رحل النحات فؤاد أبو عساف (1966-2021) بعد صراع طويل مع السرطان، تاركاً خلفه عشرات الأعمال النحتية التي أبدع الفنان السوري معظمها من خامة البازلت، محققاً أسلوبه الفريد منذ تخرّجه في قسم النحت في كلية الفنون الجميلة في دمشق 1991، وناقلاً خبرات أجداده في مدينة السويداء عبر مشاهد نحتية غاية في الخصوصية والفرادة. تمكن هذا الفنان من إيجاد معادل فني مزج من خلاله بين الأساطير السورية ومفردات الحياة المعاصرة، فلم ينسحب إلى النحت التجريدي كما حال العديد من رفاق دربه، بل خاض بدقة ورهافة استثنائية النحت التجسيدي، مراكماً دربته الطويلة مع الحجم والفراغ والكتلة.
بدأ هذا الفنان مسيرته باكراً منذ طفولته في مدينة السويداء، متأثراً بالأحجار السوداء التي أحاطته منذ فتح عينيه على الحياة، فحقق أول عملٍ نحتي ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وكان عبارة عن بورتريه لامرأة. وتبدو النساء في أعمال النحات الراحل موضوعاً رئيسياً فيها، لا سيما تلك التكوينات التي دمج عبرها بين تفاصيل الجسد الأنثوي والطبيعة وكائناتها من طيور وحيوانات وأسماك، من مثل "العصفور السمكة" و"الدريئة" و"العشاء الأخير". هذا إضافةً لاشتغاله المضني على كتل نحتية بالحجم الطبيعي لنساء في الحرب، كان أبو عساف أول من قدّمها ضمن ذلك الإطار التراجيدي الآسر، مطوّعاً أطناناً من الحجر البازلتي لإزميله الخبير في التنويع على وجوه وأجسام منحوتاته، والتي تبدو محاكيةً لروائع النحت التدمري، ومشتقةً من أجواء سحرية غامضة كما في عمله "الطفل والسمكة" التي اقتبسها من الآثار الرومانية والنبطية المنتشرة في عاصمة الجنوب السوري.
مختبر ذاتي
أسهم هذا الفنان في تأسيس ملتقيات نحتية محلية ودولية كان أبرزها "سيع" و"جلجلة"، وكان له حضوره اللافت في الإدارة والإشراف على هذه الملتقيات، والعمل مع مجموعة كبيرة من طلاب النحت في كلية الفنون الجميلة، ولم يدخر عساف جهداً ولا وقتاً في نقل خبراته إليهم، ليس فقط في خامة البازلت، بل في خامات المعادن والخشب والفيبرغلاس. إلا أنه ظل وفياً لحجر البازلت الذي أحال قسوته إلى رقة وعذوبة متناهية، دامجاً بين الحس الفطري للنحاتين الأوائل، وبين الخبرة الأكاديمية الرفيعة، ومبرهناً في الآن ذاته على أن ثقافة النحات وقراءاته ومشاهداته هي جزء لا يتجزأ من مختبره الذاتي.
هذه الميزة لم تعمل على تعقيد أعمال فؤاد أبو عساف، بل زادتها بساطة وعمقاً في التعامل مع الصخر الأسود العنيد، وتركت له مساحات لا متناهية من التأمل. واتجه نحو هوية تعبيرية لافتة، لم يتوان الفنان عن صقلها عاماً بعد آخر، مطلاً على الماضي بعين المستقبل، ومنتزعاً حساسية جديدة في النحت العربي، ومكملاً مسيرة رواد النحت السوري القدماء منهم والمعاصرون، من أمثال سعيد مخلوف وجاك وردة وعبد الله السيد ومصطفى علي وعاصم الباشا ولطفي الرمحين. وقد قارب أبو عساف في أعماله بين أمزجة أجيالٍ عدة، ولم ينعزل عن المحترفات الجديدة، فكان معاصراً في طروحاته التي دافع عنها، ونظّر لها، سواء في معارضه الفردية داخل سورية وخارجها، أو حتى في البينالات الدولية.
شخصيات مبتكرة
في محترفه كان يقضي عشرات الساعات منكباً على ابتكار شخصياته النحتية الخاصة به، التي استوحاها من ميثيولوجيا وبيئة جبل العرب، والتي تبدو متفوقة في كنوزها من تماثيل ونُصُب متناثرة بين بلدات السويداء وقراها.
من هنا كان أبو عساف مخلصاً لذاكرته البعيدة، ومنسجماً مع ما كان يسميه في تصوير العالم الداخلي للمنحوتة، ولهذا يلاحظ في أعماله التي فاقت الخمسة آلاف، التركيز على مقطعيات نحتية أقرب إلى التسجيلية منها "سيزيف السوري" و"مذكرات طفل سوري" أو "دونكيشوت". وفيها استطاع أبو عساف تقريب فن النحت إلى شرائح متنوعة، غير متعال عليها، بل مصراً أن تضيء منحوتاته عتمة صخر البازلت الذي أحاله إلى أرشيف حجري ضخم سجل عبره مقاطع من الحياة السورية المعاصرة، لا سيما ضحايا الحرب من نساء وأطفال. وقد تجاوز ارتفاع بعض هذه الأعمال الستة أمتار كمنحوتتي "الطالب" و"روزا وحجر الصوان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا تمكن هذا الفنان من تحويل محترفه الواقع في قريته سليم (طريق السويداء- دمشق) إلى متحف يضم اليوم عشرات التماثيل المتنوعة المقاسات، ومهد الطريق لعشرات من النحاتين والنحاتات من الجيل الجديد، والذين تأثروا بأسلوبه، ونقلوا عنه دربته العالية في تليين أقسى أنواع الحجارة. ووضع لمسته الخاصة على حدائق وساحات مركزية في مدينة السويداء وبقية المدن السورية، معيداً بذلك فن النحت إلى واجهة الحياة الثقافية والفنية في بلاده.
امتازت تجربة أبو عساف بنقائها الفني، وأصالتها داخل المحترف التشكيلي السوري، وقدرتها على التخلص من البناء الهندسي للتمثال على حساب الموقف الذاتي للفنان، والرغبة في التخييل بعيداً من قيم التشويه المتداولة، ونحو تأكيد قيم جمالية، لا تخلو من لمسات شعرية، وإحالات بصرية في حركة الجسد. هذا الجسد المتناغم مع تشخيصات حيوانية ونباتية كما في أعماله "شجرة التفاح" و"حبة القمح" و"ليدا والأوزة". وقد اتضحت في هذه الأعمال مهارة نجحت في عكس المأساة، مع الإبقاء على حواف لينة بين الضوء والظل للسطح وتموضع الكتلة في الفراغ.