كم بدا مفاجئاً حقاً الاحتفال الذي خصه "غوغل" العالمي والعربي، بالذكرى التسعمئة والحادية والسبعين (971) لميلاد الشاعر الفارسي والعالمي عمر الخيام، في اليوم الذي ولد فيه 18 مايو (أيار) 1048.
وعمد "غوغل" إلى نشر لوحة له في إحدى جلساته التي عرف بها، هو الشاعر "الإبيقوري" كما يوصف، شاعر التأمل واللذة والخمر، الذي عرف شهرة عالمية كبيرة وترجمت رباعياته الشهيرة إلى معظم لغات الأرض. وكان الشاعر والمستشرق البريطاني إدوارد فيتزغرالد من أوائل مترجميه عالمياً إلى الإنجليزية العام 1859، وعلى ترجمته ارتكز الكثيرون من المترجمين إلى سائر اللغات.
سيرة شبه مجهولة
هذا الشاعر الذي ظلت سيرته شبه مجهولة (يقال إن له أصولاً عربية) كان حقاً "الحدقة المستوحدة" كما قال فيه الشاعر الإيطالي باسكولي، إنه الشاعر الحكيم الذي ليس هو بملحد ولا بمتصوّف كما رأى فيه بعضهم، الشاعر الذي فهم "الإبيقورية" أو فلسفة اللذة في معناها الفلسفي الحقيقي، فإذا اللذة لديه، حال من التوازن الداخلي الذي يغيب فيه الألم، ألم الجسد، واضطراب الروح. ولم تكن فلسفته هذه إلا سعياً لإسعاد الذات والقضاء على الخوف من الموت ومواجهة مآسي الزمن.
وكان على الخيام أن "يغني" الحياة العابرة والطبيعة الفاتنة والخمر والحب المتقد الذي رأى فيه بعض النقاد حباً صوفياً ومثالياً، على خلاف آخرين عدّوه حباً واقعياً وشهوياً. وكان يؤلم الخيام كثيراً عجز الإنسان عن بلوغ الحقائق العليا وكنه أسرار الوجود، هو الذي لم يتخلّ لحظة عن "الشك" حتى في لحظات الإيمان المطلق.
نزعة "شكوكية"
وهذه النزعة "الشكوكية" هي التي دفعت الكاتب الإيراني الكبير صادق هدايات غير المحبوب رسمياً في إيران، والذي مات منتحراً في باريس، إلى الافتتان به باكراً، فعمل على جمع بعض "الرباعيات" ووضع لها مقدمة جريئة ليست لترضي النظام الإيراني. وقد وجد فيه هدايات شاعراً ظل "منذ شبابه حتى موته، مادياً، متشائماً ولا أدرياً".
إلا أن الخيام لقي ترحاباً كبيراً في العالم العربي بدءاً من مطلع القرن العشرين وأولاه الشعراء العرب في عصر النهضة وفي عصر الحداثة، اهتماماً لم يعرفه أحد من الشعراء العالميين. انكب شعراء كثر يجيدون الفارسية أو الإنجليزية والفرنسية على تعريب مختارات من "رباعيات" هذا الشاعر. فحظيت بما يقارب ستين ترجمة عربية، وهذا عدد لم يبلغه - ربما - شاعر آخر في لغة واحدة.
رباعيات أغرت الشعراء
وقد يكون الحافز الأول على ترجمته عربياً بمثل هذه الغزارة، طبيعة رباعياته التي يمكن الاختيار منها بحرية تامة، ثم التواري وراءها لقول ما عجز الكثير من الشعراء العرب عن قوله جراء الرقابة المعلنة أو الخفية. وأغرت رباعيات الخيام الشعراء العرب مثلما أغرت الشعراء الغربيين الذين أقبلوا أيضاً على ترجمتها إلى لغات شتى، وقد وجدوا في الخيام، كما عبّر الشاعر الفرنسي تيوفيل غوتييه في القرن التاسع عشر، صورة أخرى للشعر الشرقي، خالية "من الحجار الكريمة والأزهار والعطور والتشابيه الفخمة والمنمّقة". لقد وجدوا فيه ما سمّاه غوتييه نفسه "البريق المفاجئ الذي يضيء عتمات الفلسفة".
أما الترجمات العربية الـ 60 فأنجز الكثير منها شعراء كبار من مثل أحمد الصافي النجفي وأحمد رامي وعلي محمود طه وأحمد الصراف وأمين نخلة وجميل صدقي الزهاوي وإبراهيم العريض ومصطفى وهبي التل الملقب بـ "عرار" ومحمد صالح القرق... إلا أن أول من أصدر الرباعيات في كتاب فكان وديع البستاني وصدر عام 1912.
رباعيات... تشبههم
عرّب هؤلاء الشعراء "الرباعيات" وزناً وقافية، وكلٌّ على طريقته وبحسب مراسه الشعري. وقد أثارت هذه الترجمات المختلفة لغة ووزناً وتراكيب سجالاً غطته المجلات والصحف وفي طليعتها مجلة "الهلال".
ولعل انشغال الساحة الشعرية والنقدية بالخيام جعلته يبدو كأنه شاعر عربي وليس فارسياً. أغرت "رباعيات" الخيام الشعراء وبعض النقاد أو الناثرين وما برحت حتى الآن تغريهم. فالشاعر الذي طالما عُدّ شبه زنديق أو شبه كافر وأُدرج شعره في خانة "المحظور"، وجد فيه الشعراء العرب ذريعة ليعبّروا من خلال شعره عما جاش في خاطرهم من أفكار محظورة أو مسكوت عنها. فراحوا يستعيدون رباعياته ويترجمونها، بل يكتبونها كما يحلو لهم، صانعين منها "رباعيات" تشبههم مثلما تشبه صاحبها الذي سمي "المنجِّم الذي لا يؤمن بالسماء". لكن هذا الأمر لم يلغ افتتانهم به، بعالمه ولغته الساحرة وفلسفته ذات النزعة المادية والطبيعية واللذوية.
قد تكون الترجمتان اللتان وضعهما الشاعران أحمد الصافي النجفي وأحمد رامي من الترجمات العربية الأكثر رواجاً وربما الأكثر اكتمالاً. ومما ساهم في رواج "رباعيات" الخيام عربياً هو أداء أم كلثوم رباعياته التي ترجمها أحمد رامي ولحنها رياض السنباطي وما زالت تعد من أجمل ما غنت سيدة الغناء العربي، وتقول في مطلعها: "سمعت صوتاً هاتفاً في السحر/ نادى من الغيب غفاة البشر".