أياً كانت قوة أو أهمية الموضوع الذي يناقشه مسرح المونودراما، فإن الأمر في النهاية يتوقف على قدرات الممثل الذي يقدم هذا اللون المسرحي. وبالتأكيد فإن العناصر الأخرى من نص وإخراج وإضاءة وديكور وموسيقى، مهمة في بناء الصورة الكلية للعرض المسرحي، لكن الأمر يتوقف أولاً وأخيراً على الممثل الذي يتحمل العبء الأكبر في عروض المونودراما.
في العرض المسرحي المصري" فريدة" الذي يقدمه مسرح الطليعة، (كتابة وإخراج أكرم مصطفى) تكاملت العناصر بالفعل، وتضافرت معاً، لتقدم في النهاية عرضاً ممتعاً على مستوى الفكرة والصورة والأداء التمثيلي.
نص العرض مأخوذ عن "أغنية البجعة" لأنطون تشيخوف، ويحكي عن ممثل وجد نفسه وحيداً مع ملقن بعد انتهاء العرض المسرحي وبدأ يتذكر رحلته الفنية وحياته وما آلت إليه من نجاح وفشل. أما "أغنية البجعة"، فهي تعبير يرمز إلى آخر إيماءة أو حركة تؤدى قبل الرحيل، وهذ التعبير مأخوذ عن اعتقاد قديم بأن البجع، الذي عادة ما يكون صامتاً ولا يصدر أصواتاً في حياته، يغني أغنية جميلة في الدقيقة الأخيرة قبل رحيله.
ممثلة متقاعدة
كاتب النص ومخرج العرض، استبدل بالممثل في نص تشيخوف ممثلة لعبت بطولة عديد الأعمال المسرحية، ثم تقاعدت بعد تقدمها في العمر، وانصرفت عنها الأضواء. هذه الممثلة مدمنة على الشرب، ومدمنة كذلك على الذهاب إلى بروفات العروض المسرحية بالمسرح الذي كانت تعمل به، ربما لأن حنينها إلى المسرح لا يفارقها، وأن تحققها لا يكون إلا بداخله.
لم يسر الكاتب على درب تشيخوف، وعمل على موضوع محلي، فبطلته تدعى فريدة، كما أن المشاهد الستة التي قدمتها، تنوعت بين ما هو عالمي وما هو محلي، بعضها بالفصحى، والبعض الآخر بالعامية المصرية. أدرك الكاتب هنا أهمية فكرة التنوع، والانتقال من شخصية إلى أخرى، ما يكسب نص العرض قدراً من الحيوية، وقدرة على الاستحواذ على حواس المشاهد جميعاً. لسنا هنا بصدد نص أدبي، فهو نص مكتوب للتمثيل أساساً، وهنا تتجلى خبرته كمخرج، فالنص مقروءاً يفقد كثيراً من تأثيره وأهميته. هناك أفكار ومشاعر يصعب التعبير عنها من دون أداء تمثيلي قادر على حمل هذه الشحنات الإنسانية إلى المشاهد. وهنا أيضاً تتجلى خبرة المخرج في اختيار بطلته، التي تستطيع إقناع المشاهد بقضيتها، من خلال مواصفاتها العمرية والجسدية وخبراتها كممثلة مسرح.
انتقال سلس
بدت الممثلة القديرة عايدة فهمي، وهي واحدة من أبرز ممثلات المسرح المصري، في كامل تألقها وهي تنتقل من شخصية السيدة العجوز التي تسير بصعوبة، محنية الظهر، إلى أداء شخصية ميديا في مسرحية "يوربيدوس"، تلك الأميرة السابقة لمملكة كولشيس "البربرية"، وزوجها ياسون، الذي تركها لأجل أميرة كورنث اليونانية. وتنتقم ميديا بقتل أطفالها وقتل زوجته الجديدة، ثم تهرب إلى أثينا لبدء حياة جديدة. أو تؤدي شخصية ليدي ماكبث التي حرضت زوجها على قتل الملك للحصول على الحكم، في مسرحية شكسبير. ثم تعود إلى شخصيتها كممثلة متقاعدة، وبعدها تعود إلى أداء شخصية أخرى، وكلها شخصيات في مقتبل العمر وعنفوانه، وهي في هذه أو تلك، تؤدي ببراعة وإقناع، وتنتقل من هنا إلى هناك بسلاسة ونعومة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان على مصمم الديكور والإضاءة عمرو عبد الله، أن يتعامل مع قاعة صلاح عبد الصبور، التي أقيم العرض على مسرحها بصياغة تقربها إلى مسرح العلبة الإيطالي، فنص العرض عن ممثلة تقف على خشبة مسرح، بعد أن انتهت الفرقة المسرحية من أداء بروفاتها. أي أن العلبة هنا كانت ضرورة، كذلك فقد بدت خشبة المسرح مليئة ببعض القطع المتنافرة، التي يبدو من الوهلة الأولى أن لا رباط بينها. فهناك عمود روماني، وباب في العمق متروك من دون استعمال، ومرآة قديمة مغبرة، وكرسي مستطيل، وحامل ملابس. وكل تلك القطع، رغم تنافرها، تم توظيفها في خدمة العرض ولم تجلب اعتباطاً، بخاصة أن المشاهد الستة التي أدتها الممثلة، سواء من المسرح العالمي أو المحلي، كان لها ما يعادلها من قطع الديكور. فضلاً عن أن وضعية قطع الديكور نفسها توحي بفكرة البقايا، بقايا ديكور مع بقايا ممثلة، وكأننا أمام عالم منهار أو في سبيله إلى الانهيار التام.
