للوهلة الأولى تبدو اللوحة التي رسمها الفرنسي غوستاف كوربيه بين العامين 1854 و1855 بعنوان "ناخلات القمح" عملاً واقعياً يسير في تعبيره عن مشهد من الحياة الريفية الزراعية الفرنسية، على خطى زميله ميّيه الذي كان قد سبقه إلى رسم مشهد مماثل.
غير أن المرء ما إن يحدق في اللوحة ويدرسها في تفاصيلها ومن ثم يتمعن في تاريخها وموقعها في المسار الفني لكوربيه، حتى يجد نفسه أمام عمل فني أكثر دلالة مما كان يعتقد أول الأمر، ولعل ما يزيد هذا الشعور هو الضخامة الاستثنائية للوحة مقارنة مع شبيهاتها من اللوحات الريفية الفرنسية التي تحاول أن تصور مشاهد مستقاة من الواقع.
واللوحة في النظرة الأولى إليها تمثل مشهداً من حياة العمل الزراعي اليومي تحديداً في مدينة أورنان بمنطقة الدوبس مسقط رأس الفنان، ولكن المشهد حتى وإن كنا سنعرف بعد سطور أنه بالفعل مشهد عائلي، يبدو مرتبطاً بنوع من التعبير الموضوعي عن تقدم الحياة الزراعية بما يتجاوز السمات العائلية.
تطورات تقنية
وهذا ما تقترحه على أي حال مجموعة من دراسات تناولت اللوحة وتفيد بأن ما نشاهده هنا إنما هو استعراض بانورامي من يسار اللوحة إلى يمينها للتطور الذي طاول عند أواسط القرن الـ 19، تلك الآلية العملية المتمثلة في الاشتغال على نخل القمح، فإلى أقصى يسار اللوحة لدينا واحدة من الأشخاص الثلاثة الماثلين فيها، فتاة تبدو نصف نائمة تشتغل على نخل القمح وفصله عن الزؤان يدوياً بحركة بطيئة خاملة تنم عنها جلستها والناتج الضئيل مما تفعله، وفي وسط اللوحة عبر حراك نشيط وربما مثير إلى حد ما، لدينا مستوى آخر من مستويات عملية النخل، كما تمارسه صبية تبدو أكثر نشاطاً ودينامية وأوفر إنتاجاً في قيامها بالنخل بواسطة منخل يسرّع العملية أضعافاً مضاعفة، وذلك على وقع حركة يلعب فيها جسد الفتاة وتحركها اللولبي دوراً أساساً، مما يجعل العملية هنا أسرع وأنشط من تلك التي تنخل بها الفتاة الأولى. كما يمكننا أن نلاحظ دينامية جسد الفتاة المرتدية الثوب الأحمر، بالمقارنة مع خمول جسد الفتاة الأولى.
أما عند المستوى الثالث حيث يطالعنا طفل يتأمل داخل جهاز سنعرف ماهيته على الفور، فلدينا بالتأكيد طريقة ثالثة أكثر ديناميكية وتطوراً لنخل القمح. طريقة هي من التقدم والسهولة والبساطة إلى درجة تجعل الجهاز يعمل تلقائياً ولا تشكل حركته أي خطر على الطفل الذي يُترك في تأمله المرح بكل طمأنينة.
انتقال نوعي في ريف يتقدم
إننا هنا تحديداً في زمن الانتقال من العمل اليدوي المباشر إلى العمل اليدوي الذي يجد عوناً مسرعاً له من جانب جهاز لا شك في أنه لم يكن يُعتبر بدائياً تماماً حينها، وصولاً إلى بدايات العمل الآلي، وذلك لبلوغ نتيجة واحدة يتفاقم فيها كم الإنتاج في ريف من الواضح من ناحية أخرى أنه وفي منطقة الدوبس الفرنسية تحديداً كان من التطور بحيث لا يحتاج فقط إلى إشراك كل الأيدي العاملة العائلية، بل أيضاً للوصول إلى ابتكارات جديدة تتماشى مع التطور الكمي للإنتاج، محولة إياه إلى تطور نوعي.
ومن الواضح هنا أن كوربيه الذي كان معروفاً، إلى واقعية فنه، بمسايرته للأفكار التطورية في زمنه، تمكن في لوحة واحدة من أن يختصر لنا حكاية متكاملة حول واقع العمل الزراعي، بشكل يتمايز عن العديد من الواقعيات الرومانسية الفلاحية التي لم تكن لتهتم بهذا الجانب، وربما يمكننا أن نعيد التأكيد هنا على أن هذا الجانب من اهتمامات كوربيه سيكون هو ما يقوده لاحقاً إلى الانضمام للكوميونة الثورية الباريسية التي اندلعت عند بدايات سبعينيات القرن الـ 19 نفسه، إذ شغل منصب مفوض الفنون في اللجان الثورية، غير أن هذه حكاية أخرى لا تهمنا كثيراً هنا.
