تبدو العلاقة ضعيفة أو غير مباشرة أو غير موجودة من الأصل بين كتاب واحتفالية وظاهرة. لكن العلاقة قوية وميتنة حتى إن ظلت غير مباشرة، حتى العلاقة بين الكاتب المفكر المهندس والرئيس المصارع المجاهد والقاعدة الشعبية العريضة الواقعة في حيرة لم تطرأ على بال كثيرين لكنها واقعة واضحة وضوح الشمس.
الشمس التي تشرق صباح كل يوم لتجد مئات المنتظرين لتناول إفطارهم عند سفح أهرامات الجيزة، وحين توشك على الغروب فتُفاجأ بمئات المدعوين يستعدون لإتمام زفاف "أحمد" و"إيمان" أو "جورج" و"مارينا" على بعد أمتار من "أبو الهول" الحريص على توسط كل صورة "سيلفي" شاهد عيان على صرعة وفي أقوال أخرى ظاهرة في المجتمع المصري.
توجه نحو التراث
وفي المجتمع المصري المعروف بميل إلى تجمعات الأهل والأقارب، أو الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء في حديقة عامة، أو مقهى شعبي أو راقٍ بحسب قدرات الجيوب، تقول المؤشرات ورؤى العين إن التجمعات تتجه صوب التراث حيناً والتاريخ حيناً آخر ومعاودة التنقيب عن الجذور أحياناً.
أحياناً يشعر المصريون، لا سيما الأجيال الأصغر سناً التي بدأ ضخها في أواخر سبعينيات القرن الماضي بأنهم في حيرة من أمر هويتهم. البعض تربى في كنف الهوية الواحدة ذات المكون الواحد، فلا مجال للحديث عن تعددية أو مجرد التفكير في إمكانية خلاف واختلاف، والثاني تنتابه مشاعر القلق ويتمكن منه الوجل حين يجد نفسه أمام مكون آخر للهوية غير ذلك الذي قيل له إنه الواحد الأوحد. أما الفريق الثالث، يمكن القول إنه الأقل عدداً، نشأ وترعرع على أساس الهوية ذات المكونات المختلفة التي لا تعني بالضرورة تضارباً واحتكاكاً بقدر ما تعكس ثراءً وغنى.
مصيبة التنوع ونعمته
غنى التاريخ والحاضر المصري بمكونات ثقافية وسياسية ودينية واجتماعية مختلفة يظهر بين الحين والآخر في كتابات وأفكار. كتّاب ومثقفون وفلاسفة اعتبروا ثراء المكونات واختلاف جزيئاتها ميزة ونعمة. آخرون على طرفي النقيض السياسي والأيديولوجي اعتبروها مصيبة ونقمة. فريق ثالث أيضاً اعتبر التعدد ميزة والإصرار على الأحادية نقمة والجمع بينها من دون إفراط أو تهوين أو مبالغة في مكون على حساب آخر غاية المنى وكل الأمل.
الأعمدة السبعة
كان أمل الراحل ميلاد حنا، المهندس المدني بالتعليم القبطي، المصري بالجنسية، والمفكر بالخبرة والتنشئة والقلم والفكر السيالين، أن يقرأ المصريون كتابه "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" في حياته. الكتاب الذي صدر عام 1989 لخّص نعمة مصر المتحولة نقمة فكرية ووجودية ومعيشية في النصف الثاني من القرن العشرين. رأى حنا سبعة أعمدة في تكوين الشخصية المصرية: ثلاثة أعمدة مرتبطة بالجغرافيا وهي العمود العربي والأفريقي والبحر المتوسط، وأربعة مرتبطة بالتاريخ وهي الفرعوني و"اليوناني والروماني" والقبطي والإسلامي. ورأى حنا أيضاً أنه على الرغم من وجود جذور لكل هذه الأعمدة لدى كل مصري، بمن في ذلك من ولد ومات من دون أن يدرك وجودها، إلا أن وجودها ليس متساوياً. فالنسب تختلف من مصري لآخر ومن زمن لآخر ومن عصر سياسي يفرض أو يوحي بميل هنا أو إغراق هناك وآخر.
"آخر ما كنت أتخيله أن أقرأ كتاباً لشخص لم أسمع عنه من قبل. بل لم يطرأ على بالي أصلاً أن أقرأ كتاباً". قالت الطالبة الجامعية رحاب شلتوت (21 سنة) قولها هذا وفتحت الـ"آيباد" الخاص بها على نسخة إلكترونية لكتاب ميلاد حنا "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية". شلتوت التي تمثل ملايين من أبناء وبنات جيلها لم تسمع حتى أشهر قريبة مضت عن ميلاد حنا، أحد أبرز المفكرين المصريين المعاصرين.
