نادرة جداً هي الكتب المتخصصة التي تنطلق من العلاقة بين الأدب (الشعر خصوصاً)، والفن التشكيلي، مروراً بالفنون البصرية والسمعية عموماً. من بين هذه الندرة، يجيء هذا الكتاب للشاعرة والقاصة والناقدة الفنية العراقية المعروفة مي مظفر، الكتاب "السفر" الذي يتناول سيرة حياتها مع الفنان العراقي العالمي الشهرة والمكانة رافع الناصري، سيرة تتناول كثيراً من تفاصيل العلاقة التي جمعتهما منذ اللقاء الأول (1970)، ثم زواجهما (1973)، وصولاً إلى رحيله الفاجع في ديسمبر (كانون الأول) 2013، وما بين التاريخين من حب وصخب وانتقالات في الزمان والأماكن، الأمر الذي يجعل من المستحيل الإلمام بتفاصيله، والاكتفاء بما هو "جوهر" الكتاب وروحه، روح كاتبته التي تتنقل بين الأسلوب السردي الشاعري وأدب الرحلة والمغامرة، بقدر كبير من السلاسة والعذوبة النادرين.
بعد عدد من الكتب والدراسات والبحوث والترجمات الفنية والأدبية، وعدد كبير من المقالات والدراسات في الفنون التشكيلية، باللغتين العربية والإنجليزية، تطالعنا مي مظفر، الآن، بكتابها الجديد، عن "رحلتها" مع الناصري، الرحلة الحياتية التي عاشتها معه، زواجاً وتجربةً فنية مديدة. وهي تجربة ربما لم تشهد الحياة الثقافية - الإبداعية العربية مثيلاً لها، الكتاب الذي حمل عنوان "أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار"، الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/ عمان.
قد يعرف المقربون من "الثنائي، مي ورافع"، أنهما يكادان لا يفترقان، في معارضه، كما في أمسياتها، وفي كثير من الفعاليات الأدبية والفنية، وهنا أقصد حضورهما في العاصمة عمان، في دارة الفنون تحديداً، حيث المحترف الفني لرافع وورشاته الفنية. الحضور المتميز لثنائي على درجة عالية من الثقافة والذوق والتهذيب والتواضع، مما يليق بشاعرة وفنان اكتسبا حضوراً وشهرة كبيرين، عراقياً وعربياً وعالمياً، ويظهر ذلك كله في تفاصيل التجربة التي "ألفاها" معاً كما لو كانا يكتبان/ يرسمان أسطورة مرحلة من الحب والإبداع، على الرغم من كل ما واجها فيها من مصاعب ومعاناة وعذابات.
أسطورة "الماء والنار"، هذان العنصران "الأساسيان" في تشكيل هذا الكون، هما النقيضان والضدان، ولكنهما المتكاملان والمتفاعلان، إيجاباً وسلباً، في علاقة تسعى لخلق "حياة" ذات سمات محددة. وهذا ما تبدو عليه علاقة "مي - رافع"، بكل ما تنطوي عليه من مواقف ومواضعات مشتركة، في الوفاق والاختلاف. فرافع ومي هنا ليسا الملاك ولا الشيطان، ومما ترويه عنه مي ثمة لحظات وسلوكيات لا يعود فيها ذلك الكائن الذي نعرف، بل يغدو كائناً آخر ذا طبيعة عدوانية شرسة، لكن، وكما يبدو في الوضع الطبيعي، فمثل هذه اللحظات هي الاستثناء النادر الحدوث، ومي، في هذه الاستثناءات "الحاضنة" التي تعيده إلى طبيعته.
في توثيق الجماليات
منذ "مقدمة" الكتاب، تظهر صورة الشاعرة مي مظفر، بعد رحيل شريك حياتها الفنان، ولكنها صورة الباحثة عما يمكن تسميته "أفق ما بعد رافع"، فهي تجد نفسها وحيدة، بعد مسارها الطويل معه، في أربعة عقود من الزمن، لكنها، حتى برحيله، ليست وحيدة تماماً، فقد عاشت ليلتها الأولى بعد تشييعه تفكر في ما ستفعله له بعد رحيله، تقول: "تـرك رحيـل رافـع عـن أرضنـا فراغاً مهـولاً ما كان لأي شـيء أو أحد قدرة علـى انتشـالي من هوته السـحيقة سـوى الحفاظ على وجـوده حياً معي. حيـن انتهـت مراسـم التشـييع وغـادر الأهـل والأصدقـاء فـي سـاعة متأخـرة مـن الليلـة الأولـى، أغلقـت البـاب لأختلـي بواقعـي الجديـد، تحيـط بـي وحشـة أشبه ببئـر عميـقة مظلمة، وسـؤال عملاق يتحدانـي: كيف سـأكمل الرحلة مـن غيـره، وحمـل مسـؤولية الحفـاظ علـى إرثه واسمه وعطائـه الفنـي الباذخ؟".
إنها لا تستسلم لوحش الفقدان والخسارة كما يمكن لأي "فاقدة"، وأي فقد حين يكون المفقود في حجم الفنان رافع، بوجوهه وملامحه المتعددة، الإنسان (الزوج) والفنان المبدع؟ وفي علاقة تتداخل معها عناصر وعوامل عدة، تلتفت مي المبدعة إلى مشروعها المؤجل، مشروع يبقيها مع رافع ويبقيه معها، وهو في عالمه البعيد القريب. تقول عنه: "لطالمـا وضعـت نصـب عيني تحقيق مشـروع يوثق مسـيرة حياتنا التي اتسـمت بالمحبـة والانسـجام، وبتكامـل قـد ينـدر وجـود مثيـل له فـي الأوسـاط الثقافية. أخبرتـه ذات يـوم بهـذا المشـروع فبـدا سعيداً، وتمنـى على تحقيقـه. هكـذا وجـدت أن الوقـت قـد حـان لتنفيـذ المشـروع، وهكـذا سـنظل معاً". ومن هذا "الحلم"، يبدأ تحقق المشروع واقعياً، فتبقى الشاعرة والمبدعة تعيش كما لو كان الفنان لا يزال "هنا"، كيف لا وهي تستعيد رحلة حياتهما، استعادة يتداخل فيها الإنساني الحميمي بالإبداعي الراقي؟! فهي تعود، وتعيدنا معها، إلى علاقة تاريخية عظيمة، منذ البداية في خريف بغداد (1970).
