ينوع الشاعر البحريني أحمد العجمي (63 سنة)، إصداراته الشعرية المتتالية بين القالبين، الورقي والإلكتروني، ممسكاً بزمام الأمور، وذلك كيلا يشاكسه النشر يوماً، فيقف بشروطه التقليدية الثقيلة حجر عثرة أمام فيضه المتدفق، وأمواجه الزاخمة. ومن ثم، فإنه قد تمكن من إنجاز دواوين عدة على مدار الثلاثين عاماً الماضية، مثلت في مجملها رصيداً يضاف إلى الكتابة الشعرية الجديدة في الخليج، وإلى منجز قصيدة النثر العربية الراهنة بصفة عامة، وأحدثها ديوانه "يضعُ العَمَى مكانَ الكتاب"، الصادر حديثاً في صيغة رقمية، مع لوحة غلاف من تصميم الشاعر، المعروف عنه كذلك انغماسه في الإبداع التشكيلي، وحرصه على جماليات الصورة، حرفاً ورسماً، في مواجهة عالم متآكل، وحياة ملغزة، وأوقات بغيضة ضيقة "من الأنف والأذنين، تنهمر صُوَري، تنسكب في الأيام المُرّة".
تأتي الرؤية، الملتقطة بواسطة حاسة الإبصار والمستقاة من إلهامات البصيرة، في مقدمة الروافد والمنابع التي تغذي تجربة أحمد العجمي الشعرية. ويتجلى ذلك في عناوين كثير من دواوينه، من قبيل، "نسل المصابيح"، و"أرى الموسيقى"، و"للحجر عقل مضيء"، و"الضوء كلب أبيض"، و"إنما هي جلوة ورؤى"، وغيرها. وفي عمله الجديد "يضعُ العَمَى مكانَ الكتاب"، يتبلور الاهتمام ذاته، ليس فقط في العنوان المحيل إلى ثنائية "الرؤية المفقودة"، و"الرؤية البديلة"، وإنما على امتداد نصوص الكتاب، التي هي مزيج مضطرب من الوميض البرقي، والظلال السوداء القاتمة، "الشاعر مات/ وُضِعَتْ سيرته في جرّة/ أما جمْرُ قصائده/ فالمستقبل يضعه في رئتيه/ وينثر اشتعاله/ خارج الأسوار".
حالة الغياب
وهذه التلميحات تعكس بتردداتها الطيفية السريعة حالة الغياب الكائنة، بكل ما تتضمنه من عبث المسارات والخطوات، ومتاهة الفقدان والضياع، وحيرة المتصوف إزاء ضبابية الواقع وتفككه، حتى في أقرب لحظات الصدق المتاحة، وعند أبسط محاولات مواجهة الذات المتعرية، "حين أرسم وجهي في المرآة/ ينطبع ما طـُبِخَ في الروح من القلق، والتوجس، والظلال البعيدة/ وما هو منبوذ، أو منسي".
يتطور هذا الارتكاز على الرؤية الصافية النقية إلى درجة أنه يقود الشاعر إلى مطالعة كل المحيطين به من بشر وكائنات وأشياء ومفردات وعلاقات، من خلال بلورة عملاقة، أو عدسة كبرى، حيث تحدث عملية فلترة، من أجل التخلص من الشوائب والنوافل. وعند هذه النقطة غير الثابتة، تتقلص المسافة بين الحقيقة والاستحالة، وبين الأرض الموطوءة بالأقدام والكوكب الخرافي غير الممسوس، وبين الإنسان المتورم الملوث بالمادية وتقنيات العصر العولمي الصناعي، وذلك المخلوق من الطمي، الذي لا يزال يعجن الضوء بيده غير ملتفت إلى عجلة الزمن، "حين ينتفخ الفم/ المرسوم في غير مكانه/ تركض المذلة/ لتدخله، وتسمن".
