الأفكار الراديكالية التي تُعدّ اليوم يمينية، على غرار تفوق العرق الأبيض، والليبرالية العنيفة المناهضة للحكومة، والتطرف المسيحي، لعبت أدوار البطولة [كانت لها الصدارة] في القصة الأميركية منذ بدايتها الأولى. في المقابل، بالنسبة إلى معظم حقبة ما بعد الحرب، ظل اليمين المتطرف في الغالب مُتوارياً عن الأنظار، ومنبوذاً في هامش المجتمع الأميركي، ولكن بطبيعة الحال لم يختفِ قط، وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي، بدا أنه متأهب للظهور مجدداً بعد سلسلة من المواجهات التي خاضتها السلطات ضد الميليشيات المناهضة للحكومة والمتطرفين الدينيين، وهي مرحلة بلغت ذروتها مع إقدام متعصب أبيض متطرف مناهض للحكومة على زرع تفجير إرهابي في مبنى فيدرالي في مدينة أوكلاهوما عام 1995، ما أسفر عن مقتل 168 شخصاً.
لكن، بحلول فجر الألفية الجديدة، بدت تلك الأحداث وكأنها من الماضي. في السنوات التي أعقبت هجوم مدينة أوكلاهوما [في 1995]، لم تتحقق موجة عنف التطرف اليميني التي كان يخشى حدوثها. لا، بل بدا أن إراقة الدماء زادت من تهميش اليمين المتطرف.
وبعد عقدين من الزمن، بدت الصورة مختلفة تماماً، إذ شهدت السنوات القليلة الماضية فورة عنف لدى اليمين المتطرف، واعتبرت الأفكار المتطرفة التي تحرك هذا العنف أمراً طبيعياً [سائداً]. في عام 2019، قُتل 48 شخصاً في هجمات نفذها متطرفون عنيفون محليون في الولايات المتحدة، 39 منها على يد متطرفين من العرق الأبيض، ما يجعله العام الأكثر فتكاً بالنسبة إلى هذا النوع من الإرهاب في البلاد منذ 1995. في عام 2020، بلغ عدد المخططات والهجمات الإرهابية المحلية في الولايات المتحدة أعلى مستوى لها منذ 1994؛ ونسب ثلثاها إلى العنصريين البيض وغيرهم من المتطرفين اليمينيين. في مارس (آذار) من هذا العام، أجرى مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي" أكثر من ألفي تحقيق مفتوح في التطرف العنيف المحلي، أي نحو ضعف عدد التحقيقات التي فتحها في صيف عام 2017. وفي عام 2020 أيضاً، بلغ عدد المتعصبين البيض الذين اعتقلتهم السلطات الوطنية ما يقرب من ثلاثة أضعاف أولئك المعتقلين في 2017. وفي العام الماضي، تلقت رابطة مكافحة التشهير بلاغات عن حملات دعائية أطلقها المتعصبون البيض، في شكل منشورات وإعلانات ولافتات وملصقات منشورة في مواقع مثل الحدائق أو حرم الجامعات، وقد وصلت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، إذ بلغ عددها أكثر من 5000، أي نحو ضعف الرقم المبلغ عنه في العام السابق. لا ينحصر هذا التوجه في الولايات المتحدة فحسب. وعلى الرغم من أن المتطرفين لا يزالون يشكلون أكبر تهديد إرهابي في أوروبا، فإن عنف اليمين المتطرف آخذ في الازدياد. في هذا الإطار، وصف نيل باسو، رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، التطرف اليميني بأنه "التهديد الأسرع نمواً" في المملكة المتحدة، وبطريقة موازية شهدت ألمانيا ارتفاعاً في جرائم العنف التي يحفزها التطرف اليميني بنسبة 10 في المئة من 2019 حتى 2020.
وفي خضم هذه الزيادة في العنف، أصبحت الأفكار اليمينية المتطرفة سائدة وطبيعية، مع حصول الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة على تمثيل في أكثر من 36 برلماناً وطنياً وفي البرلمان الأوروبي. وفي الولايات المتحدة، جاء نجاح دونالد ترمب الانتخابي سبباً ونتيجة لهذا التوجه. كانت حملته الرئاسية لعام 2016 وفترة ولايته في البيت الأبيض غارقتين في الخطاب الشعبوي والقومي والوطني، وهو أمر اعتبره اليمين المتطرف شرعنةً لوجهات نظرهم. وبحلول الوقت الذي سعت فيه حملة "أوقفوا السرقة" إلى قلب النتائج المشروعة في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020 (بتشجيع صريح من ترمب)، كانت الأفكار المتطرفة قد احتلت مركز الصدارة في السياسة الأميركية. تلك الزيادة في عنف اليمين المتطرف واعتبار التطرف اليميني أمراً طبيعياً أوصلا معاً إلى هجوم 6 يناير (كانون الثاني) على مبنى الكابيتول الأميركي وهو هجوم وحشي غذته أفكار اليمين المتطرف التي أصبحت سائدة.
كان نمو اليمين المتطرف مدفوعاً بعوامل متعددة، بما في ذلك رد الفعل الرجعي على التغييرات الديموغرافية والإيمان المتزايد بنظريات المؤامرة. وقد تم تسريعه من خلال مكبر الصوت في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ إن قنوات الإنترنت الجديدة التي تضخم الأفكار وتنشرها ساهمت في توسيع نطاق تأثير الدعاية والمعلومات المضللة اليمينية المتطرفة، وأقامت روابط عالمية عبر المجموعات والحركات، وخلقت طرقاً جديدة لتسريب التطرف إلى التيار السائد.
