تشير أدلة عديدة إلى احتمال فشل قمة المناخ 26 التي ستنعقد في غلاسكو باسكتلندا، بين 1 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي. وقد ينتج عن فشل القمة انهيار محادثات المناخ بالكامل، والرجوع إلى نقطة الصفر. وانهيار قمة المناخ يعد صفعة كبيرة للأمم المتحدة، ووكالة الطاقة الدولية، ومتطرفي المناخ في حكومة بايدن، كما أنها قد تسبب أزمة سياسية في كندا بسبب تطرف الحكومة الحالية في سياسات المناخ التي اتبعتها.
نجاح القمة يتطلب موافقة جميع الأطراف وتعهدهم بتخفيض الانبعاثات بكميات أكبر، وبفترات أسرع من قبل. وأزعم أنه في ظل الأوضاع الحالية فإن مجرد الحفاظ على مكتسبات قمة باريس، وهي بسيطة، يعد نجاحاً للقمة.
إلا أن فرص النجاح تتضاءل يومياً لأسباب عدة أهمها:
1- انحسار التأثير الأميركي عالمياً بسبب سياسات الرئيس الأميركي السابق ترمب، وعدم قدرة إدارة بايدن على استرداد ما تمت خسارته، على الرغم من أن الأخير جعل موضوع التغير المناخي من أهم أولوياته محلياً وعالمياً. وجاءت فضيحة الانسحاب من أفغانستان لتؤكد للأوروبيين بالذات أن إدارته ليست على مستوى مسؤولية القيادة العالمية. ثم جاءت بعدها أزمة الغواصات الفرنسية، والتحالف الأميركي - البريطاني، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي يعني في النهاية وجود شرخ بين إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي.
أضف إلى ذلك قرار إدارة بايدن بسبب بطاريات صواريخ "باترويت" من السعودية، ومعارضتها لأنبوب "نوردستريم 2" الروسي، الذي توقفت عن معارضته على مضض. وهذا يعني أنها تقف على الجانب الآخر من ثاني وثالث أكبر منتجي النفط في العالم، ومن أكبر الدول المنتجة للبتروكيماويات.
2- استمرار حكومة بايدن بنفس سياسة ترمب تجاه الصين وإيران يوضح أن كلاً من الأخير والأول جاءا إلى "نظام"، يسميه البعض "الدولة العميقة"، جعل كليهما يتبنى السياسات نفسها على الرغم من أنهما على طرفي نقيض (ومن التوافق أيضاً الوقوف مع بريطانيا ضد الاتحاد الأوروبي). الصين ستستخدم ورقة المناخ للمساومة على عدة أمور منها تجارية ومالية، ومنها أمور سياسية، ومنها ما هو متعلق بحقوق الإنسان. وأثبتت الزيارتان اللتان قام بهما جون كيري، المبعوث الأميركي للمناخ، فشل سياسات حكومة بايدن، التي تريد التركيز على مباحثات المناخ، وفصلها عن أي عوامل أخرى، بينما ترى الصين عكس ذلك، "لا يمكنكم فرض عقوبات عليّ، ثم تشوهون سُمعتي عالمياً، ثم تطلبون مني التعاون معكم لإنجاح خطتكم". لهذا يتوقع أن يكون للصين دور أقوى في المباحثات المقبلة ضد الأوروبيين والأميركيين، ولن يتم الاكتفاء ببيع الكلام المعسول.
3- تعاني الصين حالياً نقصاً في إمدادات الكهرباء. وحصول أي جفاف يعني نقص توليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، لهذا فإن اعتمادها على الفحم لن ينخفض بالشكل الذي يريده الأوروبيون والأميركيون. ولنكن واضحين، الصين رائدة في الطاقة المتجددة والنووية، وتخطط لزيادة دورها في إنتاج الكهرباء بشكل كبير. ومن صالحها تخفيف معدلات التلوث، وبخاصة في المدن الكبيرة، لذلك تركز على السيارات الكهربائية، إلا أن حاجتها الضخمة للكهرباء لا تتناسب مع المتطلبات الأوروبية والأميركية.
