أثار الإعلان المفاجئ عن تزويد الولايات المتحدة أستراليا بثمانٍ من الغواصات النووية خلال سنوات كجزء من تحالف دفاعي جديد يشمل أيضاً بريطانيا، صدمة للخصوم في بكين وللحلفاء في باريس وبروكسل في آن واحد، على الرغم من اختلاف أسباب الصدمة والغضب لدى كل منهما، فما الذي دفع إدارة بايدن إلى أن تكون واجهة هذا التحالف غواصات تعمل بالطاقة النووية ذات تكنولوجيا حساسة على الرغم من أنها لا تحمل أسلحة نووية؟ وما الذي أغضب الحلفاء الفرنسيين والأوروبيين من هذا التحالف؟
أهمية أستراليا
اعتبر إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض محاطاً برئيسي وزراء بريطانيا وأستراليا اللذين شاركا بالفيديو عبر الإنترنت، مشاركة أستراليا تكنولوجيا إنتاج الغواصات التي تعمل بمحركات نووية، بمثابة تدشين تحالف استراتيجي ثلاثي جديد تحت اسم "أوكوس"، وهو اختصار الحروف الأولى للبلدان الثلاثة باللغة الإنجليزية، بخاصة أنها تحمل رسالة واضحة لمواجهة الطموحات الصينية في المحيطين الهندي والهادي.
وإذا كانت الولايات المتحدة وفرت هذه التكنولوجيا الحساسة لبريطانيا كأقرب حلفائها في خمسينيات القرن الماضي، فإنها تضيف الآن أستراليا كحليف قديم لا غنى عنه لتعزيز الشراكة الاستراتيجية الوثيقة، فضلاً عن موقعها الحيوي على المحيطين الهندي والهادي جنوب الصين، التي دخلت في حرب تجارية مع أستراليا قبل أكثر من عام.
وعلى الرغم من حرص بايدن وسكوت موريسون رئيس الوزراء الأسترالي وبوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني على تجنب ذكر الدولة التي يستهدفها هذا التحالف، فإنه من الواضح أنه يهدف إلى مواجهة القوة العسكرية البحرية المتنامية للصين في المنطقة، عبر سباق تسلح بدت ملامحه تتزايد بقوة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما دفع وزارة الخارجية الصينية إلى انتقاد الصفقة ووصفتها بأنها تهدد السلام الإقليمي وتؤدي إلى سباق تسلح.
لماذا الغواصات؟
يتفق المتخصصون العسكريون في الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية على أنها ستعزز من قوة التحالف الجديد في الفناء الخلفي للصين، حيث تسعى الإدارة الأميركية إلى توجيه سياستها الخارجية نحو منطقة المحيطين الهندي والهادي، وسيكون للغواصات ذات التكنولوجيا المتطورة مزايا استراتيجية عديدة، فهي أكثر فتكاً وتتمتع بقدرة أكبر على التخفي وبصوت هادئ جداً يصعب تتبعه، وتتميز بقدرة أكبر على المناورة ومدى أطول مقارنة بالغواصات الأسترالية التقليدية الحالية، ويمكن أن تبقى تحت الماء لعدة أشهر.
وفي حين كانت أستراليا منخرطة في مفاوضات طويلة مع فرنسا لتعزيز قدراتها البحرية عبر شراء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل بقيمة 66 مليار دولار، إلا أن العرض الأميركي كان صفقة لا ترد نظراً إلى المزايا العديدة المتفوقة للغواصات ذات المحركات النووية، التي ستجعل أستراليا الدولة السابعة في العالم التي تمتلك قدرات تشغيل غواصات تعمل بالطاقة النووية إلى جانب الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا والهند، بعدما كان بحوزة أستراليا ست غواصات قديمة فقط تعمل بالديزل مزودة بصواريخ موجهة من طراز كولينز.
وفي حين لم تذكر الصفقة الأميركية والبريطانية مع أستراليا ما إذا كانت الغواصات ستكون مسلحة بصواريخ كروز، وما إذا كانت ستكون من طراز فيرجينيا الأميركية أو فئة أستوت البريطانية، إلا أنها ستسمح لأستراليا أن تصبح لاعباً قوياً في المحيط الهادي بطريقة قد تغير توازن القوة البحرية في منطقة كانت فيها الصين توسع نفوذها، إذ تشير تقارير غربية إلى أن الصين تمتلك ست غواصات تعمل بالطاقة النووية وعشرات الغواصات التقليدية، كما أنه يعتقد أنها تعمل على إنتاج خمس غواصات نووية أخرى، الأمر الذي يشكل تهديداً استراتيجياً للولايات المتحدة وحلفائها.
