قبيل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان صدر تقرير من مكتب المفتش العام الأميركي لإعادة الإعمار في أفغانستان حول الدروس المستفادة بعد 20 عاماً من تواجد الولايات المتحدة هناك، ووسط تفاصيل القرارات السياسية والفرص الضائعة، سلط التقرير الضوء على عنصر واحد طالما تجاهلته الإدارات الأميركية المتعاقبة، وهو الفساد المدعوم من الولايات المتحدة والذي كان سبباً رئيسياً في انهيار الحكومة والقوات الأفغانية بسرعة أكبر بكثير مما كان متوقعاً، فكيف استشرى الفساد في أفغانستان إلى هذا الحد، ولماذا لم توقفه واشنطن منذ سنوات؟ وما الدرس الذي تعلمه الأميركيون الآن؟
توسيع الفساد
يشرح تقرير المفتش العام الخيارات المتكررة التي كانت متاحة أمام الأميركيين حول الفساد المستشرى في صفوف النظام المدعوم من الولايات المتحدة والذي سمح في نهاية المطاف لحركة "طالبان" إسقاط الحكومة والقوات التابعة لها بسرعة أكبر بكثير مما افترضه الكثيرون، وقدم التقرير أدلة عديدة على القرارات والسياسات الأميركية التي أدت إلى توسيع نطاق هذا الفساد المستشري، وكيف نشأ هذا التوسع مباشرة من الوجود الأميركي.
ومن بين أبرز هذه الأمثلة ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عام 2013 نقلاً عن مستشارين سابقين للرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي بأن وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي أي"، دفعت عشرات الملايين من الدولارات بشكل سري إلى مكتب كرزاي على مدى نحو 10 سنوات، بهدف شراء النفوذ للاستخبارات الأميركية في أعلى سلطة للدولة الأفغانية، لكن هذه الأموال، التي أطلق عليها اسم "الأموال الشبحية" لأنها نُقلت في حقائب سفر وحقائب تسوق بلاستيكية في الخفاء، غذت الفساد بين أمراء الحرب الأفغان، ومنحتهم سلطة إعاقة الاستراتيجية الأميركية للخروج من أفغانستان.
سياسة التجاهل
كما يحمل التقرير الولايات المتحدة مسؤولية التجاهل والإشاحة بالوجه بعيداً، عندما توقفت التحقيقات في فساد النخبة بعدة مناسبات ومنها إسقاط جميع التهم الموجهة إلى أحد كبار مستشاري الرئيس بعدما ضُبط في مكالمة هاتفية مسجلة يطلب رشوة للتدخل في تحقيق يخص شركة تحويل أموال متهمة بالفساد، والتي تعد واحدة من قصص كثيرة تُظهر كيفية تجاهل الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو انتشار الفساد، بخاصة في العاصمة كابول.
ويبدو واضحاً أن الأمر لم يقتصر على الرشى المالية البسيطة عبر أكياس النقود، ذلك أن الكثير من الفساد الذي غذته الولايات المتحدة نشأ مباشرة من زيادة الاستثمارات المدعومة من الولايات المتحدة في البلاد، من دون أي رقابة سليمة، حيث فشلت الولايات المتحدة مع زيادة إنفاقها واستثماراتها في أفغانستان في التعرف إلى التهديد الوجودي الذي يمثله الفساد لجهود إعادة الإعمار، وفاتتها فرصة جعل جهود مكافحة الفساد جزءاً أساسياً من استراتيجيتها، وفقاً لما ذكره تقرير المفتش العام الأميركي.
الفساد نظام حكم
كان من المعروف لدى خبراء الاقتصاد ومكافحة الفساد منذ فترة طويلة، أن تدفق المساعدات الدولية يمكن أن يحفز على الفساد، لأن المسؤولين الفاسدين يحاولون اجتذاب أكبر قدر ممكن من التدفقات المالية إلى داخل محافظهم المالية، لكن واشنطن لم تنتبه على ما يبدو إلى هذا الأمر، إذ افترضت أن الفساد ينشأ على يد أفراد أفغان، وأن تدخلات المانحين كانت الحل، وفقاً لما ذكره المفتش العام الذي توقع أن يستغرق الأمر عدة سنوات حتى تدرك الولايات المتحدة أنها كانت تغذي الفساد بإنفاقها المفرط وافتقارها للرقابة.