اتسمت الإضاءة التي صممت بشاعرية تناسب تلك الحالة من النوستالجيا التي كانت عليها بطلة العرض، متنوعة ما بين الخفوت والسطوع النسبي، وإن غلب الخفوت تماشياً مع الحالات التي يتم تجسيدها. وكأن الشخصية أمامنا تلملم أوراقها تمهيداً للرحيل، كأنها بالفعل تطلق أغنيتها الأخيرة. وهو ما وعى إليه مؤلف الموسيقى أحمد حمدي رءوف بموسيقاه الأسيانة في لحظات حضور البطلة بشخصها، أو موسيقاه المتوترة الرصينة في مشاهد ليدي ماكبث أو ميديا، أو الفرحة المبهجة في مشاهد المسرح المحلي التي تم تقديمها.
كسر حدة السرد
السرد المتواصل يجلب الملل، لذلك لجأ الكاتب- المخرج إلى حيلة تخفف من حدة السرد. فالممثلة التي غافلت أعضاء الفرقة المسرحية وبقيت وحدها على خشبة المسرح بعد مغادرتهم، تتلقى من وقت إلى آخر مكالمة هاتفية من إحدى صديقاتها للاطمئنان عليها. حتى إنها تقطع أحياناً استغراقها في أداء مشهدها التمثيلي، لتنتقل إلى المحادثة الهاتفية، التي تفصح أكثر عن شخصيتها كممثلة متقاعدة، وكل ذلك بدا مقصوداً وموظفاً في العرض. عندما وجدت الممثلة نفسها وحيدة على خشبة المسرح، بدأت في استرجاع ماضيها مع التمثيل وتذكر أدوارها التي قدمتها في صباها ونالت عنها إعجاب المشاهدين. وتحولت تلك العجوز التي تسير بالكاد، إلى شابة مشحونة بالطاقة والحيوية، لكنها كانت تعود سريعاً إلى حالتها الطبيعية بمجرد انتهاء المشهد أو تلقيها مكالمة من صديقتها.
نجح المخرج كذلك في رسم خطوط الحركة لبطلته، صانعاً بتلك الخطوط إيقاعاً منضبطاً، لا علاقة له بالسرعة أو بالبطء، لكن علاقته هنا بالحالات التي يتم تجسيدها، ومتى تسترسل الممثلة ومتى تتوقف. كل ذلك وفق خطة محكمة، لا تدع فرصة للمتلقي ليفكر في شيء غير الحالة أمامه، الحالة التي فيها من الأسى والشجن، وتأمل المصائر البشرية، ما يجعل العرض شديد التأثير على المشاهد.
في المشهد الأخير وعندما يكتشف عمال المسرح وجود الممثلة ويطلبون منها مغادرة المسرح، تذهب إلى حامل الملابس وكانت وضعت عليه جاكيت وإلى جواره شال لها، لا ترتدي الجاكيت ولا تضع الشال على كتفها، لكنها تسحبهما وراءها لتعلق بهما أتربة المسرح... بدت كما لو كانت تجر أذيال الخيبة، أو كأنها تعطر ملابسها بهذا التراب الذي تعودت رائحته وارتبطت به. والتأويلان يجوزان، وربما تجوز تأويلات أخرى، فالعرض فيه من الثراء ما يسمح بتعدد التأويلات.
هي في الختام ليست مجرد حالة شجنية بقدر ما هي درس في التمثيل قدمته ممثلة موهوبة وصاحبة خبرة، أعانها نص مكتوب بوعي شديد، ورؤية إخراجية جيدة، وديكور وإضاءة وموسيقى، شكلت جميعاً ومعاً حالة مسرحية تترك أثراً عميقاً في نفوس المشاهدين.