لا يبدو مشهد الانتخابات في العراق هذه المرة مختلفاً عما كان عليه في مايو (أيار) 2018 خلال الانتخابات السابقة، حيث لا تزال مؤشرات المقاطعة واسعة، وبخاصة مع عدم حسم الملفات العديدة التي كانت تطالب بها قوى احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) العراقية.
وكانت الانتخابات المبكرة شرطاً رئيساً من شروط الاحتجاجات الشعبية، إلا أن الناشطين وضعوا شروطاً عدة للقبول بها، وعلى رأسها محاسبة قتلة المحتجين، وإنهاء ظاهرة السلاح المنفلت، فضلاً عن وضع حد لحالة الإفلات من العقاب التي تسيطر على الأجواء السياسية في البلاد.
تجدد الاحتجاجات؟
ويثار العديد من الأسئلة بخصوص الموعد المقرر للانتخابات في العاشر من أكتوبر المقبل، خصوصاً مع كونها تتزامن مع الذكرى الثانية لانطلاق الاحتجاجات العراقية، وما إذا كان هذا الموعد سيسهم في زيادة زخم حملات المقاطعة أو يحفز احتجاجات واسعة مع اقتراب موعد الانتخابات.
ويرى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي، أن "تزامن الانتخابات العراقية مع الذكرى السنوية للانتفاضة كان يمكن أن يمثل مأزقاً كبيراً للقوى السياسية التقليدية، إلا أن عدم تمكن قوى تشرين من طرح بديل يقنع الرأي العام ويحقق رصيداً جماهيرياً يحول دون ذلك".
ولعل من بين الأسباب التي عرقلت إمكانية قوى الاحتجاجات العراقية من طرح بدائل مقنعة، يتمثل بـ"الملاحقات وعمليات الاغتيال الواسعة التي طاولت ناشطين بارزين، وسيطرة السلاح على الحراك السياسي في البلاد"، بحسب الشريفي، الذي يشير إلى أن تلك المعطيات تعزز من احتمالية "إعادة انتاج الانتفاضة مرة أخرى".
ويبدو أن مقاطعة الانتخابات باتت تمثل "الخيار الأفضل بالنسبة لقوى الانتفاضة"، كما يعبر الشريفي، حيث يلفت إلى أن تلك المقاطعة تمثل "رفضاً واضحاً لقواعد اللعبة التي تحاول الأحزاب التقليدية فرضها على قوى الاحتجاج، وبخاصة مع عدم تحقيق كل المتطلبات التي كان يفترض أن تسبق اجراء الانتخابات المبكرة".
ويتابع أن مقاطعة الانتخابات وتزامنها مع الذكرى السنوية للاحتجاجات "يمثلان حدثين محفزين لإعادة إنتاج الاحتجاجات من جديد".
ويختم بأن "التظاهر بات المساحة الوحيدة المتاحة أمام قوى الانتفاضة، إلا أن التساؤل المطروح يتعلق بمدى جدوى التظاهر، وبخاصة مع المعطيات التي تشير إلى عدم تقبّل الإرادة الدولية لخيار حكومة الطوارئ تواطئاً مع الحركات السياسية التقليدية"، مبيناً أن "الوقائع تشي بأن التوازنات الإقليمية والدولية ما زالت راغبة باستمرار النموذج السياسي الحالي برغم فساده وتورطه بالإرهاب".
"انتخابات تشرين" رسالة إلى المجتمع الدولي
ويبدو أن اختيار عنوان "انتخابات تشرين" يمثل محاولة من القوى السياسية في البلاد تصوير الانتخابات المقبلة على أنها تمثل تماهياً مع متطلبات الشارع العراقي خلال احتجاجات أكتوبر 2019، حيث يرى مراقبون أن هذا العنوان يحمل رسالة إلى الفاعلين الدوليين في محاولة لاستعادة شرعية النظام السياسي في البلاد.