لكن السمع حدث أثناء رحلة مع الصديقات إلى مدينة شرم الشيخ حيث فوجئن بشيء اسمه "متحف الأعمدة السبعة". الزيارة التي لم تكُن على البال أو الخاطر نجمت عنها معرفة عميقة بأصل مصر وتاريخها وحاضرها. تقول شلتوت إنها وخمس من صديقاتها اللاتي كن في الرحلة ذاتها عدن إلى القاهرة ونقّبن عن كتاب "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" وقرأنه بنهم شديد. تقول، "بعدها تغيرت حياتنا وتغيرت أماكن الخروج. فإضافة إلى الحدائق والمقاهي، أصبحنا نتردد على الأماكن ذات الطابع الأثري التي تنتمي للأعمدة السبعة المذكورة في الكتاب".
خروج من عتمة المثقفين
الكتاب خرج من عتمة دوائر المثقفين والقراءات الحكر على فئات بعينها إلى براح خروجات الشباب وترفيه الكبار واهتمام الغالبية متراوح الدرجات بما مضى من مكونات الهوية. لحظة الخروج كانت في النسخة الثانية من منتدى شباب العالم الذي أقامته مصر عام 2018 في شرم الشيخ.
الرؤية المغايرة للواقع المصري وتفاصيل الحياة اليومية تحتاج عيناً مدققة. بعد تدقيق وتمحيص في واجهة محل المشغولات الذهبية في "ميدان الجامع" بمصر الجديدة، اختارت الخطيبة سلسلة ذهبية عبارة عن "عين حورس" هدية لها من خطيبها. وأخبرها البائع أن مبيعات المشغولات الذهبية الفرعونية تشهد رواجاً "غير مفهوم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فهم الصرعة الفرعونية في سوق الذهب وكذلك الفضة اجتهد في تفسيره سكرتير شعبة الذهب والمجوهرات في الغرف التجارية نادي نجيب قبل فترة. قال، "مفتاح السعادة وعين حورس ومفتاح النيل والخرطوش والجعران سواء كأساور أو سلاسل للرقبة وكذلك دبوس (ربطة العنق) والجاكيت تشهد انتعاشاً وإقبالاً كبيرين منذ موكب المومياوات الشهير".
مشغولات ذهبية
وعلى الرغم من أن سوق المشغولات الذهبية والفضية في مصر عامر منذ عقود طويلة بالمشغولات الفرعونية، فإنها لم تكُن يوماً من المنتجات التي يقبل عليها أحفاد الفراعنة. تقول إيمان عمران (58 سنة) (موظفة) إن المشغولات الذهبية الفرعونية ظلت لعقود سمة مرتبطة بالأجانب، وليس المصريين. تقول، "لم يطرأ على بالي يوماً أن أشتري إكسسواراً أو تي شيرت أو حقيبة ذات طابع فرعوني. هذه مشتريات الأجانب، لا سيما غير العرب. اليوم تغير هذا التوجه. ابنتي اشترت حذاءً رياضياً من موقع على الإنترنت متخصص في طباعة ورسم أشكال فرعونية على الأحذية البيضاء الرياضية. وأنا اشتريت لنفسي تي شيرت وحقيبة قماش عليها رسوم فرعونية". تضيف ضاحكة، "لكن ابني استولى على الحقيبة وأصبح يضع فيها اللابتوب الخاص به".
الإقبال على المشغولات الذهبية والفضية والملابس والأحذية والحقائب ذات الطابع الفرعوني ربما تسبب فيه موكب المومياوات الذي شهدته مصر في أبريل (نيسان) الماضي، وهو الحدث المهم الذي تم فيه نقل 22 مومياء فرعونية من المتحف المصري في ميدان التحرير (وسط القاهرة) إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في الفسطاط، جنوب القاهرة.
وفي جنوب القاهرة والمدن المصرية وبقية الاتجاهات الأصلية والفرعية دمج واضح وصريح لزيارات المتاحف من قبل عدد كبير من الأسر والأفراد. سميح حسن (44 سنة) (عامل في شركة خاصة) يقول إنه اصطحب زوجته وأبناءهما الثلاثة في زيارة إلى متحف الحضارة قبل أسابيع قليلة. "في البداية، امتعضت زوجتي واعترض الأبناء حتى إن أصغرهم بكى بحرقة لأنه كان يودّ الذهاب إلى حديقة ليلعب. إلا أن الزيارة كانت ممتعة للجميع، لكن مكلفة جداً".
تكلفة التنقيب
تكلفة البحث في أغوار التاريخ سواء لإعادة اكتشاف جوانب طُمست عن قصد أو من دونه تتراوح بين دفع قيمة التذاكر والمواصلات لزيارة الأماكن الأثرية والخروج عن المألوف حيث هوية إسلامية فقط أو عربية فقط أو قبطية فقط، والتنقيب في عالم الكتب والكتابات للاطلاع ومعرفة المزيد.