ومن المفارقات، أن شكلاً آخر من أشكال التطرف، ورد فعل واشنطن عليه، هما اللذين أديا إلى عودة بروز اليمين المتطرف. في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، أدى ظهور التطرف الإسلامي العنيف إلى إعادة تشكيل السياسة الأميركية بطرق خلقت أرضاً خصبة للتطرف اليميني. كانت الهجمات بمثابة هبة لمروجي كراهية الأجانب، وتفوق العرق الأبيض، والقومية المسيحية: فبينما كان الأجانب المسلمون ذوو البشرة الداكنة مصممين على قتل الأميركيين، بدا أن إرهابيي "القاعدة" وأمثالهم قد خرجوا من هلوسة الحمى التي أصابت اليمين المتطرف وأصبحوا واقعاً. بين عشية وضحاها تقريباً، سادت في الولايات المتحدة والدول الأوروبية المخاوف ذاتها التي كان اليمين المتطرف يحاول تأجيجها طيلة عقود.
لكن، لم يكن الإرهابيون وحدهم هم الذين أعطوا المتطرفين اليمينيين دفعة إلى الأمام، إذ ساهمت في ذلك أيضاً الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب، مع تركيز الاستخبارات والأمن ووكالات تطبيق القانون اهتمامها شبه الكامل على التهديد الإسلامي، تاركةً التطرف اليميني المتعصب ينمو بلا رادع.
في السنوات الأخيرة، أوضح المتطرفون اليمينيون في الولايات المتحدة وأوروبا أنهم مستعدون وقادرون على تبني تكتيكات الإرهاب. لقد أضحوا، بطريقة أو بأخرى، صورة طبق الأصل عن المتطرفين المسلمين الذين يكرهونهم.
إذاً، ينبغي على الحكومات الغربية التصرف بشكل حاسم لمكافحة هذا التهديد. وعلى الرغم من ذلك، لا يعتبر شن "حرب جديدة على الإرهاب" هو السبيل للقيام بذلك. لقد انحرفت الحرب ضد عنف التطرف الإسلامي عن مسارها من نواحٍ متعددة وأنتجت عواقب سلبية غير مقصودة، بما في ذلك المساعدة في نهوض اليمين المتطرف الذي بات يشكل الآن أشد خطر إرهابي. في الكفاح ضد هذا التهديد الجديد، يحتاج صانعو السياسة إلى تجنب تكرار الأخطاء نفسها التي ساهمت في رسم الواقع الجديد الخطير.
فرسان "أورابيا"
يوجد اليمين المتطرف الحديث على نطاق واسع، ويشمل النازيين الجدد، والمتفوقين البيض، والميليشيات المعارضة للحكومات الفيدرالية، والجماعات التي تصف نفسها بـأنها "شوفينية غربية" على غرار "براود بويز"، أي الأولاد الفخورين، ومحرضي "اليمين البديل المتطرف" alt-right، ومنظري المؤامرة، وكارهي النساء الذين يسمون أنفسهم "إنسيل" "incels" (اختصاراً لـ"العزوبة غير الطوعية"). في الحقيقة، ما يربط بين هذه العناصر المتباينة هو النظرة التآمرية للعالم والالتزام المشترك بالأفكار غير الديمقراطية وغير الليبرالية. وكذلك، تدعم مجموعة فرعية منهم، على الأقل من الناحية النظرية، استخدام العنف الجماعي ضد أهداف مدنية وحكومية.
على الرغم من أن أفكار الجماعات اليمينية المتطرفة الأميركية والأوروبية وأيقوناتهم مستوحاة من الكونفيدرالية وكو كلوكس كلان والنازيين وغيرها من الحركات الميتة [المندثرة] أو المحتضرة، فإن جذور هذه الجماعات راسخة اليوم بقوة في التطورات الأكثر حداثة. في أوائل الثمانينيات، ضربت سلسلة أحداث إرهابية شنها اليمين المتطرف كلاً من فرنسا وإيطاليا وألمانيا كجزء من الحركة الفاشية الجديدة والنازية الجديدة في أوروبا الغربية. أعقب تلك الهجمات موجة من النشاط النازي الجديد اجتاحت ألمانيا وأوروبا الشرقية خلال فترة التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي السريع الذي حدث في التسعينيات، بعد سقوط الستار الحديدي وإعادة توحيد ألمانيا. وتجلى هذا الشكل من التطرف في ثقافة مجموعة شباب حليقي الرؤوس وعنيفين وعنصريين، احتفلوا بقتال الشوارع والاعتداءات على طالبي اللجوء والمهاجرين.