ولا تجد الذات الشاعرة سبباً للتنحي عن امتطاء الأرجوحة الدائرة بعنف، والتخلي عن فكرة التأرجح. فهذا التذبذب بين "أن تكون" و"أن لا تكون"، هو أفضل من الإقرار بسقوط كل الأوراق الصفراء، والاعتراف بذبول الأجنحة. وهذا الانتظار الاحتمالي بين البياض والسواد، من أجل موجة قد تدافع ذات يوم عن الأسماك الهوجاء، هو أرحم من استصدار شهادة جفاف للبحر المتبخر. وهذا الاستمساك بالسراب الطيب الفواح، هو أحَن إجابة عن تساؤلات العطش ومسائل الخلود "سأستمر في الغموض، في الحركة/ لن أغادر السفينة/ سأمسكُ بعطر روحك/ الذي يؤَمّن لي.. أبدية خاصة".
عيون العشق
يتخذ الشاعر أحمد العجمي من الأخرى أو الـ"هي" شريكة ملازمة له على امتداد الديوان، لكي تعينه على أن يضع "الكتاب" مكان "العَمَى"، وهو مفهوم مضاد لما يثبته عنوان الديوان من وضع "العمَى" مكان "الكتاب". فالقدرة الاستثنائية التي تمنحها له هذه الأخرى (المرأة الواصلة بين الأرض والسماء بمعاني الخصوبة المتنوعة) هي طاقة خلاقة وافية، تبدد العمى بعيداً، لتحل محله نوافذ استبصارية واستبطانية كثيرة، منها حروف الأبجدية، التي هي ألف عين وعين، وألف قلب وقلب، للرؤية وللاستشعار معاً. وفي هذا السياق، فإن العشق بحد ذاته هو أعظم الكتب، وأجملها، وأنبلها. وهو كتاب، على ندرة صفحاته، لا يكتفي بإزالة العَمَى، وإنما يوقظ سائر الحواس المتعطلة، "غنوا، وارقصوا/ تجردوا من السلاسل/ التي تربط الحب بذيل الماضي/ .. / زمن الحب قصير/ مرتفع/ ألوانه لا تضيع/ في العين التي تشرب منه".
هذه الـ"هي" المتجاوزة، الطاردة للجروح والمواجع، لا تنسحب أبداً من أشواط مباراتها مع اليأس، وهي تمضي لتحفر كذلك تحت كلمة الكينونة، وتتحسس قعر الأيام، لتعيد صياغة الشاعر من جذوره العميقة، كما أنها لا تنفك تتبادل الابتسامات مع الشموس القليلة في الوجود، وتضع فمها على النار وتنفخ، ليخرج السحر المفتوح من ظلامها، "بين أصابعك/ يتحرك طقس عاصف/ فما هي نبوءتك، عن الشموع التي لا تتحاور معي؟/ ذاتك تطير وسط دخاني/ في نارك، يحتفظ الزمن بسره عن القلب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبقى نظرة الشاعر إلى القصيدة المراوغة، التي يطاردها طوال عمره، ويظل يطاردها بعد موته، فهي بالضرورة حُبلى بحمولات كامنة، وكلمات مخبوءة، تقفز من رمادها، لتكمل رحلة مضنية، على عتبات السلّم، المصنوعة من الأحلام. ومثل هذه النصوص المشحونة بالنبض، هي وحدها التي يراهن عليها الشاعر، لكون عدواها المرغوبة تمتد، لتصيب المتلقي بالرغبة في النهوض وكسر الحواجز وارتياد الفضاءات، "ذرات الرؤيا/ ستتحول إلى شهب/ كذلك الشِّعر الجميل/ سيحول أرواح قارئيه/ إلى سفن مضاءة بالخيالات".
ومثلما تمتلئ لعبة الحياة بالأسرار المستغلقة، ويحفل الواقع الملموس بالأزمات المستعصية على الحل، فإن قصيدة الشاعر في المقابل لا تتكئ على لغة توصيلية شافية، بقدر ما تستند إلى رموز وأيقونات ومفاجآت، لكنها سلسة غير معقدة. فهي تتكشف تدريجاً لأولئك القادرين على استيعابها، وهم البسطاء العاديون، شركاء العيش والمعاناة. فالشاعر يرى النخبويين منعزلين خارج المسرح "يعيدون بناء الملل، ويُخرجون عوالم مشوشة، ليس لها نجوم تضحك!".