4- ما ينطبق على الصين ينطبق على الهند، إلا أن الفرق أن الأخيرة ستبحث دائماً عن الأرخص، والأقل تكلفة، لهذا فإنها ستستمر في جهود تبني الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، ولكن بشكل أقل بكثير مما يتطلبه منها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وسينتج عن ذلك استمرارها في استخدام الفحم في توليد الكهرباء لأنه المصدر الأرخص، بكميات أكبر ولفترات أطول مما يجب. ويتضح من الواقع أن المدن أو الولايات الهندية التي تشجع على تبني السيارات الكهربائية ستستخدم المزيد من الفحم في توليد الكهرباء.
5- أستراليا، على الرغم من خلافها الكبير مع الصين في الأمور التجارية، فإنها تقف إلى جانب الصين والهند في مباحثات المناخ. لماذا؟ لأن مصالحها التجارية ومستقبلها المالي يتوقفان على مشاريع طاقة ضخمة تطلبت استثمارات بمئات المليارات من الدولارات على مدى 20 عاماً، وهي مشاريع ستتوقف أو تتحجم إذا التزمت بما يطلبها منها الأوروبيون أو حكومة بايدن. بكل بساطة، أستراليا تعتمد على تصدير الفخم والغاز والنفط، ومعادن كثيرة يتطلب تعدينها استخدام الفحم والنفط والغاز بكثافة.
6- دول النفط بقيادة السعودية وروسيا لها أجندتها الخاصة فيما يتعلق بالمناخ، وستتجاوب مع عديد من المتطلبات عن طريق التركيز على الطاقة المتجددة والهيدروجين، ولكن هدفها الأول والأخير هو المحافظة على سوقها النفطية لأطول فترة ممكنة، لذلك ستعارض أي مقترحات تضر بهذا الهدف. إلا أن شدة الخلاف بين دول الاتحاد الأوروبي مع الصين والهند وأستراليا حول الفحم ستجعل الدول النفطية تفضل البقاء في الظل، ومشاهدة الصراع عن قرب. بعبارة أخرى، "الدول النفطية سعيدة أن يكون الفحم الهدف الرئيس للبيئيين".
7- هناك دول "الابتزاز المناخي"، وهي الدول التي لن توافق على ما يطلبه الأوروبيون وإدارة بايدن إلا إذا حصلت على مقابل، وعلى رأس هذه الدول البرازيل والهند وإندونيسيا وفيتنام وبنغلاديش. المشكلة أن الدول الأوروبية منهكة، ولن تفي بوعودها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
8- هناك تناقض كبير ضمن حكومة بايدن نفسها، حيث إن متطرفي التغير المناخي ناقمون على إدارة بايدن بسبب السماح بالتنقيب عن النفط في المياه العميقة في خليج المكسيك. كما أن هناك معارضة شديدة من الولايات النفطية، التي استطاعت من خلال المحاكم إلغاء قرار بايدن بوقف الحفر في المناطق الفيدرالية في هذه الولايات. وهناك نقمة شديدة من أطراف، بعضها مؤيد لبايدن، بسبب طلب إدارته من "أوبك" زيادة إنتاج النفط لتخفيض أسعار البنزين، في الوقت الذي يحاول فيه بايدن تحجيم الإنتاج الأميركي.
9- هناك نقمة كندية على إدارة بايدن بسبب طلب إدارته من "أوبك" زيادة إنتاج النفط، في الوقت الذي يحاول فيه وقف تدفق النفط الكندي للولايات المتحدة، وبسبب إيقاف معارضة بايدن لأنبوب الغاز الروسي "نوردستريم" في الوقت الذي أوقف فيه خط أنابيب "كي تون" من كندا للولايات المتحدة.
