بعد سنوات من الإهمال طالت إحدى جواهر السعودية في خزنة "اليونسكو"، أطلقت الحكومة مشروعاً أسمته "مشروع إعادة إحياء جدة التاريخية"، المنبثق من برنامج تطوير المنطقة الأثرية المدرجة على قوائم التراث العالمي لإعادة تقديم "عروس البحر الأحمر".
ويهدف المشروع الذي أطلقه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى "تطوير المجال المعيشي في المنطقة، لتكون مركزاً جاذباً للأعمال والمشاريع الثقافية، ومقصداً رئيساً لرواد الأعمال الطموحين"، إذ سيعمل المشروع على إبراز المعالم التراثية التي تمتلكها المنطقة، واحتوائها على أكثر من 600 مبنى تراثي، و36 مسجداً تاريخياً، وخمسة أسواق تاريخية رئيسة، إلى جانب الممرات والساحات ذات العمر الممتد، والمواقع ذات الدلالات التاريخية المهمة مثل الواجهة البحرية القديمة التي كانت طريقاً رئيساً للحجاج، والتي سيُعيد المشروع بناءها لتكون نافذة تعريفية لمكانتها في الرحلات المقدسة.
مشروع السنوات الـ15
وسيمتد العمل على المشروع الضخم إلى 15 عاماً، سيتم خلالها تطوير جدة التاريخية في البنية التحتية والخدمية، وتطوير المجال الطبيعي والبيئي، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز الجوانب الحَضرية، وذلك بهدف جعلها "موقعاً مُلهماً في المنطقة، وواجهةً عالمية للسعودية عبر استثمار مواقعها التراثية وعناصرها الثقافية والعمرانية الفريدة لبناء مجال حيوي للعيش تتوفر فيه مُمكنات الإبداع لسكانها وزائريها، انطلاقاً من رؤية عصرية للتخطيط الحضري رُوعي فيها مفهوم الحفاظ الطبيعي وضرورة مواءمته مع احتياجات الإنسان ومحفزات النمو التلقائي للإبداع"، وفق ما تضمن بيان الإعلان.
ويستهدف المشروع خلق بيئة متكاملة في جدة التاريخية تتوفر فيها مقومات طبيعية متعددة تشمل واجهات بحرية مطورة بطول 5 كم، ومساحات خضراء وحدائق مفتوحة تغطي 15 في المئة من إجمالي مساحة "جدة البلد" وضمن مساحة المشروع البالغة 2.5 كلم مربع، وسيستفيد المشروع من هذه المقومات الطبيعية عبر تحويلها إلى عناصر داعمة لبيئة صحية مستدامة تنعدم فيها أسباب التلوث البيئي.
ويراعي التصور الجديد لجدة التاريخية قيمتها في سياق التاريخ الإنساني، بوصفها نقطة التقاء رئيسة للناس والتجارة والثقافة منذ أن تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد كموقع لصيد السمك، ومروراً بمحطات نمو مفصلية منحتها حضوراً أكبر في تاريخ المنطقة، بخاصة بعد إنشاء ميناء بحري رئيس فيها خلال عهد الخليفة الإسلامي عثمان بن عفان.
البلد تجذب الأنشطة الثقافية
بالنظر إلى مركزية "البلد" كما يسميها سكانها في تاريخ المدينة الثقافي، كانت على الدوام موقعاً للأنشطة الثقافية والترفيهية التي تنظمها حكومة المدينة، إضافة إلى أنها خيار رئيس للمشاريع الثقافية الجديدة.
إذ أعلنت وزارة الثقافة قبل عام من الآن إنشاء متحف موسيقي في ذات المنطقة يحمل اسم الملحن وأحد رواد الأغنية السعودية طارق عبدالحكيم.
ويضم المتحف المُنتظر افتتاحه العام المقبل مجموعة من أرشيف ومتعلقات طارق عبد الحكيم الشخصية، وتتضمن آلات موسيقية تخص الفنان، وبكرات تحتوي على تسجيلات قديمة له، إضافةً إلى ألبوم صور ووثائق مرئية وصوتية أثناء تأديته المقطوعات الموسيقية وأغانيه، فضلاً عن تسجيلات أخرى نادرة لفنانين عرب مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، كان يحتفظ بها الموسيقار السعودي في منزله.
