خلت الصفحات السرية التي أفرجت عنها السلطات الأميركية حول أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، من أي اتهام صريح للحكومة السعودية بأنها قدمت دعماً لأي من الخاطفين الـ19 الذين كانوا على متن الطائرات الانتحارية التي استهدفت واشنطن ونيويورك في ذلك اليوم المشؤوم.
لكن التلميحات التي حملها التقرير، على الرغم من الاختلاف حول مراميها، إلا أن أقصى ما تشير إليه هو إبقاء الباب مفتوحاً أمام احتمال دور من أي نوع، في حين أقر المسؤولون الأميركيون أنهم لم يجدوا "أي دليل يفيد بأن السعودية موّلت بشكل مباشر تنظيم القاعدة الذي وفرت له حركة طالبان الأفغانية ملاذاً آمناً آنذاك. لكن اللجنة لم تحسم مسألة الاشتباه في تورط مسؤولين سعوديين بشكل منفرد".
ونشر مكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي أمس السبت أول وثيقة مرتبطة بتحقيقه في هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، وسط مزاعم تتردد بشأن إمكان دعم الحكومة السعودية للخاطفين وذلك بناء على أمر تنفيذي من الرئيس جو بايدن.
كان أقارب الضحايا طالبوا بايدن بإلغاء مراسم الذكرى العشرين للهجمات إن لم يقرر نزع السرية عن الوثائق التي يقولون إنها ستظهر دعم السلطات السعودية للهجمات، إلا أن الوثيقة لم تتجاوز التلميح من دون الجزم بأي علاقة.
وأظهر المنشور المؤلف من 16 صفحة مطموس بعض أجزائها أن "اتصالات جرت بين الخاطفين وسعوديين لكنها لم تشِر إلى دليل على تورط الحكومة السعودية في الهجمات التي أودت بحياة زهاء ثلاثة آلاف شخص."
ترحيب سعودي بالشفافية
وقالت السعودية مراراً إنها لم تقُم بأي دور في الهجمات. وذكرت سفارتها في واشنطن في بيان لها قبل نشر التقرير هذا الأسبوع، أن المملكة "تؤيد دوماً الشفافية في ما يخص أحداث 11 سبتمبر وترحب بنشر السلطات الأميركية الوثائق المنزوع عنها السرية المرتبطة بالهجمات".
وأكدت السفارة "كما كشفت التحقيقات السابقة ومنها لجنة 11 سبتمبر ونشر ما تُسمّى بـ’الصفحات الثماني والعشرين‘، لم يظهر أي دليل على الإطلاق يشير إلى أن حكومة المملكة أو أيّاً من مسؤوليها كانوا على علم مسبق بالهجمات الإرهابية أو كانوا متورطين بأي شكل من الأشكال في التخطيط لها أو تنفيذها".
ولم تكُن السعودية وحدها التي تمسكت برفض التهم التي ظل الإعلام الأميركي يرددها في مناسبات عدة حول الأحداث الدامية، ولكن أيضاً رئيس لجنة التقرير الذي ظل بعض أجزائه سرّياً توماس كين الذي أكد في حوار مع "غارديان" البريطانية، أنه وجد ما يتهم إيران بالضلوع في الهجمات، ويرمي مسؤولين أميركيين بالتقصير، وليس ما يدين السعودية بأي شكل.
وقال "إن الوثائق كلها التي قرأتُها، ويشمل ذلك الوثائق التي تريد أسر الضحايا الآن كشف السرية عنها، لم تجِد أي شيء يمكن أن يشير إلى أي صلة في التخطيط لأي مسؤول حكومي سعودي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أكثر من مؤامرة "ساذجة"
وأضاف "أما إن كان هناك مواطنون سعوديون لهم صلة بهذا الهجوم أو بالإرهابيين الخاطفين فأمر لست متأكداً منه. وأنا قريب من أسر الضحايا، وعلاقتي بهم ممتازة لكني أقول لك إني لا أظن أنهم سيظفرون بشيء. وأنا وجدت معلومات أكثر تشير إلى احتمال صلة إيران بالحدث والتخطيط له أكثر من احتمال صلة المملكة العربية السعودية بذلك".
ولفت إلى نظريات مؤامرة عدة قال إنها "ساذجة وتافهة" حيكت حول الحادثة وليس فقط صلة الرياض بها، وتتبعها واحدة إثر الأخرى، بما فيها تلك التي تحدثت عن فرح اليهود بالجريمة وأن لهم يداً فيها، لكن جميعها تم دحضها.
وأثار إعلان بايدن الإفراج عن الصفحات السرية جدلاً في السعودية، نظير ما اعتُبر محاولة من إدارة الرئيس تشويه سمعة الرياض على الرغم من علاقتها عميقة الجذور مع أميركا، في وقت تواجه الأخيرة ضغوطاً دولية وداخلية جراء انسحابها المرتجل من أفغانستان، مما أعطى الانطباع بأنها إنما تحاول صرف الأنظار عن فشلها المريع في البلد المنكوب على حساب حليفتها الرياض، التي كانت بين أكثر دول العالم تضرراً من الإرهاب ومحاربة له.