في الوقت نفسه تقريباً، بدأت مجموعات حليقي الرؤوس العنصرية في الظهور في أميركا الشمالية أيضاً، بعضها مرتبط بالمشهد الموسيقي المتشدد. وفي الولايات المتحدة، ظهر مصدر آخر لليمين المتطرف والتطرف المناهض للحكومة، وهو فرقة صغيرة، ولكن مخصصة من قدامى المحاربين في فيتنام الذين أقاموا معسكرات لتدريب القوات شبه العسكرية، بهدف إنشاء وطن للانفصاليين البيض. مع توسع توافر الأسلحة الهجومية والمعدات التكتيكية في الولايات المتحدة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بنت الميليشيات ترسانات مذهلة وازدادت جرأتها في مواجهة السلطات. فوقعت سلسلة من المواجهات البارزة بين الجماعات المتطرفة ووكالات [أجهزة] تطبيق القانون، بما في ذلك في روبي ريدج في ولاية أيداهو في عام 1992 وفي واكو بتكساس في العام التالي، ما لفت الانتباه إلى التهديد الذي كان يطبخ على نار هادئة منذ سنوات. ثم جاء تفجير مدينة أوكلاهوما ليحول التطرف اليميني إلى القضية الأكثر إلحاحاً في السياسة الوطنية، على الأقل لبعض الوقت.
ولكن بدلاً من أن يتشجع اليمين المتطرف بسبب التفجير، توارى عن الأنظار في أعقابه. وانخفضت العضوية في الميليشيات غير الشرعية. كما نأى قادة الميليشيات بأنفسهم عن المفجرين الذين لفتوا انتباهاً غير مرغوب فيه نحو قضيتهم في وكالات تطبيق القانون. ومع تضاؤل التهديد على ما يبدو، تلاشى اليمين المتطرف من الوعي العام. ووسط الاقتصاد المتنامي، والتقدم التكنولوجي، والسلام النسبي، والازدهار في أواخر التسعينيات، صار الإرهاب أولوية ثانوية في سلم أولويات عامة الأميركيين.
تغير كل ذلك في 11 سبتمبر 2001. وبينما كانت البلاد تترنح من الهجمات، رأت الجماعات اليمينية المتطرفة فرصة واغتنمتها، وكيفت رسائلها بسرعة وسهولة مع المشهد الجديد. انطلقت صناعة رهاب الإسلام المدعومة بموارد كافية، مستخدمةً مجموعة متنوعة من أساليب التخويف لتوليد الهستيريا في شأن التهديد الذي يلوح في الأفق. في أوروبا، استحوذت على مخيلة اليمين المتطرف نظرية المؤامرة التي أدرجتها الكاتبة البريطانية بات يور في كتابها "أورابيا" (Eurabia) الصادر عام 2005، وقد جادلت فيه بأن التغييرات الديموغرافية الجذرية التي تحدث في البلدان الأوروبية لم تكن مصادفة. على العكس من ذلك، أشار كتاب "أورابيا" إلى أن المسلمين كانوا ينظمون إحياء دولة خلافة باستبدال الأوروبيين البيض عن طريق الهجرة ومعدلات الولادة المرتفعة لديهم. لقد حذرت يور من أن أوروبا كانت تتحول من حضارة مسيحية إلى حضارة إسلامية، وأن الأوروبيين سيخضعون قريباً للشريعة الإسلامية، ويرغمون إما على اعتناق الدين الإسلامي أو قبول أدوار تابعة.
في هذه البيئة، أصبحت المشاعر المعادية للمهاجرين أكثر انتشاراً. وتبنت الأحزاب والمنظمات السياسية اليمينية المتطرفة فكرة الخطر الإسلامي، باستخدام الاستعارات والأيقونات من الحروب الصليبية المسيحية ومذابح القرن الخامس عشر في أوروبا التي استهدفت المسلمين واليهود. في فرنسا، قارنت زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية، مارين لوبن، مجموعات من المسلمين يصلون على الأرصفة خارج المساجد بالمحتلين النازيين، بينما وصف زعيم اليمين المتطرف الهولندي خيرت فيلدرز اللاجئين بأنهم "غزو إسلامي". وكذلك قامت الذراع البريطانية في مجموعة "جيل الهوية" اليمينية المتطرفة بربط الحرب ضد التعددية الثقافية بجهود القوات الأوروبية في القرن الخامس عشر الرامية إلى استعادة شبه الجزيرة الأيبيرية من الحكام المسلمين الذين سيطروا على معظمها في ذلك الوقت.
كانت هجمات 11 سبتمبر هبة لمروجي كراهية الأجانب، وتفوق العرق الأبيض، والقومية المسيحية.
بحلول عام 2015، كان عشرات الآلاف من الأشخاص يسيرون في مدن عبر أوروبا تحت راية مجموعة تسمى PEGIDA، وهي اختصار ألماني لـ"الأوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب"، وقد أدت تلك التجمعات في بعض الأحيان إلى أعمال عنف بين المتظاهرين والمعارضين المناهضين للفاشية. خلال انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019، وضع حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف (AfD) لافتات إعلانية تحتوي على تفاصيل من لوحة جان ليون جيروم عام 1866 "سوق العبيد" (The Slave Market)، التي تصور امرأة بيضاء عارية يفحص أسنانها وفمها رجل ذو بشرة داكنة لف رأسه بعمامة. حثت الملصقات الناخبين على التعلم من التاريخ "حتى لا تتحول أوروبا إلى أورابيا".