وما يجسد تغلغل الفساد في النخبة الحاكمة الأفغانية، ما نسبته برقية لوزارة الخارجية الأميركية عام 2010 لمستشار الأمن القومي الأفغاني، قوله إن الفساد ليس مجرد مشكلة بالنسبة لنظام الحكم في أفغانستان، وإنما هو نظام الحكم نفسه.
إدراك متأخر
وعلى الرغم من أن البيت الأبيض أدرك في يونيو (حزيران) الماضي بشكل صحيح ما كان واضحاً منذ زمن بعيد، ولكن تم تجاهله كثيراً من أن الفساد يقوض ثقة الجمهور، ويعيق الحكم الفعال، ويقوض جهود التنمية، ويسهم في إضعاف الروح الوطنية، ويساعد على التطرف ويدفع الناس إلى الهجرة، ويؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي، واتساع اللامساواة، وانخفاض الثقة في الحكومة.
ومع هذا الإدراك المتأخر، تحركت إدارة الرئيس جو بايدن لرفع الخطر الذي يمثله الفساد إلى مستوى تهديد أساسي للأمن القومي، على قدم المساواة مع الإرهاب، ومع ذلك فإن هذا الارتفاع لا يعني شيئاً من دون إحداث تغييرات سياسية حقيقية في المستقبل، بخاصة أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعلم فيها الولايات المتحدة دروساً من محاولة دعم دولة فاسدة مثل أفغانستان، انهارت بمجرد أن خرجت الولايات المتحدة من أراضيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مكمن الخطأ
ويبدو أن مكمن الخطأ يعود إلى أن واشنطن كانت دائماً تركز على الأهداف الأمنية قصيرة المدى على حساب الجهود المبذولة لمكافحة الفساد، وهو أمر لم يكن مفاجئاً بالنظر إلى أنه كان بوسع المسؤولين الأميركيين أن يروجوا أمام وسائل الإعلام في المؤتمرات الصحافية منجزاتهم في المجالات السياسية والهيكلية والمالية في أفغانستان، والتي تصبح في أعين الجميع انتصارات سهلة وشيقة.
غير أن كايسي مايكل وبول ماسارو المختصين بمكافحة الفساد، عبرا عن اعتقادهما في موقع مجلة "فورين بوليسي"، بأن عدم الاهتمام بمكافحة الفساد من جانب المسؤولين الأميركيين نشأ أيضاً عن نوع من الغطرسة الأميركية بشكل خاص، والتي تنظر إلى الفساد على أنه شيء لا يزال مستوطناً في ثقافات معينة أو في بلدان معينة، وبدلاً من الاعتراف بالصلات المباشرة بين الفساد المتصاعد والتمويل والسياسات الأميركية، تعامل المسؤولون الأميركيون، كما يقول مكتب المفتش العام في تقريره، مع الفساد بنفس الطريقة التي يكون عليها في الولايات المتحدة باعتباره سلوكاً إجرامياً منحرفاً للمسؤولين الأفغان، ولم يتعاملوا معه كظاهرة منهجية.
الأموال الطائرة
وهكذا بدا أن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن الفساد الذي لاحظوه ظل ظاهرة محلية داخل أفغانستان، وأنه يمكن احتواؤها أثناء التعامل مع المخاوف الأمنية في أماكن أخرى، لكن غاب عنهم تماماً كيف تحولت طرق وحيل الفساد على مدى العقود القليلة الماضية، مع صعود النخب الحاكمة الفاسدة التي تستهدف تجميع الثروة والسلطة على حساب الشعب، حيث من النادر أن تبقى الأموال غير المشروعة تحت ولاية قضائية واحدة في بلد واحد، بل تقفز وتطير هذه الأموال عبر الحدود إلى بلدان أخرى وبوسائل السرية المالية التي تجعل تعقب الأصول المنهوبة وإعادتها أكثر صعوبة في ما بعد.
ومن الأمثلة على ذلك فضيحة بنك كابول، التي خرجت إلى العلن في أوائل عام 2010 على أنها مخطط غير مسبوق، حينما تمكنت شخصيات أفغانية مرتبطة بالسلطة الحاكمة من نقل ما يقرب من مليار دولار خارج البلاد، تاركة المودعين الأفغان في حالة ذهول.
كما تم تحويل عائدات الفساد بمليارات الدولارات من أفغانستان إلى الخارج، ما أسهم في إعاقة التنمية الاقتصادية والسياسية في أفغانستان، وتسهيل عودة ظهور "طالبان"، وتفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، بحسب ما يشير تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي الأميركية.