وتوثق الحكومة السعودية في معرض السجال الدائر حول من الملام في هجمات سبتمبر، أنها أبلغت أميركا مرات عدة بأن بن لادن يشكّل خطراً غير عادي، وأنها أسقطت جنسيتها عنه، وطالبت بتسليمه مرات عدة لمحاكمته، إلا أن واشنطن لم تقُم بمجهود مماثل في سبيل منع التهديد الذي يشكله قائد التنظيم قبل أن ينفذ هجماته في الداخل الأميركي.
خيوط الاتصالات خلقت الشكوك
وكان 15 من الخاطفين الـ19 سعوديين. ولم تجد لجنة حكومية أميركية أي دليل يفيد بأن السعودية موّلت بشكل مباشر تنظيم "القاعدة"، لكن رفعت عائلات نحو 2500 قتيل وأكثر من 20 ألف مصاب وشركات وعدد من شركات التأمين دعاوى على السعودية تطالب بمليارات الدولارات، إلا أن أيّاً منها لم ينجح حتى الآن.
وبناء على مقابلات جرت في 2009 و2015 مع مصدر بقيت هويته سرّية، تكشف الوثيقة التي اطلعت عليها "اندبندنت عربية" عن تفاصيل اتصالات ولقاءات جرت بين البيومي والخاطفَين نواف الحازمي وخالد المحضار بعد وصولهما إلى جنوب كاليفورنيا عام 2000 قبل الاعتداءات.
كما تؤكد صلات سبق أن تحدّثت عنها تقارير بين الخاطفَين وفهد الثميري، الذي كان إماماً محافظاً في مسجد الملك فهد في لوس أنجليس ومسؤولاً في القنصلية السعودية في المدينة ذاتها.
وتشير الوثيقة وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، إلى أن أرقام الهواتف المرتبطة بالمصدر تكشف عن اتصالات مع عدد من الأشخاص الذين ساعدوا الحازمي والمحضار عندما كانا في كاليفورنيا، بمن فيهم البيومي والثميري، إضافة إلى المصدر نفسه.
وكشفت الوثيقة عن حدوث لقاءات واتصالات هاتفية وغيرها من أشكال التواصل بين البيومي والثميري من جهة وأنور العولقي من جهة أخرى، وهو داعية وُلد في الولايات المتحدة وتحوّل إلى شخصية بارزة في تنظيم "القاعدة" قبل أن يُقتل بغارة نفّذتها طائرة مسيّرة في اليمن عام 2011.
وعلى الرغم من نشر التقرير، إلا أن أجزاء عدة في الوثيقة كانت محذوفة ولم تكشف عن أي رابط مباشر وواضح بين الحكومة السعودية والخاطفين.
ورفضت ثلاث إدارات أميركية متعاقبة نزع السرية عن الوثائق المرتبطة بالقضية ونشرها، خوفاً على ما يبدو من إمكانية إضرار الخطوة بالعلاقات الأميركية السعودية.
هل يتحقق مراد بن لادن؟
ويحاول محامو عائلات الضحايا إعطاء الصفحات السرية زخماً أكبر مما تتضمنه صراحة، إذ يتهافتون على أي بصيص أمل يجعلهم يحصلون على تعويضات مالية من الحكومة السعودية تقدّر بمئات الملايين لو ثبتت العلاقة، بعد افتراض أن لها علاقة من أي نوع، طالما كانت غالبية الانتحاريين من مواطنيها.
ويعتقد باحثون في شؤون الجماعات الإرهابية أن تفويض "القاعدة" عناصر سعودية بتنفيذ الهجمات مقصود منه إفساد علاقات أميركا المتميزة بالرياض، التي يعتقد المتطرفون أنها دفعت كثيراً من خططهم إلى الفشل، بوصف السعودية قبلة المسلمين، وتحالفها مع أميركا التي يسمّونها "رأس الكفر"، من شأنه أن يقلل من حظوظ نجاح التعبئة التي يطمحون إليها ضد الولايات المتحدة والغرب.
وفي هذا السياق، زعم جيم كرايندلر، وهو من بين الشخصيات التي تقود الدعوى ضد السعودية، أن "الوثيقة تصادق على النقطة الأبرز الواردة في الدعوى وهي أن الحكومة السعودية ساعدت الخاطفين، فيما لا تزال العائلات تأمل بورود أدلة أقوى" مع نشر مزيد من المواد السرية خلال الأشهر الستة المقبلة، بناء على أمر أصدره بايدن.
وشهدت العلاقات السعودية الأميركية توتراً كبيراً في عهد الرئيس باراك أوباما الذي كان الرئيس الحالي جو بايدن نائباً له، على خلفية توقيع الإدارة اتفاقاً نووياً مع إيران، إلى جانب دعم ثورات ما عُرف بـ"الربيع العربي" الذي نظرت إليه الرياض ودول عربية عدة باعتباره فوضى خلاقة، أريد بها تغيير موازين القوى في المنطقة على أسس تهدد الأمن العربي في الإقليم وتسهل هيمنة النظام الإيراني والتنظيمات المتطرفة.
ولم تتوقع غالبية دول الإقليم من الرئيس الحالي بايدن الكثير بسبب تاريخه السياسي، غير أن تخلّيه عن أفغانستان بالطريقة التي انسحب بها، جعلت عدداً من المحللين يعتبرون المشهد منذراً بأي تصرفات غير محمودة العواقب من الإدارة الجديدة، على "حلفاء أميركا" قاطبة أن يكونوا على حذر من تبعاتها، والنهج الذي أفرزها.