في الولايات المتحدة، تجسدت المشاعر المتزايدة المعادية للمسلمين في حركة ناجحة لمنع بناء مسجد بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر في مدينة نيويورك، كما في تشريع تم تمريره في عشرات الولايات الأميركية لإحباط جهود غير موجودة ترمي إلى إخضاع السكان للشريعة. بعد انتخاب أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة في عام 2008، برزت أعداد قياسية من جماعات الكراهية. عادت الأطراف المناهضة للحكومة التي سكتت بعد تفجير مدينة أوكلاهوما إلى الظهور، مع دعوات للتمرد والثورة أطلقتها ميليشيات مثل "حراس القسم" (Oath Keepers) وحركات مثل "ثلاثة في المئة" (Three Percenters) التي استوحت اسمها من الادعاء الكاذب بأن الأمر احتاج إلى 3 في المئة فحسب من المستعمرين الأميركيين للنهوض بنجاح ضد البريطانيين. واعتباراً من عام 2014، شهدت أميركا الشمالية أيضاً موجة من الهجمات العنيفة شنتها جماعة "إنسل" التي استوحت أفكارها من أيديولوجية تفوق الذكور، ما أدى إلى مقتل العشرات من النساء، بما في ذلك إطلاق نار جماعي في أخوية طالبات جامعيات، واستوديو يوغا، وفي هجوم دهس بالسيارات في شوارع تورنتو. في عام 2016، وصل "براود بويز" إلى مكان الحادث، وانخرطوا في شجار في الشوارع وادعوا أنهم يدافعون عن الحضارة الغربية.
الخطر يستفحل
في خضم فورة النشاط اليميني المتطرف هذه، ظلت الحكومات الوطنية والمنظمات الدولية تصب تركيزها على الإرهاب الإسلامي المتطرف، وأنشأت وكالات جديدة وأنفقت مليارات الدولارات. في المقابل، تم تجاهل التطرف اليميني، واعتبرته المنظمات الدولية مشكلة داخلية تواجه بلداناً منفردة، وليس تهديداً عالمياً مشتركاً.
لا شك في أن الإرهاب الإسلامي المتطرف شكل ولا يزال يشكل تهديداً حقيقياً، لا سيما في البلدان التي تمزقها الصراعات في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط، حيث يودي بحياة الآلاف كل عام، لكن رد الفعل العالمي على صدمة 11 سبتمبر كان مبالغاً فيه لدرجة أنه أعمى صانعي السياسة والمسؤولين الأمنيين والجمهور الأوسع عن رؤية النمو الأسرع لما أصبح تهديداً أكبر بكثير من التطرف اليميني، في الولايات المتحدة على وجه الخصوص. ونتيجة لذلك، تم التعامل مع الهجمات الإرهابية اليمينية على أنها حوادث هامشية، عوضاً عن اعتبارها خطراً مستمراً ومتزايداً على الأمن القومي، يفوق الآن إرهاب التطرف الإسلامي من حيث تأثيره على المجتمعات الغربية.
حتى الهجمات اليمينية المتطرفة الأكثر رعباً وشناعة فشلت في تحفيز وكالات مكافحة الإرهاب في الغرب. في النرويج مثلاً، في عام 2011، قتل متطرف يميني يدعى أندرس بيرينغ بريفيك 77 شخصاً، معظمهم من المراهقين كانوا يحضرون معسكراً صيفياً لحزب العمال خارج أوسلو. كان بريفيك قد كتب بياناً من 1500 صفحة انتقد فيه الإسلام، وحذر من قدوم "أورابيا"، واستشهد بالناشطين الأميركيين المناهضين للمسلمين ما يقرب من 200 مرة. نال هجومه درجة عالية من الاهتمام الإعلامي، لكنه غالباً ما كان يصور على أنه شذوذ، وكان بريفيك نفسه يصور أحياناً على أنه قاتل جماعي مختل عقلياً وليس إرهابياً، على الرغم من أن عنفه كان سياسياً صريحاً.
أدى التركيز المفرط على التهديد الإسلامي إلى ترك التطرف اليميني المتعصب ينمو بلا رادع.
لقد زاد التطرف اليميني بشكل كبير بكل المقاييس المتاحة ذات الصلة، على غرار عدد الاعتقالات والإدانات، وعدد المؤامرات وشدتها، وكمية الدعاية المتداولة، وعدد الهجمات. على الصعيد العالمي، انخفضت الوفيات الناجمة عن الإرهاب في عام 2019 لعام الخامس على التوالي. في المقابل، زادت في أميركا الشمالية، وأوروبا الغربية، وأستراليا، ونيوزيلندا، بنسبة 709 في المئة خلال تلك السنوات الخمس، نتيجة للارتفاع بنحو 250 في المئة في هجمات اليمين المتطرف هناك. في عام 2010، تم تسجيل هجوم إرهابي يميني متطرف واحد لا غير في تلك الأماكن؛ وفي 2019، حصل 49 هجوماً، ما يمثل تقريباً نصف مجموع كل الهجمات الإرهابية في تلك الأماكن، وأسفر عن 82 في المئة من جميع الوفيات المرتبطة بالإرهاب هناك.
قد يجادل البعض بأن تراجع التطرف الإسلامي يعكس فاعلية جهود السلطات لمكافحته ليس إلا، لكن الاختلال الهائل في الموارد والجهود الموجهة نحو إحباط المؤامرات الإرهابية، ومحاربة الغالبية العظمى إرهاب التطرف الإسلامي، نتجت عنهما عواقب مباشرة ساهمت في نجاح اليمين المتطرف. في شهادة حديثة أمام الكونغرس، أشار مسؤولو مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي" إلى أنه على الرغم من التحول الهائل في طبيعة التهديد، لا يزال 80 في المئة من عملائهم الميدانيين لمكافحة الإرهاب يركزون على قضايا الإرهاب الدولي. هذا التخصيص الخاطئ للموارد كان له تأثيره: بين 11 سبتمبر ونهاية 2017، قوطع ثلثا المؤامرات الإسلامية العنيفة في الولايات المتحدة في مرحلة التخطيط، مقابل أقل من الثلث في ما يتعلق بمؤامرات اليمين المتطرف العنيفة.
