركي الغريب، والقبضة الطالبانية الأسرع، والعالم الجديد الجاري رسمه لأهله، وبدأ البحث والتدقيق في هذا "الماكياج" الذي يرتبط في الأذهان بالمثليين أو الغارقين في الصرعات الغريبة، وهو ما يقف على طرف نقيض مما تمثله "طالبان" من رجعية وتطرف وتشدد وإغراق في التمسك بما كان شائعاً قبل 14 قرناً فقط.
العيون الكحيلة لقوات "طالبان" التي انتشرت خلال سويعات قليلة في ربوع أفغانستان أسرت العالم وأثرت فيه. كيف لهؤلاء الرجال المسلحين أصحاب الملامح القاسية والأفعال الغليظة والمواقف الخشنة أن يتكحلوا ويقال لهم "وعيناك كأنها في الحُسن آية تُتلى على قومٍ كفروا فاهتدوا"؟!
عيون طالبانية كحيلة
اهتدى البحث عن سر العيون الطالبانية الكحيلة إلى روايات مختلفة، لكن جميعها يمزج بين العادات والتقاليد وتفسيرات وتشبثات دينية. العديد من القبائل الأفغانية اعتادت منذ مئات السنوات تكحيل عيون الرجال.
يؤكد باحثون ورحالة مثل جوان وورفيلد مؤلفة ومصورة كتاب "الرحالة الحديثة: في قلب طريق الحرير، أفغانستان 1977"، أن قبائل عديدة في أفغانستان اعتاد رجالها تكحيل أعينهم، واعتبر غير المكحلين مشهداً غريباً. ويتكحل الرجال لتقليل الأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن الصحاري الساطعة النور التي اعتادوا السفر عبرها في هجراتهم وتنقلاتهم الداخلية المستمرة. كما يتكحلون لأسباب صحية أو كإجراء صحي وقائي تجنباً لأمراض العيون. ويعتبره البعض أمراً ميثولوجياً أو أسطورياً لا يمكن التخلي عنه، كما يتضح ذلك جلياً في عيون مقاتلي "طالبان" اليوم.
يشار إلى أن الكحل كان أحد سمات حياة المصريين القدماء قبل آلاف السنوات. وبحسب بحث عنوانه "الكحل في التراث المصري" لأستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة بني سويف محمد أحمد إبراهيم، "فإن الكحل كان يستخدم من قبل الرجال والنساء في مصر الفرعونية بصفة يومية، وأن فن تجميل العيون من الفنون التي عرفها المصريون القدماء وبرعوا فيها ومسجلة على جدران معابدهم". يضيف، "الكحل لم يكن فقط تجميلاً للجنسين، بل كان إرثاً في رحلة البعث والخلود ودفنوه مع المتوفى في مقبرته".
بعث مقاتلي "طالبان" وخلودهم في أفغانستان بعد العودة المباغتة قبل أيام يجعل كل تفاصيلهم مثيرة للاهتمام، بما في ذلك كحل عيون مقاتليهم. وهي العيون التي تثير الجدل والروايات والاستفسارات هذه الآونة في أرجاء الكوكب. العقل والمنطق استبعدا احتمالات أن تكون العيون الطالبانية الكحيلة جزءاً من صرعة غربية للماكياج الرجالي، لا سيما كحل العيون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صرعة أم سنة؟
قبل نحو خمسة أعوام، سرت ظاهرة في لبنان حيث تكحيل عيون الشباب من الذكور. وانقسمت الآراء والشهادات وقتها بين شقي "الموضة" و"السنة". وعلى الرغم من أن كلمتي "الموضة" و"طالبان" تبدوان كأنهما نقيضان متنافران، بل قد تقبل إحداهما على اغتيال الأخرى، فإن المشاهد الواردة من شوارع أفغانستان تخبر العالم أن لدى البعض في الأقل من مقاتلي "طالبان"، لا سيما الشباب والمراهقين اتجاهاً نحو الموضة. ليس هذا فقط، بل إن هناك احتمالاً بتحول مظهر قوات "طالبان" الشابة وملابسها التي مُزجت فيها الحداثة بالأصالة بالأصولية بالألوان الفاقعة.
عبر زي طالباني تقليدي، ولكن باللون البرتقالي الفاقع يصل إلى ما بعد الركبة بقليل، مع جوار سوداء طويلة، وحذاء رياضي حديث، وشعر أسود ناعم منسدل على الكتفين، وربطة رأس (باندانا)، ونظارة شمس شبابية، وقف أحد مقاتلي "طالبان" وسط أقرانه في أحد شوارع كابول مدججاً بمدفعه الرشاش، ولسان حاله يقول "أنا خليط من الأصولية الشديدة والحداثة المفرطة".
رعاة بقر أفغان
المفارقة الحقيقية التي تثير الكثير من التساؤلات هو أن قوات "طالبان" نفسها بدأت في تطبيق قواعدها الخاصة بالملابس، وأولها تجنب ارتداء ملابس "رعاة البقر" ألا وهي "الجينز". القاعدة لـ"طالبان" هي الـ"بيران تنبان" حتى إن تقارير صحافية عدة واردة من أفغانستان تشير إلى انتعاش في سوق مبيعات الملابس التقليدية للنساء والرجال، التي كانت قد حلت محلها الملابس الغربية إلى حد كبير. وتناقل البعض أخباراً مفادها أن شباباً أفغاناً تعرضوا للضرب على أيدي مقاتلي "طالبان" لأنهم كانوا يرتدون "الجينز". وعلى الرغم من أن المقاتلين أنفسهم لا يرتدون الجينز بعد فإن الواضح حتى اللحظة هو خضوع خزانات "طالبان" للتحديث والتطوير في الألوان وإدماج الأكسسوارات الأنيقة الحديثة مع الحفاظ على كحل العيون.