ولم تتوقف الأصول المنهوبة عند هذا الحد، فقد سلكت مسارات قديمة بما فيها الولايات المتحدة التي تعد إحدى أكبر الوجهات في العالم للتمويل غير المشروع بحسب ما تقول جودي فيتوري، التي عملت في فرقة العمل الرئيسية لمكافحة الفساد في أفغانستان، والتي تؤكد أن الكثير من هؤلاء الفاسدين الأفغان يمتلكون بالفعل منازل في الولايات المتحدة، وحولوا كثيراً من الأموال إلى أميركا.
وحتى بعد انهيار بنك كابول قبل نحو عشر سنوات، لم يتغير الكثير سواء في أفغانستان أو من حيث السياسة الأميركية هناك، حيث ظلت القصة هي نفسها على رغم توالي السنين، وأبقت الولايات المتحدة الأولوية لعقيدة "الأمن أولاً"، والتشدق بالكلام لجهود مكافحة الفساد، والبحث عن انتصارات سهلة يمكن ترويجها بين السكان الأفغان الذين نفد صبرهم.
خطة ولدت ميتة
لكن ذلك التجاهل الأميركي لم يكن خالياً من محاولات الإصلاح، فقد أعدت سارة تشايس، وهي من الخبراء البارزين في مجال مكافحة الفساد في أفغانستان والمساعد الخاص السابق للأدميرال مايك مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية آنذاك، استراتيجية فعالة لمكافحة الفساد، من معاقبة المسؤولين الفاسدين إلى قطع التمويل عن القادة العسكريين الفاسدين، بما في ذلك استهداف أفراد عائلة حامد كرزاي الذين حامت حولهم شبهات فساد.
كانت الخطة ستعيد تركيز أميركا على الفساد الأفغاني كواحدة من أكثر جهود مكافحة الفساد ابتكاراً التي أطلقتها واشنطن على الإطلاق، لكنها خطة ولدت ميتة بسبب مخاوف وأسئلة ظلت تطرح على المستوى القيادي، أهمها: كيف ستبدو صورة الولايات المتحدة إذا طاردت فجأة المسؤولين الذين دعمتهم لسنوات؟ ولهذا لم يتم تنفيذ أي من جوانب هذه الخطة على الإطلاق.
صحوة متأخرة
وعلاوة على ذلك قدمت مجموعة كبيرة من الإصلاحيين في الولايات المتحدة قائمة مقترحات لمكافحة الفساد، فضلاً عن توصيات مكتب المفتش العام والتي تشمل جهوداً مشتركة بين الوكالات الفيدرالية المختلفة وأجهزة الاستخبارات والوزارات المعنية لقيادة استراتيجية لمكافحة الفساد الأجنبي.
وفي واشنطن، يقود الكونغرس مسؤولية غير مسبوقة من مشاريع قوانين مكافحة فساد النظم الحاكمة التي من شأنها أن تخلق مجموعة أدوات جديدة تماماً لمكافحة الفساد والتعامل مع الشبكات الفاسدة التي تقوض المساعدات الأميركية، فضلاً عن سلسلة قوانين من شأنها أن تضمن الامتثال لمكافحة الفساد في جميع البلدان وسيسمح مشروع القانون بحظر السفر ضد الأشخاص والمسؤولين الفاسدين.
استيعاب الدرس
وتعكس هذه الجهود الحكومية والتشريعية في الولايات المتحدة، حالة الاقتناع العميقة بأن الفساد يشكل تهديداً مركزياً وجودياً للأمن القومي الأميركي، غير أن الولايات المتحدة تحتاج إلى إعادة صياغة فكرة إعطاء الأولوية للأمن والتي شكلت الكثير من إخفاقاتها في أفغانستان والعراق، بحسب ما يقول العديد من المحللين، لأن الفكرة القائلة بأن المخاوف الأمنية قصيرة المدى يجب أن تسود على جميع المخاوف الأخرى، بغض النظر عن مقدار الفساد المحتمل، هي فكرة عفا عليها الزمن وأصبحت غير فعالة، فقد تبين بشكل قاطع أن عدم القدرة على مكافحة الفساد الأجنبي باعتبارها قضية مركزية للأمن القومي، هو الذي أدى في النهاية إلى فشل الولايات المتحدة في أفغانستان.