ميتابوليتيكس الكراهية
عكست عودة العنف اليميني المتطرف بعد أحداث 11 سبتمبر ردود الفعل على الظروف الاجتماعية المتغيرة، ونهوض النزعة "الجهادية"، وانتهازية المحرضين السياسيين، وقصر نظر الحرب على الإرهاب. ومع ذلك، فقد كانت جذورها راسخة أيضاً في مشروع فكري أطلقته في أواخر الستينيات مجموعة من المفكرين الفرنسيين تسمى Nouvelle Droite (اليمين الجديد). أشار البعض إلى هذه المجموعة التي ضمت آلان دو بنوا وغيوم فاي من بين مؤسسيها، بـ"غرامشيي اليمين" بسبب تبنيهم لدعوة المفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي لتحفيز الثورة ليس بالقوة المادية، بل من خلال السيطرة على طريقة تفكير الناس، عن طريق التعليم والتغيير الثقافي. لقد قاموا بتكييف هذا النهج في مفهوم يسمى "ميتابوليتيكس"، أي "ما وراء السياسة"، وهو مصطلح استخدمه اليمين الجديد لوصف جهوده الرامية إلى تعزيز الأفكار الإثنية القومية والأفكار المعادية للمهاجرين، ثم إدخالها في الفكر السائد بطرق من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى التغيير السياسي والاجتماعي.
كانت الميتابوليتيكس بمثابة تمرين في الصبر، تتطلب النظر إلى السياسة باعتبارها "منبثقة من الثقافة"، على حد تعبير الناشط الأميركي اليميني الراحل أندرو بريتبارت. في الممارسة العملية، تضمنت الاستراتيجية استخدام وسائل الإعلام الأكاديمية والسائدة لنقد العولمة والمفاهيم الديمقراطية الليبرالية مثل المساواة والتعددية الثقافية وتأييد الانفصال العرقي والتجانس. واعتبرت أفكار من هذا النوع مثيرة للجدل ولكن مؤثرة: في عام 1978، فاز دو بنوا بجائزة فرنسا الفكرية الأكثر رواجاً، جائزة Prix de l’Essai المرموقة من الأكاديمية الفرنسية.
بعد ما يقرب من 50 عاماً، أثمرت هذه اللعبة الطويلة، أخيراً. وتسربت الأفكار التي كانت ذات يوم مقصية في الهوامش إلى الخطاب العام، ما ساعد على تبرير السياسات المتشددة المناهضة للهجرة. في السنوات الأولى من هذا القرن، حققت الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة انتصارات كبيرة في الانتخابات البرلمانية الوطنية في جميع أنحاء أوروبا، غالباً عن طريق إلباس أكثر الأفكار المتطرفة فظاعة قناع الاحترام من خلال لفها في زخارف العقلانية، وهو نهج أتقنه حزب "البديل من أجل ألمانيا" (الذي أطلق عليه اسم "حزب الأستاذ") وشخصيات "اليمين البديل" في الولايات المتحدة مثل ريتشارد سبنسر. شكلت "الميتابوليتيكس" اليمينية حلقة من ردود الفعل، مع تدفق الأفكار السياسية في نهاية المطاف إلى المنبع، أي الثقافة عندما رسم المحرضون من اليمين المتطرف شعارات وأيقونات تفوق العرق الأبيض على تصميمات ملابس عصرية رائجة ارتداها العديد من الشباب بعد ذلك لتبدو متمردة وغريبة على وسائل التواصل الاجتماعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال العقد الماضي، نجحت الجماعات اليمينية المتطرفة بما يكفي لتخطي "الميتابوليتيكس"، واستطاعت تبني أشكال أكثر تقليدية من السياسة، ليس عن طريق إطلاق الأحزاب السياسية فحسب، بل أيضاً من خلال طرح شيء يشبه سردية كبيرة ترمي إلى توحيد الأجزاء المتباينة من الحركة: نظرية مؤامرة حول "بديل عظيم" قادم ليحل مكان الحضارة الأوروبية والبيضاء. وقد صاغه عالم فرنسي في كتاب صادر في عام 2011 يحمل نفس الاسم (بديل عظيم)، علماً بأن المصطلح يصف مؤامرة مزعومة من قبل النخب العالمية والوطنية لاستبدال السكان البيض والمسيحيين والأوروبيين بآخرين غير مسيحيين وغير بيض. والفكرة هي نوع من أعظم ضربات التطرف اليميني، إذ تجمع بين الأفكار المعادية للمسلمين في "أورابيا"، والقومية البيضاء على الطريقة الأميركية، والمقتطفات المعادية للسامية القديمة حول الهيمنة اليهودية.
تجدر الإشارة إلى أن نظرية المؤامرة تعتبر قوية لأنها مرنة بشكل ملحوظ. يمكن للمتطرف اليميني أن يتبنى إطار العمل ضد أي تهديد محتمل تقريباً، سواء أكان من اليهود أو المسلمين أو المهاجرين أو حتى التقدميين البيض. في عام 2019، قام إرهابي في مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا، ببث مباشر لقتله 51 مصلياً مسلماً في مسجدين بعد كتابة بيان بعنوان "البديل العظيم". بعد أقل من خمسة أشهر، قتل إرهابي 23 شخصاً في وول مارت في إل باسو بعد نشر بيان مليء بالكراهية حذر من "غزو أميركا اللاتينية لتكساس" وادعى أنه يتم استبدال البيض من خلال الهجرة.
