قبل نحو عشرين عاماً، في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، اصطدمت طائرتان اختُطفتا ببرجي "مركز التجارة العالمي" في نيويورك، وتحطمت ثالثة بمبنى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في واشنطن، وهوت طائرة رابعة في حقل في ولاية بنسلفانيا، بعد مواجهةٍ بين ركابها والخاطفين. عندما وقعت جميع تلك الهجمات كان كاتب هذا الموضوع في "البرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي".
كان صباح ذلك اليوم صافياً وشمسه مشرقة، وكان أحد تلك الصباحات الخريفية المثالية التي تطبع ضاحية مانهاتن، عندما كان من الرائع أن يكون شخصٌ ما على قيد الحياة في مدينة نيويورك. الناس كعادتهم تدفقوا إلى مراكز أعمالهم من محطات العبَّارات المائية، ارتشفوا أكواب القهوة من أكشاك الشوارع، وابتاعوا صحيفتهم.
أما أنا، فوصلتُ إلى البرج الجنوبي -المبنى الثاني من "مركز التجارة العالمي"- قرابة الساعة الثامنة والنصف، وكنت أحاولُ تضييع بعض الوقت في الطابق الأرضي قبل الانتقال إلى اجتماعي.
عند الساعة الثامنة و46 دقيقة، سمعتُ صوت تحطّم معدني عنيف، كان أشبه بإلقاء حاوية ضخمة للمبنى من ارتفاع شاهق على الأرض. وبسرعة خاطفة ملأ الغبار الردهة. هرعت إلى الخارج في حال ارتباك، أكثر منها خوفاً. وعندما نظرتُ إلى أعلى، كان بإمكاني أن أرى جوف المبنى الذي اصطدمت به الطائرة الأولى، وتصاعد ألسنة اللهب.
ومع ذلك، حتى في تلك اللحظة، كان الشعور السائد حالاً من الذهول تتخطى واقع ما يحدث. لم أستطع تصديق الدليل الذي قدَّمته لي عيناي. كان الأمر غير واقعي - وكلمة سريالية هي الوصف الأنسب لأحداث ذلك اليوم، تماماً كمَن يشاهد فيلماً من خلف مسرح التصوير.
وبما أنه قبل أيامٍ قليلة كانت طائرةٌ خفيفة الوزن قد ارتطمت بـ"تمثال الحرية"، فقد ذهب تفكيري إلى أن ما يجري، يجب أن يكون مشابهاً لتلك الحادثة، لكن هل يُحتمل أن يكون متعمّداً؟ كيف يمكن ذلك؟
غريزة الصحافي في تسجيل اللحظة طغت عليَّ، فأقنعت بائع صحف كان عند قاعدة البرج، بالسماح لي باستخدام هاتفه، لأن خدمة الهواتف المحمولة قد تعطّلت. في الساعة التاسعة صباحاً، كنتُ على الهواء مع "راديو بي بي سي" عندما اصطدمت الطائرة الثانية بالبرج الآخر، الأمر الذي دحض جميع الشكوك في أن ما يحصل هو مجرد حادثة. سارع بائع الجرائد عند قاعدة البرج الجنوبي إلى إغلاق شباك كشكه وبابه، ومنعني من استخدام هاتفه. وقد اضطُررتُ في نهاية المطاف إلى استئجار غرفة في فندق "إيمباسي سويتس" Embassy Suites عند ناصية الموقع، فقط من أجل استخدام الهاتف الأرضي.
مرة أخرى، تملَّكني شعورٌ بالإنكار وبعدم تصديق ما يحدث. أذكر أنني نظرتُ إلى صف حافلات الإطفاء في شارع فيسي المجاور، وقلتُ في نفسي مع اندفاع رجال الإطفاء إلى داخل البرجين إن "كل شيء سيكون على ما يرام الآن. والسلطات تسيطر على الوضع". لكن في غضون نصف ساعة من تفاعل ذاك الحدث، كان الأشخاص الذين يتابعون الوضع عبر شاشات التلفزيون في مختلف أنحاء العالم، على علمٍ فعلاً بمنحى التطورات أكثر مما كنا نعرفه نحن الموجودين في ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ"غراوند زيرو" Ground Zero (المصطلح كان يُستخدم سابقاً لوصف موقع انفجارٍ نووي، ومن ثم لاحقاً للإشارة إلى مكان وقوع حدثٍ عنيف أو درامي).
أذكر أيضاً أنني في لحظة ما خلال تغطية مشاهداتي، قلتُ على هواء الإذاعة إن انفجاراً قد وقع -وما كنتُ أعنيه أنه كان أشبه بـ"الانفجار العظيم" Big Bang (النظرية الفيزيائية السائدة لتفسير نشأة الكون)، لكن التعبير الذي استخدمته أصبح في ما بعد دليلاً على نظريات المؤامرة السخيفة: فقد ردد كثيرون أن "(بي بي سي) تحدثت عن وقوع انفجار في البرجين". وبقيتُ لأعوام تلت أتلقى رسائل بريد إلكتروني من الذين يعتقدون بتلك النظريات، وكنتُ أرد عليهم بأنه لم يقع انفجار، وأن الإنسان قد وطأت فعلاً قدماه سطح القمر، وأن توني بلير (رئيس الوزراء البريطاني الأسبق) لم يكن كائناً فضائياً.
انهار برجا "مركز التجارة العالمي" بالترتيب المعاكس للاصطدامين، فالبرج الجنوبي أصيب في الاصطدام الثاني لكنه انهار قبل الأول. وعندما تهاوى، انقطع التيار الكهربائي في الفندق وانطلقت أجهزة الإنذار. خرجتُ من المبنى مستخدماً الدرج الخلفي وسط عتمة حالكة، بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة.
