في بدايات الإنترنت وقبل تقديمها للقطاع المدني في أميركا، كان أمراً عادياً أن تجد اسماً ظهر أمامك على الشاشة يدردش معك من دون أن تعرف من هو، إلا إن كان هناك اتفاق مسبق بينكما على الأسماء المستعارة والتوقيت. وفي يوم من الأيام أيضاً كان من الممكن استخدام الذرة في المقايضة.
ومن شهدوا ولادة الإنترنت قبل زمن غير بعيد، على وشك أن يعاصروا قريباً المرحلة الثالثة للشبكة العنكبوتية، التي يمول بناؤها العملات الرقمية لخدمة مرحلة جديدة من الاقتصاد المشفر واللامركزي على مستوى العالم.
شركات الـ "ويب 2"
في الماضي القريب، كان استخدام النسخة الأولى من شبكة الإنترنت "ويب 1" يقتصر غالباً على التصفح ورسائل البريد الإلكتروني. وخلال الفترة من 1994 إلى 2004 تسببت مجهودات مطوري البرامج والعتاد في الانتقال للنسخة الثانية "ويب 2"، التي أطلق عليها اسم الشبكة الاجتماعية، واستقبلها المطورون والشركات بآمال عريضة، لأنها أتاحت نموذجاً هائلاً للربح يقوم على بناء مواقع أو تطبيقات وإطلاقها والتربح من قاعدة المستخدمين.
وسار على هذا النموذج موقع "تويتر" و"إنستغرام" و"يوتيوب" و"لينكد إن" وغيرها من شركات الـ "ويب 2". ولأن هذه الشركات احتاجت في بدايتها إلى رأسمال استثماري سيجعلها على النمو المستدام في الأرباح، فقد اتجهوا جميعاً في النهاية إلى الإعلانات أو الاتجار في البيانات الشخصية. وحالياً هذا هو النموذج الربحي الوحيد الذي نعرفه من الإنترنت، وخلال الأعوام العشرة الأخيرة لم تحدث نقلة نوعية على الشبكة العنكبوتية.
بروتوكولات الاقتصاد المشفر
لكن، المستقبل الذي يجري التحضير له حالياً سينقل المستخدمين إلى النسخة الثالثة من الشبكة العنكبوتية "ويب 3". وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة عن سابقتها، فإن الملمح المنتظر هو أن اللامركزية والتشفير هما جوهر النقلة الجديدة التي يعمل المطورون على صناعتها، فيما توفر العملات المشفرة الحافز المالي لصناعة هذا التغيير.
والتطبيقات الجديدة التي يعمل المطورون على تصميمها حالياً تعمل على شبكات "البلوك تشين" اللامركزية وشبكات "الند للند"، أو مزيج منهما يعرف باسم بروتوكولات الاقتصاد المشفر.
وتقدم هذه البروتوكولات خدمات متنوعة، مثل الحوسبة والتخزين والهوية وخدمات الويب الأخرى التي كان يقدمها عادة موفرو السحابة الرقمية في الماضي. ويمكن للمشاركين في تقديم هذه الخدمات الربح من خلال المشاركة بطرق مختلفة على المستويين التقني وغير التقني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا تلعب العملات المشفرة دوراً كبيراً، لأنها توفر الحافز المالي، وهو الـ "توكنز" لأي شخص يرغب في المشاركة سواء بإنشاء أو تطوير أو تحسين أو إدارة أو نشر عتاد أحد مشروعات أو بروتوكولات الـ "نت 3".
وبالطبع، يدفع المستفيدون من هذه الخدمات مثلما يدفعون لخدمات السحابة الرقمية لشركات عديدة حالياً، باستثناء أن العملات الرقمية تذهب إلى المشاركين في إنشاء شبكة الإنترنت بشكلها الجديد وليس الشركات، أي من دون وسطاء.
وحالياً هناك عديد من أشكال اللا مركزية الاقتصادية التي يجري فيها استبعاد الوسطاء سواء على مستوى المؤسسات أو الأشخاص العاديين، مثل بروتوكولات "أكس أر بي"، و"فايل كوين"، و"شيا"، و"ذي جراف".
