سيبدو الأمر في النهاية وكأننا أمام "بروفة" عامة لما سوف يحدث وإن على نطاق أوسع كثيراً بعد ذلك بقرن وأكثر، وما سيحدث بالنسبة إلينا هنا هو تلك الخيبة التي أصابت أعداداً كبيرة من المثقفين، الذين كانوا أول الأمر قد آمنوا بفكرة أو بزعيم ثم على ضوء الواقع وجدوا أنفسهم خائبين. ولئن كانت الحال الأشهر في هذا المجال كانت تلك التي شهدها الربع الثاني من القرن العشرين، حين كانت الثورة البلشفية والأفكار التي انطلقت منها قد بعثت آمالاً عراضاً لدى الشرائح الأكثر تقدماً من المثقفين والمفكرين، بل حتى لدى الناس العاديين، ثم ما إن تحولت الثورة إلى دولة وما إن خلف ستالين لينين، حتى تبين خطأ كل تلك الآمال التي كان أولئك الناس بنوها حملوها فانصرفوا عنها، إن لم يقاوموا فيودعون السجون أو يهربون إلى المنافي أو يصل بهم الأمر إلى الانتحار.
نابليون غازي ألمانيا
أما ما بدأنا به كلامنا بوصفه تلك "البروفة" العامة، فهو ما كان قد حدث قبل ذلك بعقود عدة من السنين في أوروبا نفسها، يوم كان فكر الثورة الفرنسية "المنتصرة" منذ حين قد بدأ يشع في القارة والعالم، وكان نابليون يعتبر رجل الأقدار الذي طلع من قلب تلك الثورة ليحدث إنقلاباً في مفاهيم الحكم والعالم، بيد أن نابوليون سرعان ما تكشف مجرد طاغية يريد الحكم والسلطة غير مبال بالأفكار التي كان يحملها ولا حتى بالواقع الذي جعله يطلع من صفوف الشعب البسيط، ليتبوأ أعلى مراتب السلطة.
ولكن أكثر من ذلك، ليحتل بلاد الآخرين ويستولي على كنوز بلادهم، وبالطبع سوف يكون المثقفون الكبار في العديد من الدول الأوروبية في طليعة خائبي الأمل بعدما كانوا في طليعة الآملين فيه من قبل، وطبعاً لن يكون من المنطقي في هذا السياق المقارنة بين حجم الخيبة التي سببها نابليون، وتلك التي سوف تنتج عن تصرفات ستالين.
ولكن حسبنا أن نذكر هنا أن ثلاثة على الأقل من كبار المبدعين الألمان كانوا في عداد أولئك الذين صدمهم نابليون، بيتهوفن وهيغيل وغوته، ولسنا ندري ما إذا كان العالم قد عرف في ذلك الحين أسماء أكبر من هذه الأسماء، ونخص بالذكر هنا بيتهوفن الذي بعدما كان قد أنجز عملاً موسيقياً كبيراً يحيي فيه ذلك البطل الجار الآتي لإنقاذ كرامة العالم، رمى ما كان لحنه ليصبح واحداً من أشد منتقدي "الجنرال الكورسيكي القصير"، لكن الحكاية الأهم هنا هي حكاية غوته، الذي كان يعتبر في ذلك الحين أكبر مثقفي أوروبا وربما العالم، وربما الأكثر حكمة بين الحكماء.
عن اللقاء التاريخي
فهل كانت حكمته تلك ما جعله بعد مواقف بالغة القسوة والحدة تجاه نابليون، حلت مكان إعجابه السابق الكبير به، يعود ليتخذ موقفاً لا يزال حتى اليوم موضع سجال، إن لم نقل محط شجب في الأوساط الثقافية الألمانية؟ هذا على الأقل ما يرويه كتاب صدر في ألمانيا قبل نحو عقد ونصف العقد بعنوان "غوته ونابليون، لقاء تاريخي"، ففي هذا الكتاب يقدم لنا مؤلفه غوستاف سيبت صورة لغوته ما كان يمكن أن نصدقها لولا أن سيبت معروف في الحياة الأكاديمية والصحافية الألمانية بموضوعيته ودقة أحكامه، ومن هنا لا يعود لنا إلا أن نأخذ يعين الجدية ما يخلص إليه في الكتاب من أن غوته، وفي العلاقة مع نابليون على الأقل، بدا في نهاية الأمر انتهازياً، ولكي يبرهن على هذا الحكم الذي يكاد يكون مبرماً، يعود المؤلف 200 سنة تسبق صدور كتابه هذا، بمعنى أنه يستعيد الذكرى المئوية الثانية للقاء بين غوته ونابليون، يتحدث عنه ويحدد تاريخه بكونه تال بالتأكيد لاحتلال نابليون أجزاء من الأراضي الألمانية وانقلاب الموقف الألماني تجاهه، بما في ذلك موقفا بيتهوفن وهيغيل، أما بالنسبة إلى غوته فالأمر يختلف بحسب سيبت، ولكي تتوضح الأمور بالنسبة إلينا نعود إلى العام 1808 تحديداً وإلى بلدة إيرفورت الألمانية التي كانت جيوش نابليون قد استولت عليها منذ فترة ضمن إطار احتلالها لأراض ألمانية واسعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتفالات ألمانية بالنصر الفرنسي
ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، دعا الغازي الفرنسي لفيفاً من الأمراء والقواد والمسؤولين العسكريين والمدنيين البروسيين إلى حفل صاخب يقيمه في تلك البلدة البروسية، تتويجاً لثلاثة أسابيع من لقاءات اجتماعية وفكرية تدور من حول "الأخوة" بين الشعبين الفرنسي والألماني، وتتخللها حفلات صاخبة وندوات فكرية وحتى استعراضات موسيقية كان هدفه منها أن يترك انطباعاً جيداً لدى الألمان الجيران، وبالتالي حرص على دعوة كل من يعيش في المنطقة وحولها من فنانين ومبدعين، كان من سوء حظه أن معظمهم كانوا من الدرجات الدنيا، بخاصة أن المنطقة ريفية ليس فيها نشاط إبداعي كبير، بينما رفض مبدعون كبار يقيمون في مدن بروسية أخرى المشاركة معتبرين القائد الفرنسي محتلاً لبلادهم، غير أن ذلك الاستنكاف العام، لاقى استثناء تمثل في غوته تحديداً، فهو المقيم في فايمار غير البعيدة كان الوحيد الذي أبدى موافقته على الحضور والمشاركة بوصفه جاراً مقيماً غير بعيد عن إيرفورت لا بوصفه مبدعاً كبيراً، كما قال للذين حوله، وانطلاقاً من فضوله "الذي لا برء منه"، كما قال لنفسه، وكانت النتيجة بحسب مؤلف الكتاب، ذلك اللقاء الذي كان "تاريخياً" بحسب ما جاء في عنوان الكتاب، بين قمتين أوروبيتين في ذلك الحين، وربما في الأزمنة كلها: قمة العقل العسكري الاستراتيجي وقمة العقل الفكري الإبداعي والمعرفي.
قارئ غير متوقع لـ"فرتر"
ومن الطبيعي أن يكون ما دار خلال ذلك اللقاء الموضوع المحوري في الكتاب، الذي استُند فيه إلى عدد كبير وموثوق من الصحف والوثائق وذكريات الذين كانوا من بين شهود اللقاء، ناهيك بما دونه غوته نفسه حول الموضوع، وأتى متقاطعاً مع ما سوف يدونه نابليون نفسه، ولئن كان الحديث قد دار يومها بشكل عام من حول المسرح ومن حول شخصية فاوست وما كتبه وسيكتبه غوته عنها، فإن القائد الفرنسي الذي "راح ينظر إلى المبدع الألماني نظرات معجب شاب إلى معلم كبير"، حرص على أن يطيل الحديث عن رواية غوته الكبرى "أشجان فرتر"، مؤكداً بلهجة ودية أنه قرأها ما لا يقل عن سبع مرات في حياته، وأنه على استعداد دائم كي يعيد قراءتها من جديد، وطبعاً يمكن القول هنا، تبعاً على الأقل للنقاد الألمان الذين علقوا على كتاب سيبت، إن المعلومات المتعلقة بما دار من حديث بين الإثنين لا تشفي الغليل بالنسبة إلى التفاصيل، ومع ذلك يمكن التوقف طبعاً عند واحدة من النتائج المباشرة التي أسفر عنها اللقاء: منح نابليون في نهايته حكيم الألمان الكبير، وسام جوقة الشرف الذي قبله هذا شاكراً وراح يفتخر بحمله، وفي المقابل أعاد الفرنسي إلى حظيرة أنصاره والمعجبين به مفكراً كبيراً كان من الواضح أن كثراً من الألمان يعتبرونه قدوة لهم ويبدون استعداداً دائماً لملاقاته في أفكاره.
غوته الذي لا يمس
ومهما يكن من أمر، هناك من بين المؤرخين الألمان عدد لم يفته وحتى من قبل صدور كتاب سيبت، الذي استند أصلاً إلى كتاب جامع آخر كان قد اشتغل عليه صحافي ألماني يدعى ثيودور آرنولد، وصف وقائع مؤتمر نابليون في المدينة والاحتفالات التي دارت من حوله بتكليف من مجلس بلديتها إنما من دون تعليق، لم يفته الإشارة إلى أن موقف غوته من نابليون كان قد تبدل بالتدريج قبل ذلك، فهو إذ كان وصفه بالانتهازي والوصولي المغرور يوم احتل الأراضي الألمانية، عاد وخفف لهجته تجاهه حتى قبل إيرفورت، فجاءت هذه تتويجاً لتدرج جعل كثراً يترددون من دون وصف غوته بالانتهازي! وبقي أن نذكر أخيراً أن مجلس آباء الأمة الألمانية وبعد أن زال الاحتلال الفرنسي وانتهى أمر نابليون، تعمدوا أن يحيطوا غوته برعايتهم، معتبرينه بدوره واحداً من "بناة الأمة الألمانية" من دون أن يأتي أي منهم على ذكر لقائه بنابليون.