عندما حلت تلك اللحظة، كان الخوف قد حلَّ مكان الارتباك وسيطر عليَّ، لكنني لم أرَ على الإطلاق أحداً يقفز من المبنيين. غير أن زميلاً مصوّراً لي شاهد ذلك، ومن حينه لم يتعافَ أبداً من سماع صوت ذلك الإنسان ورؤيته مجبراً على القفز بفعل الحرارة الهائلة التي صهرت الطوابق العليا للبرجين، ليصطدم بالقاعدة الأسمنتية.
أما اللحظة الوحيدة التي تحول فيها الخوف في أعماقي إلى حال من الرعب، فكانت عندما انهار البرج الشمالي وبدا أن الحطام يندفع في اتجاهي. خلتُ أن "قوة اندفاعه نحوي كانت تفوق سرعة خطواتي فيما كنت أهرول هارباً. وقد استمر هذا الهلع إلى أن توقفت سحابة الغبار على مسافة قريبة مني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن ذلك كان كافياً لأن أدرك أنه يتعيَّن عليَّ الابتعاد بسرعة عن المنطقة. فقد أوقفتُ سيارة أجرة، وجلستُ في المقعد الخلفي حيث كانت توجد راكبةٌ أخرى. كانت امرأةً حاملاً على وشك أن تضع طفلها. جلسنا نحن الغريبين جنباً إلى جنب، وكانت كتفانا تتلامسان، فيما كنا نميل إلى الأمام للاستماع إلى الأخبار باللغة الإسبانية من محطة محلية لاتينية، في محاولةٍ لفهم ما لم نتمكن من فهمه.
كانت تحاول فهم حدث عالمي ضخم، في خضم اختبارها حدثاً كان مفصلياً بحد ذاته على المستوى الشخصي. التفتت نحوي وقالت إنها تدخل في مخاض وتحتاج إلى التوجه إلى مستشفى. أعطتني قصاصةً من الورق عليها رقم هاتف كي أتصل بزوجها وأبلغه بأنها بخير، وبأنها على وشك أن تضع مولودها. عليَّ أن أقر بأنني أشعر بخجل من أن أقول إنني فقدت تلك الورقة وسط كل تلك المعمعة.
وبعد بضعة أيام، تحدثتُ مع امرأة أخرى. كانت أرملةً ما زالت غارقة في حزنها الذي لا عزاء له. فقد كانت قد قبلت زوجها قبل أن تودعه في ذلك الصباح، لتكتشف بعد ذلك أنه كان محاصراً وسط النيران. وظل الاثنان في تلك الأثناء، يتحادثان عبر الهاتف قرابة ساعة.
وكانت الزوجة تشاهد على شاشة التلفزيون في منزلها الكائن في إحدى ضواحي ولاية كونيتيكت، البرج وهو يحترق، واستمرت في إعطاء زوجها توجيهات قائلةً له "اصعد إلى سطح المبنى. لعلك تتمكن من ركوب طائرة هليكوبتر". لكنه كان يعود ويكرر لها القول إنه "لا يوجد أي مخرج". ثم فجأةً رأت البرج ينهار فيما انقطعت المكالمة مع شريك حياتها.
في الوقت الذي كنتُ أتحدث فيه معها، لم تكف عن ملامسة طاولة الطعام الخشبية التي صنعها زوجها. كانت تداعب تلك الطاولة كما لو كانت تداعب زوجها. أما آثار الخسارة فكانت منتشرةً في كل ركن من أركان المنزل، وكان يمكن مشاهدة مجموعات مشارب الحرائق الفارغة متراميةً داخل منزل رجل الإطفاء، حيث كان ينبغي أن تكون معلّقةً عليها خوذٌ ومعدات لرجال إطفاء شجعان.
قد يبدو مُتعجَّباً القول إن نيويورك كانت تحاول النهوض من وسط أنقاضها في الفترة التي تلت تلك الفاجعة. فكنتُ قد اعتدتُ الذهاب لتناول المشروبات في إحدى حانات نيويورك الكلاسيكية ذات الممرات الطويلة والضيقة في الشارع الحادي عشر 11th Street. وبعد أمسيات قليلة من تاريخ وقوع تلك الهجمات، ذهبتُ إليها فوجدتها مظلمة ومزدحمة، لكن كانت تخيم عليها أجواء هادئة، خافتة ورصينة.
عندما دخلت، حدَّق بي الساقي. فتوجهتُ إلى البار، حيث شبك يديَّ الاثنتين وشدَّ عليهما بإحكام. كان الغرباء يقومون بذلك في الأيام التي تلت الهجمات.
أصبح علم الولايات المتحدة -المتمثل في مجموعة من النجوم والخطوط- ملكاً للجميع. فقد عرضته متاجر شرق أوسطية، فيما كانت ترفعه سيارات قديمة متهالكة في الأحياء الفقيرة. من جهتي، اشتريتُ سترة كبيرة مزدانة بتلك النجوم والخطوط، وارتديتها بشعور يسوده التحدي والفخر في آنٍ واحد.
بعد مرور نحو 20 عاماً، ما زلت أشعرُ بغضب في داخلي، لأن عصابة من الأشخاص تحاول أن تفرض علينا وجهات نظرها التي تعود إلى العصور الوسطى. وعلى الرغم من تبسيط اليسار المتشدد الذي اعتبر أن "أميركا تسببت بما واجهته"، بدت المسألة -وما زالت تبدو- كأنها معركة بين الخير والشر.
يبقى القول إنه حتى يومنا هذا، وبعد انقضاء كل هذا الوقت، أشعر بتميز لأنني كنتُ جزءاً من التضامن الذي انفردت به مدينة عظيمة وحديثة، تجرأت على تحدي هؤلاء المتعصبين.
© The Independent