ويظل الاهتمام الكبير منصباً على عيون "طالبان" الكحيلة، التي يدافع عنها البعض من خلال ما تردد من أنها سنة نبوية استناداً إلى حديث شريف. سأل أحدهم رجل دين عن حكم اكتحال الرجال وما يردده أطباء من أن الكحل يضر بالعيون، بل قد يصيب البعض بالعمى، فجاء رد الشيخ على أحد أشهر مواقع الفتوى على الإنترنت، "من قال بهذا القول فهو خطأ ولو كان طبيباً. الكحل لا يضر إذا كان بالإثمد السليم النظيف. يقول النبي صلى الله عليه وسلم، (عليكم بالإثمد؛ فإنه يجلو البصر وينبت الشعر). فهو طيب يزيد البصر شدة وقوة، وينبت الشعر أيضاً. والذي يقول: إنه يضر البصر قوله ضعيف ومردود. والصواب أنه ينبت الشعر ويجلو البصر وينفع".
طب نبوي؟
وفي مصر، قال العالم الإسلامي عطية صقر (رحمه الله) في عام 1997 وقتما كان رئيساً للجنة الفتوى في الأزهر، رداً على سؤال حول حكم وضع الكحل للرجال إنه "جاء في الطب النبوي لابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مكحلة يكتحل منها ثلاثاً في كل عين. وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثاً يبتدئ بها ويختم بها، وفي اليسرى اثنتين. وروى أبو عاود عنه صلى الله عليه وسلم (من اكتحل فليوتر)".
تواتر الاستفسارات والتفسيرات حول الكحل في عيون "طالبان" من شأنه أن يستمر. كما من شأن ملاحظة وتتبع والتدقيق في عيونهم أن تتواصل، لا سيما بينما أنظار الكوكب جميعها مركزة على أفغانستان وما جرى لها وفيها.
ذكورة "طالبان"
الطريف أن معرضاً للصور الفوتوغرافية "غير المتوقعة" أقيم في مجمع "باربيكان" للفنون الشهير في لندن في عام 2020 عرض صوراً تحت عنوان "الذكورة"، بعضها لمقاتلين من "طالبان" يضعون ماكياجاً كاملاً بما في ذلك من كحل صارخ للعيون، ويحملون ورداً بلاستيكياً ويمسكون بيد بعضهم بعضاً للتصوير أمام الكاميرا وقت حكمهم الأول لأفغانستان، وهو الحكم الذي قرر أن التصوير الفوتوغرافي حرام شرعاً. الصور عثر عليها المصور الألماني توماس دورزاك في غرفة خلفية في استوديو تصوير في قندهار عام 2002 بعد سقوط حكمهم الأول، وهو أحد الاستوديوهات القليلة التي لم تغلقها "طالبان" أثناء حكمها لقاء الحاجة إلى صور لجوازات السفر. وتعكس الصور "رغبة" و"نية" هؤلاء المقاتلين التصوير وليس تصويرهم من دون أن يدروا. ونقل موقع "غارديان" البريطاني في مقال عنوانه "مقاتلو طالبان بالماكياج" عن مؤسسة "باربيكان" للفنون، ألونا باردو، قولها، "إنها أصيبت بحالة من التوقف البصري كلية حين رأت هذه الصور، وذلك لأنها صور حقيقية وليست مركبة". وقالت، "هؤلاء رجال اختاروا أن تلتقط صور فوتوغرافية لهم، فقدموا أنفسهم للكاميرا. وهذا كفيل بأن يثبت لنا قوة الصور الفوتوغرافية وقدرتها على زعزعة كل تصوراتنا المسبقة". ووصفت باردو صور مقاتلي "طالبان" بالماكياج بقولها "رائعة".
ونقل مقال "غارديان" عن المصور دورزاك مقتني الصور قوله، "أحسد المصور الذي التقط الصور لهؤلاء الرجال. كانت تحركات طالبان في هذا الوقت تجسيداً مطلقاً للشر. لكنه جعلهم يمسكون في أياديهم باقات زهور بلاستيكية. إنه أمر محير للغاية، لكني أحب ما رأيت".
أما ما يراه العالم اليوم من انتشار مقاتلي "طالبان" من الجيل "2.0" في شوارع أفغانستان، فهو يظل قيد الملاحظة لإبداء الرأي والمشاعر. كحل العيون ربما يعطي عيون المقاتلين المنتمين لإحدى أكثر الحركات عنفاً في التاريخ الحديث، التي كانت مصنفة "إرهابية" حتى أيام قليلة مضت، بعداً مختلفاً. يراه البعض سنة نبوية، ويعتبره الآخر عادة متوارثة، ويتكهن فريق ثالث بأن الجيل الجديد من مقاتلي الحركة ربما راغب في "نيولوك" أكثر حداثة ومظهر مواكب للصرعات والموضات. لكن تظل عبارة "مثيرة للدهشة" الجامعة لتضارب الآراء حول الكحل في عيون "طالبان".