تجاوز الفنان سامر عمران في عرضه الجديد "3021" القوالب المعتادة، متيحاً المجال لتجريب مسرحي من نوع خاص، ومشتغلاً مع اثنين وعشرين ممثلاً وممثلة على صيغة المسرحية المتجولة، مقترحاً نوعاً من فرجة متحركة، وزعها المخرج السوري على ستة مسارح (المعهد العالي للفنون المسرحية). وفقاً لهذا الشرط استقبل الممثلون جمهورهم في البهو الخارجي للمعهد، ومن ثم اقتادوه بطريقة الأدلاء السياحيين نحو خشبة فواز الساجر، ومنها إلى الكواليس ومستودع الديكور والإضاءة، وبعدها إلى حديقة المعهد وفنائه الخارجي، ليكون ختام هذه الجولة التي امتدت ساعة ونصف الساعة من الزمن على مسرح سعد الله ونوس.
هذا الشكل من الفرجة واكبه أيضاً نوع من معادل حركي طقسي لقصة العرض، والتي قام عمران بإعدادها بنفسه عن كلٍ من رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو (1922-2010)، وقصة "بلد العميان" لهربرت جورج ويلز (1866-1946). تبدأ الأحداث الفعلية للعرض من عيادة الطبيب الذي نشاهد توافد العديد من سكان المدينة إليه جراء تعرضهم لعمى مفاجئ، ومن ثم ليقع الطبيب بعد ذلك في هذه المحنة، ويصاب بالعدوى هو وممرضته، وباء العمى الأبيض، مما يضطر السلطات إلى وضع المصابين في عنبر للحجر الصحي. وهناك تبدأ مجموعة من الأحداث التي تقودنا إلى تشريح عميق وقاسٍ للطبيعة البشرية، وذلك عبر انهيار للنظام الاجتماعي، وانحلال المؤسسات، واستفحال العنف، وحب السيطرة من قِبل مجموعة مسلحة تقتحم العنبر، وتفرض نظامها الجديد على المحجورين، ليصبح الجنس مقابل الغذاء، واغتصاب النساء وتعذيبها مقابل الماء والخبز.
جراء هذا الانهيار الإنساني الشامل تصبح إمكانية الحياة مستحيلة، وتنعدم القيم، ويستبد الجوع والعنف والقتل العبثي، مما يضطر الضابط المسؤول إلى الانتحار، والممرضة إلى الموت شنقاً، على الإذعان للطبيعة الحيوانية الحمقاء التي تملي شروطها على من يريد البقاء حياً.
أجواء كابوسية
وسط هذه الأجواء الكابوسية المنقبضة، تباينت أنواع من الأداء العفوي الطبيعي للممثلين، الذين تقاسموا مستويين من اللعب داخل العنبر، الأول كان عبارة عن قفص حديدي مرفوعاً على أدراج، أما الثاني، فبدا مزنراً بسلاسل من الحديد، أسهم صوت زردها في إضفاء واقعية على مجريات الحدث، وأعطى مصداقية لحركة الممثلين وفقاً للمواقف والظروف التي يتعرضون لها داخل هذا المصح الدموي. إلا أن كل هذا السعير من الوحشية وانعدام الأمل كان يختفي ويتوقف مع كل ضربة على صنج من يد مخرج العرض، والذي أخذ دور المراقب للحدث، متدخلاً في ذروة عالية من العنف لإيقاف كل شيء، هادماً وممهداً لذروة أُخرى من الفرجة عبر ضربات جديدة تعيد الممثل إلى روعه، وتجعل الجمهور يتنفس الصعداء بأن ما يشاهده ليس إلا مشهداً تمثيلياً.
مشاهد مضطرمة ومواجهات صادمة اختص بها عرض "3021" العام الذي سوف ينقلنا إليه عمران، مستشرفاً مستقبلاً كالحاً للبشرية بعد ألف عام من زمن تقديم العرض. فعبر ما يشبه تقنية آلة الزمن تقودنا هذه التجربة إلى قصة الرجل المُبصر الذي وجد نفسه في وادي العميان، محاطاً بقبائل همجية ترفض ملكتها وكاهنها تزويجه من ابنة زعيم القبيلة، معتبرة البصر نوعاً من الزندقة والشذوذ عن الطبيعة البشرية. ومع قبول الشاب المُبصر التخلي عن نعمة البصر من أجل الزواج من حبيبته العمياء، يتراجع قبالة سحر منظر الشروق والغروب، والتنعم بضياء القمر وألوان الغابات والبحار، مما يدفعه إلى الهروب، أخيراً، مستغنياً عن حبه، ورافضاً الدخول في نواميس وادي العميان.