عند قراءة هذا المقال في منطقة الخليج صباح يوم الثلاثاء ستكون نتائج الانتخابات الكندية التي جرت في اليوم السابق، معروفةً. خسارة الليبراليين للحكم تعني سيطرة المحافظين من جديد، وهذا سيضعهم في مواجهة مباشرة مع بايدن في عدة أمور، منها موضوع أنابيب النفط والتغير المناخي، إلا أن كل التوقعات عند كتابة هذا المقال تشير إلى استمرار الحكومة الحالية، ولكن قد يتقلص نفوذها، مع ازدياد نفوذ "الخضر" في تحالف حكومي جديد.
10- هناك انتخابات ألمانيا بعد نحو أسبوع من الآن، التي ستحدد مصير سياسات المناخ الألمانية ودور برلين في مؤتمر المناخ المقبل، كما أنها قد تفتح ملف الطاقة النووية مرة أخرى. ألمانيا عانت فيضانات وحرائق في الأسابيع الماضية، وألقي اللوم فيها على التغير المناخي على الرغم من أنها حصلت في الماضي. كما أنها عانت عجزاً في الكهرباء في بعض الفترات، وارتفعت فيها أسعار الكهرباء والغاز بشكل كبير. يذكر أن ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي بشكل كبير، وهو أمر أزعج الأميركيين وحلفاءها الأوروبيين.
11- الارتفاع الكبير في أسعار الكهرباء والغاز والفحم في أوروبا، وعودة بعض الدول الأوروبية لاستخدام الفحم حتى لا تنقطع الكهرباء بعد توقف الرياح، جعل الأمور أكثر وضوحاً لدى الدول الأخرى، وبخاصة الأفريقية منها. الدول الأوروبية تعاني مرضي "النفاق البيئي" و"الجنون المناخي"، وعندما تقتضي المصلحة التخلي عن سياسات المناخ، فإنها ستقوم بذلك خلال لحظات.
12- فوز تحالف جديد في الانتخابات النرويجية منذ أيام يعقد أمور قمة المناخ. فعلى الرغم من فوز اليسار، الذي عادةً يتبنى سياسات المناخ، فإنه حزب عمالي في النهاية، والعمال يريدون وظائف وبمزايا جيدة. هذا الأمر جعل التحالف الجديد يركز على المناخ، ولكنه يدعم بقوة صناعة النفط النرويجية! دعم صناعة النفط، وبخاصة التنقيب عنه في الدائرة القطبية، يتنافى مع أهداف الحرب ضد التغير المناخي.
باختصار، إذا كان الأوروبيون يلجأون للفحم وقت الحاجة، فلماذا أتوقف عن استخدامه أو النفط؟ وإذا لم تنجح كل الاستثمارات الضخمة في الطاقة المتجددة في توفير الكهرباء وتخفيض تكاليفها، فلماذا أقوم بهذه المشاريع؟
أما بالنسبة لمواطني الدول الأوروبية، فقد زالت الغشاوة عن أعين الكثيرين: الاستثمارات الضخمة في الطاقة المتجددة، التي جاء أغلبها على حساب دافعي الضرائب، لم تُؤتِ أكلها، فقد نتج عنها عجز في إمدادات الكهرباء، وارتفاع كبير في الأسعار، ولم توفر أمن الطاقة المنشود، حيث إن الدول الأوروبية تستجدي روسيا لإرسال المزيد من إمدادات الغاز.
وإذا تفاقم العجز في إمدادات الكهرباء والغاز في الشهور المقبلة، فإننا قد نشهد ظاهرة جديدة تعمق الخلاف ضمن دول الاتحاد الأوروبي من جهة، وبين دول الاتحاد الأوروبي وأخرى أوروبية خارج الاتحاد من جهة أخرى. الربط الكهربائي بين هذه الدول يعني استفادة دول على حساب دول أخرى، الأمر الذي سيجعل بعض الدول تتخذ قرارات تحتكر فيها إمدادات الكهرباء والغاز، وتحجبها عن الآخرين. باختصار، حروب النفط انتهت! "كهربة كل شيء" تعني في النهاية حروباً "كهربائية".