رد الفعل
كانت الدعاية المعادية للمسلمين ونظريات المؤامرة التي اندمجت في النهاية في سردية "البديل العظيم" مدعومة في كثير من الحالات عن غير قصد بسياسات مكافحة الإرهاب التي شوهت التمييز بين الإرهاب الإسلامي والإسلام. في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، ظهرت مناهج مكافحة التطرف، مثل ما يسمى سياسة المنع (Prevent) في المملكة المتحدة أو برنامج مراقبة المسلمين التابع لإدارة شرطة مدينة نيويورك، واستهدفت المجتمعات المسلمة العادية. بعد عقد كامل من أحداث 11 سبتمبر، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يستخدم مواد تدريبية معادية للإسلام تصف المسلمين العاديين بأنهم متعاطفون مع الإرهاب وتبرعاتهم الخيرية بمثابة "آلية تمويل للقتال". بالنسبة لنشطاء اليمين المتطرف، بدا أن مثل هذه الممارسات تؤكد أن الإسلام نفسه يشكل تهديداً وجودياً وحضارياً. كما مهدت تلك المناهج الطريق أمام أفكار تمييزية أكثر علانية، مثل تأملات ترمب خلال الحملة الرئاسية لعام 2016 حول بناء قاعدة بيانات وطنية للمسلمين ووعده بمنع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، أدت الحرب العالمية على الإرهاب إلى أعمال عسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مسببةً أزمة هجرة غير مسبوقة إلى أوروبا، ساهمت بدورها في تنشيط اليمين المتطرف. بعد الغزو الأميركي في أفغانستان والعراق، فر ملايين الأشخاص من هذين البلدين إلى أوروبا، ما أدى إلى نزوح المسلمين بأعداد كبيرة فأنتج رد فعل عنيفاً، تضمن مسيرات مناهضة للمسلمين ومئات الهجمات على اللاجئين وطالبي اللجوء.
أصبح المتطرفون اليمينيون صورة طبق الأصل من المتطرفين المسلمين الذين يمقتونهم.
وكذلك، ساهمت الأعمال العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط في إثارة المشاعر المعادية للمسلمين بين قوات الخدمة الفعلية وفي مجتمعات المحاربين القدامى. كما ساعدت البضائع المعروضة للبيع على المواقع الإلكترونية التي تلبي حاجات قدامى المحاربين العسكريين في نقل المشاعر المعادية للإسلام الناشئة في خطوط المواجهة الأمامية إلى الحياة المدنية في الوطن. واستطراداً، سمحت الملصقات الخلفية في المركبات والقمصان للجنود الأميركيين بالتعريف عن أنفسهم بفخر على أنهم "كفار" وعرضت نصاً عربياً مع عبارة "ابق بعيداً 100 متر وإلا ستتعرض لطلق ناري".
في ظل هذه الأوضاع، شهدت الولايات المتحدة نمو الميليشيات غير القانونية في الحركة المتطرفة المناهضة للحكومة، بما في ذلك بعض الميليشيات التي جندت من مجتمعات قوات الخدمة الفعلية والمحاربين القدامى. على غرار قدامى المحاربين العائدين من حرب فيتنام الذين ساعدوا في إطلاق حركة القوة البيضاء في السبعينيات، عاد بعض قدامى المحاربين في أفغانستان والعراق إلى بلادهم بشعور من الغضب والخيانة. في المقابل، عانى آخرون ضغوط ما بعد الصدمة، وهي بحسب البحوث قد تزيد قابلية تأثر الفرد بالتجنيد المتطرف. والجدير بالذكر أن التجريد من الصفات الإنسانية الذي يتم تدريب الجنود على تبنيه بمثابة تكتيك في ساحة المعركة مثلاً، قد لا يتوقف تلقائياً عند عودة الفرد إلى المجتمع المدني. وكذلك، فالخطاب الذي استخدمته الجماعات اليمينية المتطرفة لتجنيد الأعضاء يردد اللغة التي جذبت كثيرين للانخراط في القوات المسلحة، مركزاً على نداءات الأخوة والبطولة والدفاع عن الناس وفرصة المشاركة في قضية ذات مغزى.
حرب أخرى على الإرهاب؟
النبأ السار هو أن تصاعد العنف اليميني المتطرف قد استحوذ أخيراً على اهتمام مسؤولي مكافحة الإرهاب. يجري حاضراً تهافت لإعادة تنظيم الموارد وتجميع الخبرات. من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى البرلمانات الوطنية والجيوش والوكالات الأمنية، هناك حالياً العشرات من اللجان، وفرق العمل الخاصة، والإحاطات الإعلامية، وجلسات الاستماع، والتحقيقات التي تجري في جميع أنحاء العالم لاستكشاف طرق في مواجهة التهديد الجديد. أعلنت بعض الدول بالفعل عن تشريعات جديدة، على غرار ألمانيا التي تخطط لإنفاق مليار يورو على 89 إجراءً محدداً لمكافحة العنصرية والتطرف اليميني، بينما يشمل رد فعل نيوزيلندا واسع النطاق على هجوم كرايستشيرش تغييرات مقترحة في تشريعات جرائم الكراهية وقوانين مكافحة الإرهاب، وإنشاء وزارة جديدة خاصة بالجماعات العرقية، وتمويل تعزيز الأمن للمجتمعات المهددة بشكل خاص بالإرهاب، وإنشاء مركز وطني جديد من أجل التماسك الاجتماعي والوقاية من التطرف.