واختارت الوزارة "بيت المنوفي"، أحد البيوت التاريخية المسجلة في قائمة "اليونسكو" للتراث العالمي في منطقة البلد في جدة لإقامة المعرض، على أن يكون متحفاً عاماً يُقام بشكل دائم مفتوحاً طوال العام، يقدم خدمات فنية، إضافة إلى دوره كمتحف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يقتصر دور "متحف طارق عبد الحكيم" على عرض القطع والنوادر للسائحين وزوار المنطقة التاريخية، إذ يستهدف المتحف الوصول إلى الأكاديميين والمتخصصين في العلوم الفنية والموسيقية، إذ سيكون المركز منصة جامعة لكل أنواع البحوث الموسيقية، ومساحة حرة للباحثين في الموسيقى، فمن المقرر أن يحتوي على مقالات وكتابات عن الموسيقى السعودية وأرشيفها ووثائقها التاريخية، إضافة إلى أبحاث أخرى عن الموسيقى العربية، سيتولى المتحف بمساعدة الوزارة جمعها وتسهيل الوصول إليها للباحثين الموسيقيين الذين يتطلعون إلى توسيع معرفتهم بالموسيقى، أو من يبحثون عن مراجع محكمة للموسيقى في المنطقة تخدم أعمالهم البحثية والأكاديمية.
روح المدينة المتعبة
ويكتسب المشروع أهمية إضافية عطفاً على الظروف التي مرت بها خلال السنوات الماضية، إذ لم يشفع لها أن كانت ثالث مواقع البلاد في قائمة "يونسكو" حتى تحظى باهتمام يليق بالمضافين فيها.
فقد شهدت تاريخية جدة أشكالاً من الحوادث بين انهيارات وحرائق التهمت بيوتها القائمة على الخشب في طرازها المعماري، كان أولها الذي التهم سبعة مبان في 2010، تبعه انهيارات جزئية في مبان مجاورة للبيوت المحترقة.
تلا ذاك الحريق الكبير حريق آخر في 2011، الذي كاد يودي بأحد أشهر البيوت "بيت نصيف" الذي يعد متحف المنطقة ومجلس استقبال رجال الدولة الرفيعين لمكانته في تاريخ الدولة السعودية، إذ يشكل النمط المعماري للحي ذو البيوت المتلاصقة والنوافذ والسقوف الخشبية فرصة للنيران للانتقال من بيت لآخر بسلاسة.
في العام الذي أعقبه كانت جدة في موعد مع سنتها السنوية، لكن هذه المرة بحريقين اثنين.
واستراحت المدينة في 2013 من الحوادث، وهي تستعد للانضمام لقائمة التراث العالمي في 2014، إلا أن ذات المناسبة العالمية المهمة بالنسبة إليها كانت موعداً مع حريق جديد التهم سقفاً خشبياً في بناية مطلة على دوار البيعة، أعقبه حادثان في 2016، وآخر في 2017.
ويتهم المهتمون بتراث المدينة القائمين عليها بإهمال الجانب الرقابي والحماية في المنطقة التي لا تزال مسكناً لكثير من طبقات المجتمع الدنيا، التي بدورها لا تُخضع لقيود رقابية تضمن سلامة استخدام المساكن العتيقة، أو توظف بيوتها في أنشطة أكثر عمومية يمكن متابعتها.
ويمثل مشروع "إعادة إحياء جدة التاريخية" جانباً رئيساً من جهود حماية وتطوير جدة التاريخية لاستثمار التاريخ والعناصر الثقافية والعمرانية في المنطقة وتحويلها إلى روافد اقتصادية تُسهم في نمو الناتج المحلي.
وتضم المنطقة عدداً من المعالم والمباني الأثرية ، مثل آثار سور جدة وحاراتها التاريخية "حارة المظلوم، وحارة الشام، وحارة اليمن، وحارة البحر"، كما يوجد فيها عدد من المساجد التاريخية، أبرزها مسجد عثمان بن عفان، ومسجد الشافعي، ومسجد الباشا، ومسجد عكاش، ومسجد المعمار، وجامع الحنفي، إضافة إلى الأسواق.