"ميزانسين" عائلي
ما يهمنا هنا هو هذه اللوحة البديعة التي تعتبر منذ زمن بعيد مفخرة مدينة نانت التي اشترتها بلديتها حين عُرضت للمرة الأولى ولم تبارح جدران متحفها بعد ذلك أبداً، وهنا لا بد من أن نذكر أن "ناخلات القمح" تعتبر جزءاً من ثلاثية فنية رسمها كوربيه خلال سنوات قليلة تباعاً، منها اثنتان صوّر فيهما بعض أفراد عائلته، وأطلق كوربيه نفسه على الثلاثية اسم "نساء معاصرات"، أما اللوحتان الأخريان فهما "آنسات القرية" (1852) و"آنسات على ضفاف السين" (1857)، وبالتالي فمن الواضح أن الفتاتين اللتين نراهما في اللوحة التي نتحدث عنها هنا، "ناخلات القمح"، هما شقيقتا كوربيه نفسه، جولييت الجالسة تنقي القمح يدوياً بتكاسل، وزوي العابقة بنشاط استثنائي تملأ اللوحة حركة وإثارة ودينامية، أما الطفل فهو الابن الطبيعي للرسام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانطلاقاً من هذه المعلومات المتوافق عليها يصبح في مقدورنا أن نفترض هنا أن المشهد مبني على نوع من "ميزانسين" (mise en scene)، رتبه الرسام عن قصد لكي يرسمه ويرسم من خلاله ذلك التطور الاجتماعي الذي يرصده، إذ إن سيرة كوربيه لا تفيدنا بأنه ينتمي في الأصل إلى عائلة فلاحية، ولا أن شقيقتيه كانتا فلاحتين تنخلان القمح حقاً، ولنضف إلى هذا أن اثنتين من الفتيات الثلاث اللاتي نراهن في لوحة "آنسات القرية" هن كذلك شقيقتا كوربيه، بينما يمكننا أن نفترض أن الفتاتين اللتين نراهما مستلقيتين على ضفة نهر السين في اللوحة الثالثة لا يمكن أن تكونا تينك الشقيقتين، بخاصة وقد تحدث عنهما المفكر الفوضوي برودون بلغة غير لائقة، وهو أمر ما كان ليفعله لو كانتا شقيقتي صديقه المقرب.
إفلاس ما قبل النهاية
في نهاية الأمر إذاً، وفي عودة منا إلى لوحة "ناخلات القمح"، نجدنا أيضاً أمام لوحة عائلية نجح الرسام في أن يجعلها واحدة من أجمل أعماله مخلداً من خلالها لحظة بديعة من حياة الأختين كما من طفولة ابنه، محولاً الثلاثة إلى ما يشبه المؤدين المسرحيين في مشهد يمزج تشكيلياً بين الأداء الدرامي والراقص والانسجام العائلي، كما يعبر عما يمكننا تسميته "حياة الأيام والأعمال" في ذلك الزمن الذي أسهم غوستاف كوربيه (1819 – 1877) إسهاماً أساساً فيه، ليس فقط بالنسبة إلى القضايا الفنية التشكيلية، بل كذلك بالنسبة إلى التقدم الاجتماعي والفكري والتعبير عنه، ناهيك عن إسهاماته في قضية المرأة والتعبير عن مكانتها في المجتمع، واصلاً في هذا إلى حدود تطرف عبر عنه في لوحات أخرى له، ولعل في إمكاننا أن نعزو إلى تلك الجهود النضالية التقدمية التي بذلها حتى خارج كونه رساماً، تلك الصراعات التي اضطر إلى خوضها طوال حياته، لا سيما بعد إخفاق الكوميونة التي ارتبط بها عضوياً، مما اضطره بعد حين إلى الهرب لاجئاً إلى سويسرا بعد تكالب السلطات عليه، متذرعة بفشل مشروع فني عمراني تولاه بحماسة وهو "مشروع عمود الفاندوم" الذي طالبته السلطات بتسديد ما كانت أنفقته عليه، فلما عجز صادرت كل ما عثرت عليه في محترفه من لوحات، مما أوصله إلى الإفلاس خلال الأعوام الأخيرة من حياته.
مجد متأخر
بقي أن نشير أخيراً إلى أن كوربيه الذي سيشتهر في العالم لاحقاً بفضل عدد من اللوحات الإباحية، منها تلك المعنونة "أصل العالم"، والتي رسمها لحساب دبلوماسي تركي كان مقيماً في باريس ويدعى خليل بيك، ولد في مدينة أورنان وتعلم الرسم باكراً لينتقل إلى باريس بين عامي 1839 و1843، ويبدأ بإرسال لوحاته إلى صالونات خلال الأعوام 1841 و1842 و1843 تباعاً، فترفض بصورة ممنهجة، وكان عليه أن ينتظر بضع سنوات أخرى قبل أن يعرف بدايات المجد بلوحته "بعد ظهر في أورنان"، التي ستطلقه جاعلة منه واحداً من كبار رسامي ما قبل زمن الانطباعيين.