والتغييرات جارية في الولايات المتحدة أيضاً. في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، أعلن تقييم التهديد السنوي الذي أجرته وزارة الأمن الداخلي أخيراً أن التطرف العنيف المحلي هو التهديد الأكثر إلحاحاً وفتكاً الذي يواجه البلاد. بعد بضعة أشهر، أدى هجوم 6 يناير (كانون الثاني) على مبنى الكابيتول الأميركي إلى إبراز هذا الواقع بشكل حاد. وفي يونيو (حزيران) من هذا العام، أصدرت إدارة بايدن أول استراتيجية وطنية في البلاد تتولى مكافحة الإرهاب المحلي، وتؤكد على منع التطرف من خلال تعزيز مهارات التثقيف الإعلامي وبناء القدرة على الصمود أمام المعلومات المضللة عبر الإنترنت والحاجة إلى معالجة الظروف الأساسية التي تساعد في تأجيج التطرف المحلي، بما في ذلك العنصرية والسيطرة غير الكافية على السلاح.
من أجل محاربة اليمين المتطرف، سيحتاج القادة إلى التخلي عن المنطق الذي غذى الحرب على الإرهاب.
في الواقع، يمثل ذلك تغييراً مرحباً به، لكن تنفيذ سياسات جديدة في جميع أنحاء العالم سيواجه تحديات كبيرة في وقت يغير فيه الغرب اتجاهه بعيداً عن حقبة سابقة من الإرهاب. والمشكلة هيكلية جزئياً: إذ إن الاستراتيجيات المصممة لمكافحة الإرهاب "الجهادي" على غرار مراقبة المجموعات الهرمية من القادة والخلايا ورصدها، غير مناسبة لطبيعة "ما بعد المرحلة التنظيمية" الخاصة بالتطرف اليميني. كما أن المجموعات الرسمية تلعب دوراً متضائلاً في التجنيد اليميني المتطرف والراديكالية، وهو أمر يحدث عادةً في نظام بيئي واسع النطاق ومتوسع باستمرار على الإنترنت، يتمحور حول الدعاية والمعلومات المضللة. بين عامي 2002 و2019، كان 13 في المئة من هجمات اليمين المتطرف الإرهابية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا ونيوزيلندا التي أسفرت عن وفاة واحدة على الأقل، ينسب إلى جماعة معينة. حاضراً، يتضمن التطرف اليميني عدداً أقل من طقوس الانتساب في المناطق النائية وهجمات أقل تشنها الخلايا، مقابل مزيد من التدريب الموجه ذاتياً والعمليات الفردية، التي يتم بثها مباشرة إلى جمهور عالمي.
إن دوافع وأيديولوجيات الجماعات اليمينية المتطرفة مشوشة أكثر من تلك الخاصة بالجماعات الإسلامية المتطرفة التي اعتاد عليها معظم خبراء الإرهاب، إذ إن الكون اليميني المتطرف يشمل المجهزين لليوم الأسود، والنازيين الجدد النباتيين، والنشطاء المناهضين للقاح، وأتباع حركة "كيو آنون" QAnon، وآلاف المتطرفين غير القابلين للتصنيف الذين قاموا بتجميع أجزاء من الدعاية اليمينية المتطرفة لتصبح أنظمة معتقدات "اختر مغامرتك الخاصة" التي لا يجدها الغرباء منطقية دائماً. بعض الجماعات اليمينية المتطرفة يروج لحقوق مجتمع الميم وحقوق المرأة مثلاً من أجل جذب المؤيدين من اليسار التقدمي من خلال القول إنهم يدافعون عما يزعمون أنه قيم غربية ضد العدوان الإسلامي. أو يعتبرون "الفاشيين الإيكولوجيين" الذين يدعمون إغلاق الحدود وسيلةً لحماية الأراضي المهددة بتغيير المناخ والحفاظ عليها، ليس لصالح الإنسانية، ولكن لصالح البيض، الذين يعتقدون أن لهم حق "الدم والتربة" في تلك الأراضي.
سوف تتمحور مكافحة هذه التهديدات بشكل أقل حول طرق المراقبة والرصد التي اعتبرت تكتيكات مميزة في الحرب العالمية على الإرهاب، وستركز أكثر على بناء قدرة المجتمعات على الصمود أمام الدعاية والمعلومات المضللة. من الواضح أن سياسة الخوف التي مارسها عدد من المسؤولين والقادة في الدول الغربية في حقبة ما بعد 11 سبتمبر ساهمت في تطرف اليمين. فمن خلال تشجيع الناس على الشعور بأنهم يفتقرون إلى السيطرة على حياتهم، ورؤية أنفسهم على أنهم ضعفاء، والشعور بالخوف من الغرباء، فتح هذا النمط من السياسة الباب أمام المتطرفين، الذين دخلوا عبره. لذا فإن قتال اليمين المتطرف سيعني أيضاً التخلي بشكل كامل عن المنطق الحضاري الذي شجع الحرب على الإرهاب، أحياناً بوعي، وأحياناً عن غير قصد. يجب على سلطات مكافحة الإرهاب أن تتخلص من السياسات والرسائل المبنية على فكرة أن الإسلام يشكل تهديداً للحضارة الغربية، وهي فكرة ساعدت على خلق نوع من السقالات الأيديولوجية بنى عليها اليمين المتطرف حركته.