ويرى رئيس المركز العربي الأسترالي للدراسات، أحمد الياسري، أن "اختيار عنوان (انتخابات تشرين) للانتخابات المقبلة كان متعمداً ويمثل رسالة إلى المجتمع الدولي لاستعادة شرعية النظام السياسي في العراق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد الياسري، أن "النظام السياسي في العراق يشهد أزمة شرعية كبيرة ما بعد الانتفاضة، وهو الأمر الذي ربما يكون الدافع الرئيس خلف اختيار موعد الانتخابات، في محاولة لإظهار النظام السياسي على أنه مُتماهٍ مع المطالب الشعبية".
ويعيد موعد الانتخابات التشريعية التي من المفترض أن تقام في العاشر من الشهر المقبل "مشاهد القتل التي جرت في أكتوبر 2019 إلى ذاكرة العراقيين"، بحسب الياسري، الذي يبين أن، هذا الأمر "سيمثل مأزقاً كبيراً للقوى التقليدية من خلال تحفيز حملة مقاطعة واسعة ويزيد من احتمالية إعادة إنتاج الانتفاضة مرة أخرى".
ويشير الياسري إلى أن "تلك الانتخابات العراقية هذه المرة تحمل عنواناً واضحاً من خلال استخدام (تشرين) كواجهة لها، الأمر الذي يدلل بشكل واضح على محاولة المنظومة السياسية استعادة شرعيتها وتطبيع أوضاعها مع القواعد الشعبية والمجتمع الدولي مرة أخرى".
ويختم بأن الموعد انتخابات أو نتائجها في حال أعادت إنتاج ذات المعادلة السياسية ربما يؤديان إلى "تحفيز القواعد الشعبية لإشعال احتجاجات أوسع بكثير من الانتفاضة السابقة".
ومن المتوقع أن تشهد الذكرى الثانية لاحتجاجات أكتوبر، وتحديداً مطلع الشهر المقبل، تظاهرات لاستذكار المطالب الشعبية، والتي يرى ناشطون أنها لم تتحقق حتى بعد مرور عامين عليها، مع تزايد الدعوات لإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب حتى بعد مقتل نحو 800 متظاهر، وجرح عشرات الآلاف منهم.
ويقول الكاتب والصحافي محمد حبيب، إن "مهمة الكاظمي لم تكن إقامة الانتخابات المبكرة بقدر تصفية ملف التظاهرات، وعلى رأسها ملف القتلة والكشف عنهم على الأقل"، مردفاً "إذا كان الاقتصاص صعباً لدواعٍ سياسية، فإن الجمهور كان ينتظر الكشف عن القتلة على الأقل، واتخاذ إجراءات تعيد الدولة إلى المسار الصحيح".
ويضيف حبيب لـ"اندبندنت عربية"، أن ما حدث يمثل "تذويباً لملف التظاهرات والاندفاع نحو الانتخابات كهدف وحيد بالنسبة لحكومة الكاظمي"، مبيناً أن هذا الأمر "أنتج واقعاً مشوهاً سيفضي إلى إنتاج خريطة سياسية مشوهة بعد الانتخابات، ويتحمل مسؤوليتها الكاظمي".
ويبدو أن ما جرى خلال الفترة الماضية أسهم بزيادة تعقيد الأوضاع في البلاد، كما يعبّر حبيب، الذي يلفت إلى أن "حكومة الكاظمي التي كان يفترض بها أن تهيئ أجواءً أفضل، فاقمت المشاكل وراكمتها".
وفي شأن سيناريوهات ما بعد الانتخابات، يعتقد حبيب أن "من الصعب التنبؤ بما قد تسفر عنه الانتخابات المقبلة، حيث سيبقى الباب مفتوحاً أمام المفاجئات كما حصل في أكتوبر 2019"، مبيناً أن المؤكد في المعادلة العراقية هو أن "الكاظمي والقوى السياسية ارتكبوا خطأ كبيراً عندما ذوّبوا مطالب المحتجين ودفعوا البلاد إلى انتخابات على قاعدة رملية قد تتسبب بانهيار المنظومة السياسية في أي مناسبة مقبلة".