هذا المشهد عالجه عمران مستفيداً من أجواء مسلسل "see" العمل الدرامي الخيالي الذي أعده ستيفن نايت، وأخرجه فرانسيس لورانس لصالح تلفزيون "أبل"، لكن جاء هنا وفقاً للشرط الفني المسرحي، وضمن تصميم أزياء لافت (غيث المرزوقي) اعتمد على ألوان ترابية لملابس الممثلين، وهيئات بدائية تضافرت مع موسيقى المؤلف العراقي (رعد خلف) والتي بدت هي الأخرى في مواضع كثيرة منها ذات نزعة تصويرية، إنما أسهمت في تقديم مناخات غرائبية عن عالم العميان في كلٍ من روايتي ساراماغو وويلز، ومتيحة المجال لممثلين على عتبة الاحتراف للتعايش مع أدوارهم، والغوص فيها نفسياً وعاطفياً.
القسوة الملائمة
مسرح القسوة الذي اعتمده مخرج العرض بدا هنا إطاراً فنياً ملائماً للموضوع الذي عالجه فكرياً عبر ثنائية الحياة والعدم، مستحضراً مواجهة تخيلية بين جلجامش وهاملت، ومقارباً شكل الملحمة، والبحث عن الخلود. وقد توزع السرد على جوقة الممثلين، منجزاً بطولة جماعية، ومؤثراً البطولة الفردية للخطة الإخراجية المحكمة التي أدارها عمران بمهارة، مستغنياً عن استطالات أدبية في الروايتين اللتين اقتبس عنهما عرضه. ووقد عوض عن ذلك بصياغة مناخ درامي ساندته في ذلك إضاءة رمادية (علاء الكيزاوي) وعبر كشف منابع الضوء للمتلقي، جاعلاً أماكن جلوس الجمهور حيزاً منها.
في المقابل ركز العرض على حوارية جريئة بين شخصيتي امرأة وكاهن يفقد إيمانه في لحظة مكاشفة عميقة، ويتجه بالخطاب إلى الآلهة التي تخلت عنه، ووضعته في ظرف عصي على الاحتمال. فالعمى والجوع والظلم جعلت شخصيات العرض تبدو وكأنها في حوار مع ذاتها. وهذا كان جلياً عبر تغليب المونولوغ على الديالوغ، والذهاب نحو تظهير الصراع العمودي مع قوى الغيب، بدلاً من الاقتصار على الصراع الأفقي بين الشخصيات، مما جعلها أقرب إلى كائنات بلا هوية. شخصيات تائهة في الزمان والمكان، باستثناء اللهجة الشامية البيضاء التي اعتمدها مخرج العرض وكاتبه في مقاطع معينة، وزاوجها مع حوارات باللغة العربية الفصحى في مقاطع أخرى من العرض، فاصلاً بذلك بين الحدث والتعليق عليه من جهة، وبين أجواء رواية "العمى" وقصة "بلد العميان" مفعلاً بذلك إسقاطات ماهرة على الوضع السوري الراهن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بهذه التقنية تمكن عرض "3021" من تقديم قراءة حذرة عن العنف المحلي، متنكراً بالأسطوري والخيالي لصالح انتزاع نوع جديد من الأداء الجماعي. قد لا يكون مرضياً لنرجسية بعض الممثلين، لكنه أعاد بقوة تلك النوعية من عروض مسرح المؤلف، والتي تضاءلت، أخيراً، بشكل كبير في الريبرتوار السوري، مما استحضر صورة الممثل العبد، أو الممثل الأداة إلى الأذهان، بعيداً عن صورة الممثل الشريك. وفتح الباب واسعاً للسؤال مجدداً عن جدلية الممثل والمخرج، وسطوة هذا الأخير على عناصر العميلة الفنية، وسلطته شبه المطلقة على توجيه الأداء، وقدرته على استرجاع دوره الجوهري في صياغة اللعبة المسرحية من ألفها إلى يائها.