مقامرة استراتيجية
وعلى الرغم من المكاسب التي ستحققها أستراليا، فإن هناك بعض المخاوف من تبعات هذا التحالف، فهناك خطر يتمثل في أن أي مواجهة أميركية ضد الصين يمكن أن تتحول إلى صراع لا يمكن لأستراليا بسبب شراكتها وتحالفها مع واشنطن ولندن أن تجنبه، بخاصة أن اﻟﻘﻮﺗﻴﻦ اﻟﻌﻈﻤﻴﻴﻦ توترت علاقتهما بشأن تايوان، الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، التي تقول بكين إنها أراضٍ صينية، بينما تحذر الولايات المتحدة من أن استخدام القوة لتحديد مصير تايوان سيكون مصدر قلق بالغ، ما يترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية التدخل العسكري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير هيو وايت، وهو محلل دفاعي في الجامعة الوطنية الأسترالية، إلى أن واشنطن تتوقع من أستراليا المزيد عبر هذا التحالف مع تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، بعدما سمحت لها بالحصول على تقنيتها النووية، وهي تتوقع أن تنشر أستراليا قواتها في حرب محتملة مع الصين.
ويبدو أن الحكومة الأسترالية تنظر إلى هذه المخاطر على أنها تستحق المغامرة على حد وصف جيمس كوران، مؤرخ العلاقات الخارجية الأسترالية في جامعة سيدني، الذي ينظر إلى التحالف الجديد على أنه أكبر مقامرة استراتيجية في تاريخ أستراليا.
حلفاء أميركا
ولكن على جانب آخر، فإن التحالف الجديد يجيب عن تساؤل حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال منخرطة في شبكة تحالفها بهذا الجزء من العالم، ومع ذلك لم يمحُ الاتفاق كل الشكوك حول التزام أميركا بمواجهة الصين والدفاع عن دورها كقوة مهيمنة في منطقة معقدة بعيدة عن واشنطن وأقرب بكثير من بكين، بخاصة أن هذه الخطوة جاءت بعد سنوات من الوعد بالتحول إلى آسيا في عهد الرئيس باراك أوباما.
غير أن هذا التوجه لم يعد محل تردد في واشنطن، إذ عبر المشرعون الديمقراطيون والجمهوريون عن اعتقادهم بأن الولايات المتحدة لن تتمكن من التغلب على الصين في نهاية المطاف سوى عبر شبكة من التحالفات ومن خلال القيام باستثمارات مناسبة بشكل أفضل.
غضب فرنسي
لكن الصفقة الأميركية مع أستراليا لم تغضب الصين فقط، بل امتدت إلى إغضاب فرنسا، إذ اتهم مسؤولون فرنسيون الرئيس بايدن بالتصرف مثل سلفه دونالد ترمب، معتبرين أن الصفقة طعنة في الظهر تعكس الأحادية الأميركية في اتخاذ القرار بعيداً عن الحلفاء وبشكل مفاجئ في سياسة كانت شائعة خلال إدارة ترمب، ما يعكس حنق باريس من إلغاء اتفاقها مع أستراليا لتزويدها بـ12 غواصة تقليدية، ويعيد إلى الأذهان الخلاف الحاد عام 2003 بين باريس وواشنطن بشأن حرب العراق.
وبدا هذا التصرف الأميركي في نظر المحللين الفرنسيين مثل نيكول باشاران، المتخصصة في العلاقات الفرنسية الأميركية كأنه نظام جيوسياسي جديد من دون تحالفات ملزمة لمواجهة الصين، وكما تقول باشاران فإن الولايات المتحدة اختارت تحالفاً مختلفاً، يواجه فيه العالم الأنجلو ساكسوني فرنسا، وتوقعت فترة صعبة للغاية في الصداقة القديمة بين باريس وواشنطن.
ولا شك في أن بريطانيا وهي الشريك الأميركي في الصفقة، تعد مصدر إزعاج آخر لفرنسا بعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي، وتبني رئيس الوزراء جونسون استراتيجية "بريطانيا العالمية"، التي تستهدف إلى حد كبير منطقة المحيطين الهندي والهادي، ما يزيد شكوك فرنسا في أن التحالف الجديد يتكون من الناطقين بالإنجليزية ويسعى لتحقيق مصالح استراتيجية تستبعد فرنسا، في وقت اختار فيه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ألا تنجرف بلاده في المواجهة القاسية المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة، بخاصة أن ماكرون يريد أن تقود فرنسا الاتحاد الأوروبي نحو مسار وسطي بين القوتين العظميين، ما يدل على الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي يقف في صميم رؤيته.
تحفظ أوروبي
وفي حين يبدو البعض في واشنطن منزعجاً من فكرة استقلال فرنسا داخل التحالف الأوروبي، أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً طويلاً حول استراتيجية التعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادي، تلتزم فيه الدول الأوروبية بمشاركة أعمق على جميع المستويات في المنطقة، مع مشاركة متعددة الأوجه مع الصين، تشمل التعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك من دون إغفال قضايا حقوق الإنسان، وتعكس هذه الصياغة سعي ماكرون لسياسة لا تجازف بتمزيق العلاقات مع الصين ولكنها لا تنحني لبكين أيضاً.
ويشير مسؤولون أوروبيون إلى أن التحالف الجديد يعكس أن أميركا وبريطانيا وأستراليا يعملون لأنفسهم، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يعمل لنفسه أيضاً في الفترة المقبلة، وهو ما يخشى معه مراقبون من أن العلاقات على ضفتي الأطلسي ربما تشهد توترات جديدة ما لم يسارع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تضميد الجرح الحالي بسرعة.