مقاطعة الانتخابات
وتتزايد التساؤلات في شأن إمكانية أن تؤثر حملات الناشطين، والتي ربما تنطلق بشكل موسع مطلع شهر أكتوبر المقبل برفع زخم المقاطعة، وبخاصة حملات إحياء ذكرى الناشطين البارزين الذين تم اغتيالهم خلال العامين الأخيرين.
وبدأت على مواقع التواصل الاجتماعي حملات واسعة تحيي ذكرى أبرز الناشطين الذين تم اغتيالهم، ابتداءً بالباحث في الشأن السياسي هشام الهاشمي الذي اغتيل في بغداد في يونيو (حزيران) 2020، والناشط في محافظة ميسان عبد القدوس قاسم الذي اغتيل في محافظة ميسان في مارس (آذار) 2020، مروراً بناشطي محافظة البصرة، ومن بينهم الناشطة ريهام يعقوب، والناشط تحسين الشحماني، اللذان تم اغتيالهما في أغسطس (آب) 2020، وصولاً إلى الناشط الكربلائي إيهاب الوزني، الذي اغتيل في شهر مايو الماضي، وغيرهم من ضحايا الاغتيالات.
ونشر ناشطون الصور لضحايا الاغتيالات على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرين إلى أن هؤلاء كان يمكن أن يكونوا من المرشحين المحتملين في الانتخابات فيما لو انصاع النظام السياسي لمطالبهم، في محاولة لتحفيز حملة المقاطعة التي تشهدها البلاد.
ويرى علاء ستار، عضو الأمانة العامة لحزب "البيت الوطني"، أحد أبرز الأحزاب المنبثقة عن الاحتجاجات العراقية، أن "موعد الانتخابات لم يعد عاملاً مؤثراً في معادلة التغيير في البلاد، وبخاصة مع استمرار الظروف الانتخابية على حالها"، لافتاً إلى أن "السواد الأعظم من قوى تشرين أعلنت المقاطعة لأسباب عديدة أهمها؛ غياب الأمن الانتخابي وتهديد الناشطين وتهجيرهم خارج محافظاتهم".
ويرجح ستار عودة الاحتجاجات مرة أخرى بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، مبيناً أن "السيناريو المتوقع لن يكون مختلفاً عما كان عليه بعد انتخابات عام 2018، والتي أفضت في النهاية إلى حدوث الانتفاضة".
ويؤكد أن ما جرى خلال العامين الأخيرين "لم يكن سوى وعود مفرغة من أي محتوى، لم تؤدِ إلا لزيادة الفجوة بين المجتمع العراقي وسلطة الأحزاب الميليشيات، وهذا الأمر يجعل عودة الانتفاضة بعد الانتخابات المقبلة أمراً حتمياً".
وفي شأن إحياء ذكرى الناشطين الذين تم اغتيالهم خلال العامين الأخيرين، يشير ستار إلى أن "هؤلاء كان يمكن أن يمثلوا قوى الانتفاضة في الانتخابات، إلا أن اغتيالهم وإفلات الجناة من المحاسبة يمثلان دافعاً رئيساً للمقاطعة".
ويختم بأن "الكثير من قوى الانتفاضة والناشطين الفاعلين يعملون على إحياء ذكرى الانتفاضة الشهر المقبل، والتي ربما تمثل عودة واسعة للاحتجاجات بالتزامن مع الانتخابات المبكرة".
وتبقى جميع السيناريوهات مفتوحة أمام الانتخابات المقبلة في العراق، في ظل تنامي حملات المقاطعة التي يشنها الناشطون، واستمرار سطوة الأحزاب ذات الأجنحة المسلحة على الوضع العام في البلاد.