الغد مجهول
في الأسابيع التي تلت السادس من يناير، أصبحت العاصمة واشنطن منطقة عسكرية. فتم تسييج مساحات واسعة في وسط المدينة، وتمركزت نقاط تفتيش عسكرية على الجسور، ونشر أكثر من 25 ألف عنصر من قوات الحرس الوطني من أجل تأمين المدينة قبل تنصيب الرئيس جو بايدن.
ربما سيعتاد الأميركيون ببساطة على هذه الإجراءات الأمنية، تماماً كما اعتاد المسافرون العالميون على قبول المرور من دون أحزمة ومن دون أحذية عبر أمن المطار. بغية تجنب هذه النتيجة، سيتعين على مسؤولي مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة أن يتحسنوا في مجال الوقاية. في الحقيقة، هناك أدلة قليلة حول ما ينجح في منع التطرف أو مساعدة الناس على الانسحاب من الحركات المتطرفة، ومعرفة أقل بأنواع التدخلات التي يمكن توسيع نطاقها بشكل فعال. تتبنى البلدان الأخرى مناهج شاملة، تتضمن الوكالات التي تتعامل مع الخدمات الصحية والإنسانية، والثقافة، والتعليم، والرعاية الاجتماعية. في منحى مقابل، لا تزال الخبرة الأميركية مركزة في وكالات الأمن وتطبيق القانون، على الرغم من أن الاستراتيجية الوطنية الجديدة لبايدن تشير إلى تحول، وتتصور جهداً منسقاً متعدد الوكالات من أجل تخفيف الاستقطاب، والحد من الوصول إلى الأسلحة النارية، ومكافحة العنصرية.
ربما يكون الدرس الوحيد الأكثر أهمية الذي يمكن استخلاصه من تعبئة اليمين المتطرف على مدار العشرين عاماً الماضية هو ضرورة تغذية الأفكار والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية من خلال التعليم، وليس الدفاع عنها بالقوة فحسب، إذ إن أفضل طريقة لمحاربة جهة متطرفة منتشرة في كل مكان ليست بالقمع وحده، بل من خلال جعل المجتمع السائد أكثر صموداً وأقل عرضة لنداءات اليمين المتطرف. هذا هو نهج "الديمقراطية الدفاعية" الذي اتبعته ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تضمن استثمارات فيدرالية مستدامة في برامج محو الأمية الإعلامية القابلة للتطوير والقائمة على الأدلة بغية تعزيز دعم المواطنين للديمقراطية المتعددة الثقافات ومبادئها الأساسية. ويتطلب ذلك توفير الأدوات لجميع المواطنين حتى يتعرفوا على الدعاية المتطرفة والمعلومات المضللة ويرفضوها، ولكن لا تستطيع الوكالات الفيدرالية القيام بهذه المهمة بمفردها؛ إذ إن جهوداً مماثلة تعمل بشكل أفضل عندما تتكامل مع مبادرات على المستوى المحلي، حيث يتمتع القادة بمزيد من الثقة ويكونون مجهزين بشكل أفضل لفهم احتياجات مجتمعاتهم.
لا يزال لدى الوكالات الأمنية وأجهزة تطبيق القانون دور تلعبه، لكن على السلطات أن توسع مجموعة الخبراء الذين يقدمون المشورة لها في شأن الإرهاب: لقد كافحت الوكالات المليئة بالخبراء المدربين بأغلبية ساحقة على التعامل مع المصادر الإسلامية للإرهاب من أجل التعرف على التهديد اليميني المتطرف والرد عليه. وحري بالحكومات تشكيل فرق من الخبراء عبر الوكالات متخصصين في العمل الاجتماعي وعلم النفس والتعليم، وقضايا مثل الطوائف والعصابات والعنف القائم على الجنس والعنصرية والصدمات. كما ينبغي عليها إقامة علاقات أعمق مع الأكاديميين ومراكز البحث، حيث غالباً ما يكون العلماء الأصغر سناً على علم بالتهديدات الجديدة والمتطورة.
لا توجد كرة بلورية يمكنها التنبؤ بما سيأتي به مستقبل الإرهاب، ولكن إذا كان هناك يقين واحد، فهو أن تطرف الغد لن يبدو تماماً كما هو عليه اليوم. من المرجح أن تشهد الولايات المتحدة مزيداً من أعمال العنف التي يرتكبها دُعاة حماية البيئة المتطرفين، القادمين من ائتلافات المجموعات المناهضة للقاح والمناهضة للحكومة ونظرية المؤامرة؛ ومن الجماعات التي تسعى إلى انهيار النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تعزيزاً لمجموعة متنوعة من الأهداف الأيديولوجية التي يصعب تحديدها. مع تطور الخطر، أسوأ ما يمكن أن تفعله الدولة هو التركيز مرة أخرى بهوس شديد وبشكل حصري على التهديد الذي تواجهه اليوم.
سينثيا ميلر إدريس هي مديرة مركز البحوث والابتكار في الاستقطاب والتطرف بالجامعة الأميركية كما أنها مؤلفة كتاب "الكراهية في الوطن: اليمين المتطرف العالمي الجديد".