أسهل ما في الظاهرة الجديدة هو سداد التكلفة المادية. لكن الأصعب هو قبول فكرة الخروج عن المألوف والسائد منذ ما يزيد على نصف قرن في عالم الهوية، وكذلك التنقيب الثقافي والاطلاع وتكوين رأي أو نظرة تختلف عن النظرة التي تحولت إلى مرجعية غير قابلة للخلاف أو الاختلاف بفعل جمود ثقافي وتحجر فكري ومحدودية أفق التربية والتعليم، وجميعها من آثار عكسية ناجمة عن تجريف ألحقه نظام سياسي سابق بالبلاد والعباد. وفي البلاد، عباد يكتبون وآخرون يقرأون وغيرهم يشاركون بالـ"لايك" والـ"شير" والنقد والاعتراض وكذلك النقد والتأييد.
هوية واحدة؟
الطبيب والسياسي محمد أبو الغار كتب مقالاً قبل أسابيع عنوانه "عودة الهوية المصرية بداية الخروج من المأزق" لاقى الكثير من التفاعل. كتب أبو الغار أنه بعد تاريخ طويل من الغزاة والتحالفات والتغيرات "تمزقت مصر بين هوية إسلامية وقبطية وعربية وبحر متوسطية. ونسي الجميع أن هويتنا الأصلية مصرية. ويقول قائل إن أوروبا توحدت في الاتحاد الأوروبي. نعم حدث تقدم مذهل ولكن ذلك كان أساساً في التجارة والزراعة والصناعة، وما زالت هوية الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي مختلفة. لقد جربنا الهويات المختلفة وكلها فشلت، والهوية الوحيدة التي نجحت منذ قدماء المصريين وأثبتت نجاحاً معقولاً في ظروف صعبة حديثاً أيام ثورة 1919 وفي الفترة الليبرالية هي الهوية المصرية".
وذهب أبو الغار إلى القول إنه "من دون هوية مصرية واحدة تجمع كل أبناء الوطن، بغض النظر عن الدين واللون والعرق، ومع الإعلان الواضح لشعار ’الدين لله والوطن للجميع‘، هو الوحيد الذي يمكن أن يدفع بنا إلى الأمام".
أمام المقال تلال من التعليقات ومئات التشاركات له على منصات التواصل الاجتماعي. تأييد صارخ واعتراض بالغ طاغيان على المشهد. وفريق صغير كالعادة متريثاً متمهلاً يقرأ المقال ويحلله ويختلف بهدوء على تعريف "الهوية المصرية".
مفترق طرق
الهوية المصرية تجد نفسها في العام الـ21 من الألفية الثالثة في مفترق طرق. فبين فريق يصر على أن الهوية قائمة على الدين وحده، سواء كان إسلامياً، فالتشبث بالانتماء العقائدي قبل الوطني وترجيح كفة الدين على الأرض، وكأن أحدهما يلغي أو يهدد الآخر، أو مسيحياً، تحديداً قبطي يرى في نفسه "أصل هذا الوطن ومنبته بلا شريك أو شك"، أو كان قائماً على أساس قومي، فالانتماء العروبي للمنطقة العربية حيث اللغة والتاريخ والجغرافيا والهم المشترك، أو على أساس الموقع في القارة الأفريقية ومحاولات إيجاد مكان في العمق الأفريقي على حساب العربي، أو كان متعلقاً بتلابيب الحضارة الفرعونية بحثاً عن تاريخ تم حبسه في كتب التاريخ المقررة على الصفوف الإعدادية والثانوية من دون رابط حقيقي بالحياة المصرية اليومية أو انتماء واقعي للأجداد والجدّات.
الأجداد والجدّات ومعهم جيل الآباء والأمهات وتلك الأجيال الأصغر سناً، الشاهدة على ظاهرة أو صرعة أو ملمح التنقيب عن القديم، أملاً في استشراف الجديد يجدون في مطاعم ومقاهٍ شُيّدت على مقربة من سفح أهرامات الجيزة وأبي الهول وفنادق مبنية في محيط عجيبة من عجائب الدنيا السبع ملتقى حديثاً قديماً لتناول الإفطار يوم الجمعة، أو مكاناً متفرداً لعقد حفل خطوبة أو زفاف على خلفية التاريخ، أو حتى استعادة للأيام الخوالي ورحلات المدارس حيث يوم في أحضان الأهرامات يتخلله ركوب الجمل والحصان وربما الحمار، وذلك قبل رحلة "المول" تتخللها مشاهدة فيلم ثلاثي الأبعاد ثم تناول وجبة "برغر" أميركية مفرحة مع لعبة بلاسيتكية وارد الصين.