وتوفر المدفوعات المشفرة المدمجة في التطبيقات المعتمدة على بروتوكولات الاقتصاد المشفر لا مركزية تامة وسرية، حيث لا يطلع طرف ثالث على معلوماتك الشخصية، كما تتيح دمج المدفوعات والمعاملات الدولية بسرية في محافظ رقمية تتمتع بأمان أكبر من المعهود في الإنترنت حالياً.
شركات الـ "ويب 3"
يقول المحلل الاقتصادي محمد جميل، "الوضع الحالي لبناء الشركات يحتاج إلى فكرة ورأسمال من مستثمر أو مجموعة مستثمرين، في المقابل يتخلى صاحب الفكرة عن نسبة مئوية من الشركة للمستثمر. وعل الرغم من أن سيطرة رأس المال لا تتماشى على المدى الطويل مع بناء أفضل تجربة للمستخدم، إلا أن بعض الشركات في الوقت نفسه، تستغرق وقتاً طويلاً لتحقيق أي ربح، ما يؤدي لسنوات من العمل دون عائد حقيقي على الاستثمار".
وأضاف، "بدلاً من هذا النموذج يمكنك تخيل مستقبل الاستثمار أنه بمجرد أن يعلن صاحب مشروع جيد عنه، يمكن لأي شخص المساهمة فيه من اليوم الأول، بمجرد أن يطرح صاحب الفكرة عدداً ما من المسكوكات الرمزية (توكنز)، يمنح 10 في المئة منها للمساهمين الأوائل، ويطرح 10 في المئة للبيع للجمهور، ويخصص البقية للتمويل المستقبلي والدفع للمساهمين".
وتابع، "يمكن لمالكي التوكنز استخدامها في التصويت على التغييرات التي تطرأ على مستقبل المشروع، ولمن ساعدوا في بناء المشروع حق بيع بعض ما يملكون من التوكنز بهدف الربح، كما يستطيع من يؤمنون بنجاح المشروع شراء مزيد من هذه التوكنز، ويمكن كذلك لمن يعتقدون أن الشركة تسير في الاتجاه الخاطئ بيع حصصهم".
وأشار إلى أن من أهم النقاط من وجهة نظره أن "بيانات البلوك تشين عامة ومفتوحة للجميع، بالتالي سيتمتع المشترون بشفافية كاملة بشأن ما يحدث في المشروع، وذلك على عكس شراء الأسهم، حيث غالباً ما يجري إخفاء عديد من الأشياء عن حاملي الأسهم".
وأجاب عن سؤال عن ماهية التوكنز بأنها "أصل رقمي يتم إصداره ويعمل على بلوك تشين وبروتوكول عملة رقمية أخرى. إيثيروم على سبيل المثال عبارة عن بلوك تشين وعملتها هي إيثير، لكن هناك توكنز عديدة أخرى يتم إصدارها اعتماداً على الإيثيريوم. وهذه التوكنز لها قيمة ويمكن استبدالها بالعملات الرقمية، لكن لها استخدامات أكثر تنوعاً، حيث يمكن أن تمثل أصولاً مادية أو خدمات، هناك توكنز مثلاً تمثل أصولاً مثل العقارات أو الأعمال الفنية".
وتابع "الطرح الأولي لهذه التوكنز يكون إما بعدد ثابت أو على حسب كمية الأموال المراد جمعها"، مشيراً إلى أنها "تقدم قيمة لمالكيها بخلاف عمليات المضاربة التي تحدث على العملات الرقمية، إلا أنه لا يمكن اعتبارها نقوداً بالمعنى نفسه الذي تستخدم به العملات المشفرة". مؤكداً أن ما يحدث الآن في مرحلة الانتقال إلى "ويب 3" سيكون له تأثير عميق على الاقتصاد العالمي، وأن عدم اللحاق به سيقسم العالم إلى قسمين، الأكثر استفادة منه هو الأكثر نجاحاً ورخاءً.