رواية الطموحات والمنجزات
وهي إذ تعمل على هذا المشروع وتنجزه على النحو الذي قرأناه، فإنما تكتب رواية سيرية، أو سيرة روائية البطلان فيها هي وهو، في خضم علاقتهما بالعالم، بالكون والوجود، وصراعهما مع الحياة بيومياتها وتفاصيلها الصغيرة، كما في أسئلتها الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية. رواية شعارها الإبداع والحب والفرح، في لقاء الشعر مع الموسيقى والغناء والرقص وسواها، لتجاوز الصعاب، ومواجهة القبح والعنف في أشكاله وصوره كلها، الأمر الذي يتطلب روحاً، بل روحين، في مستوى المواجهة والمقاومة تحت كل الظروف.
لا يمكن للقارئ التوقف عند صورة أو لوحة، من بين آلاف الصور والمشاهد التي تؤثث اللوحة البانورامية الشديدة العمق والتدقيق في التفاصيل، خصوصاً أننا حيال رحلة مركبة وشبكة معقدة من الخطوط والألوان والمرئيات، من أمكنة وحضارات وثقافات متعددة الجذور والمنجزات. فالرحلة، رحلة رافع تخصيصاً، التي تبدأ في بغداد الطفولة والنشأة والتكوين الأول، وتنطلق إلى التكوين الأكاديمي في الصين وبلغاريا، وسواهما، تتمدد في سياق المعارض والبيناليات العالمية، إلى أرجاء الأرض، من المحيط إلى الخليج عربياً، ومن أميركا وأوروبا والدول الإسكندنافية حتى الهند عالمياً... وفيها جميعاً غالباً ما يكون "الزوجان/ الثنائي" معاً، كل منهما في مجاله، مع كثير من نقاط اللقاء والتقاطع، على الرغم من حضور الاختلافات، وربما الخلافات أحياناً، لكن هذا هو الاستثناء في رحلة غنية بالتفاصيل والدهشة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن بين الأماكن، ثمة خصوصية لعدد من المدن والدول التي كان لها الدور الأبرز في تشكيل الفنان وتكوينه على النحو الذي نتعرف عليه في هذه "الرواية"، بدءاً من تكريت وبغداد والبصرة والموصل، في البدايات، ثم الصين وملحقاتها التي تحضر على نحو استثنائي في هذا التكوين، فرنسا وباريس أيضاً، وإسبانيا ومتاحفها ومعالمها العربية/ الإسلامية منها والحديثة. ومن بين المدن العربية تحضر بقوة كل من عمان وبيروت ودمشق والقاهرة، قبل أن تحضر المنامة والبحرين على مستوى العمل الأكاديمي والفني أيضاً، وهو ما يعني حضوراً ثرياً ومدهشاً لحجم العلاقات العربية والعالمية التي قامت بين "الثنائي مي ورافع" وبين العالم، علاقات فنية وإبداعية تنبني عليها علاقات إنسانية على درجات من الأهمية، تجعل الجميع "شخوصاً" في رواية تجمع الواقعي والفانتازي والحلمي في سياق شديد العمق والجمال.
تخصص مـي فصلاً من الكتاب عن "ذاتها" وتجربتها الإبداعية والحياتية "لإنـارة جوانب مـن حياتـي ونشـأتي لا يعرفها حتـى المقربـون منّي... وقد اعتمـدت فـي سـرد هذه السـيرة علـى ذاكرتي بالدرجـة الأولـى. فأنـا أتمتـع بذاكـرة حاضـرة بـكل قـوة وبتفاصيـل، حتـى فـي استعادة دور الطفولـة، لكننـي اسـتعنت فـي الفصليـن الأولين باليوميـات". فهي كانت، وربما ما زالت، تواظب على كتابة هذه "اليوميات" التي تحتفظ بها، حافظةً فيها تاريخاً حافلاً بالتفصيلي والجوهري، تتداخل فيه المعلومة بالذكرى والحلم والتحليل لكل ما ترى وتسمع وتتذوق.
ليس المجال كافياً، هنا، للاستطراد في ذكر التفاصيل والأسماء، الأماكن والفنانين والأقارب والأصدقاء، المعروفين لدى القارئ أو المجهولين. ما استوقفنا هنا هو درجة ارتباط رافع بعمله الفني، ونفوره من العمل الأكاديمي الذي كانت تفرضه عليه ظروف معيشية صعبة، فيكون مكرهاً على التكيف معه، من دون أن ينسى دوره التوجيهي لأجيال جديدة من التلامذة و"المريدين". وهذا الشأن ينطبق، ولو على نحو مختلف، على شخصية مي الشاعرة والمبدعة التي توازن بين عملها الإبداعي، الشعري والقصصي والنقدي - التشكيلي، وبين التزاماتها "المعيشية" أيضاً. وذلك كله في سياقات تجعل الحياة "مسرحاً" لمسعى أساسي فيها، هو روح الجمال والحب أولاً وأخيراً، مع حضور "خفيف الظل" للمرأة وهمومها وقضاياها وشؤونها وشجونها.