اتخذ التزوير أشكالاً متعددة بعد عام 2003 في العراق، حتى صار مهنة لمافيات ومجاميع عشائرية، وعناصر حزبية، بالاشتراك مع سماسرة العقارات، واشتهرت عصابات ضمت في صفوفها محامين ورجال قانون.
سبب ظهور كل هذه الحالات ما يسمى "الفوضى المستدامة"، التي أشاعها الأميركيون بعد دخولهم عام 2003، وعمدت الحكومة في السبعينيات إلى العمل مع جامعة الدول العربية ومنظمة العلوم الإدارية ومتخصصين من الأمم المتحدة بإدخال نظام الميكروفيلم لتوثيق كل السجلات، لكن هذا الإجراء تم التخلي عنه بعد 2003، بحجة فقدان السجلات بسبب "الفرهود" وعدم وجود قاعدة أرشيفية يمكن اعتمادها في استمرارية العمل.
وسبق للعراق أن عاصر حالة مشابهة في عام 1943 عندما حصل "فرهود" لأملاك اليهود. وفي حينها، لم يكن استخدام التكنولوجيا الحديثة والأرشفة الإلكترونية أو الحوكمة الإلكترونية متداولاً، إلا أن التوثيق كان معتمداً بشكل ورقي.
وعن الأفكار والطرق التي قد يلجأ لها المحتالون للاستيلاء على أملاك الغير، بأن يشتري أحدهم سيارة في مدينة من مدن العراق، وتسجل عملية البيع في المحافظة نفسها، وتصل نسخة منها إلى مديرية المرور العامة في بغداد، وينطبق الأمر نفسه على العقارات والوثائق الشخصية للمواطنين، حيث تحفظ نسخة ثانية منها في الدوائر المختصة في بغداد. وأي فقدان أو تزوير لأي وثيقة يمكن الوصول إلى النسخ الأصلية الموجودة في المحافظة أو المركز.
"فرهود" في أملاك وعقارات الدولة
أثناء "فرهود" وانتشار حالة الفوضى الحاصلة بعد سقوط النظام، اتخذت القوات الأميركية موقف المتفرج على عمليات النهب والسلب في المتحف العراقي والوزارات والدوائر والمؤسسات العراقية، باستثناء وزارة النفط والبنك المركزي.
بدأت على أثر ذلك الأحزاب التي شغلت الساحة بنفوذها بالاستيلاء على عقارات الدولة بداعي حاجتها إلى مقار، واستغلت شخصيات وكيانات حزبية المراكز التابعة لحزب البعث والجهات الأمنية هذه المقار، وأصبحت الأملاك تحت اليد لمستغليها، تبعت ذلك عملية ممنهجة للاستيلاء على أماكن أخرى، كالدوائر الخدمية مثل دائرة ضريبة الدخل، ودائرة ضريبة العقار، وهكذا.
وفي أعقاب ذلك صدر توجيه من رئاسة الوزراء بوجوب إعادة العقارات المستولى عليها إلى الدولة في 2005، واستجاب عدد من الأحزاب الصغيرة للتوجيه، بينما امتنعت الكبيرة منها والمعروفة بثقلها السياسي والجماهيري عن التنفيذ، ولم يقتصر ذلك على طائفة أو قومية معينة، فجميع الأحزاب الشيعية، والسنية، والكردية، كان لها نفس الموقف، وساعد في ذلك انعدام الوضع الأمني، وبخاصة في بغداد.
في هذا الصدد، يتحدث رئيس هيئة النزاهة سابقاً، موسى فرج، عن تفاقم ظاهرة الاستيلاء على العقارات العامة والخاصة، ففي عام 2008 تطور الأمر إلى الاستيلاء على عقارات المنطقة الخضراء، وطلبوا تملكها لأغراض السكن بواسطة الأمانة العامة لمجلس الوزراء وأعضاء مجلس النواب العراقي. يقول، "كنت أشغل آنذاك منصب (رئيس هيئة النزاهة) فوجهت كتاباً رسمياً إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء بمخالفة هذا الأمر، وبخاصة أن مدة الحكومة تنتهي بعد أربع سنوات في حينها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويستطرد فرج، "بعد مغادرتي الهيئة جرى الاستيلاء تماماً على (المنطقة الخضراء والجادرية) في بغداد، رافق ذلك الاستيلاء على الأراضي الزراعية في مختلف المحافظات بكتب رسمية. وتطور الحال إلى أن يتم الاستيلاء على العقارات بطريقة قانونية، جسدت التحايل بعينه، إذ تشكلت لجنة لتقدير سعر العقار ويُباع أو يُستأجر، لكن بأبخس الأثمان، بحيث وصل الحال إلى تمليك أراضٍ باهظة الثمن على شواطئ نهر (دجلة) للوزراء وأعضاء مجلس النواب، تقدر قيمة المتر منها في السوق بما يعادل القيمة الكلية التي تحصل عليها المستفيد".
وتشير مصادر إلى أن 60 في المئة من عقارات الدولة، التي يقدر عددها بـ300 ألف عقار "مستغلة من قبل أحزاب سياسية نافذة وجماعات مسلحة ومواطنين مرتبطين بتلك الأحزاب من دون عقود وخارج الطرق الأصولية التي نصت عليها القوانين النافذة".
بينما نجد أن 40 في المئة من هذه العقارات مستغلة وفق عقود أصولية، لكنها بأجور وأسعار أقل بكثير من مستوى أسعار السوق، حيث يقدر سعر بيع المتر المربع من هذه الأصول خلال الفترة بين 2006 و2014 بستة دولارات مع أن سعرها في السوق يقدر بألفي دولار. وأيضاً جرى الاستيلاء عليها عن طريق التزوير والتلاعب بالسجلات الرسمية، وتحظى غالبية تلك العقارات بمواقع استراتيجية، في بغداد والمحافظات.
وتتركز العقارات المغصوبة، بحسب المصادر في بغداد وكربلاء والنجف والبصرة وكركوك، وتقدر قيمة التابعة منها للدولة التي تم الاستيلاء عليها بما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولار.
الاقتتال الطائفي
شكل النظام السياسي بعد 2003 بواسطة الطبقة السياسية الحاكمة على أساس المكوناتية، ومكون الشعب العراقي مبني على أساس الدين والطائفة. وبسبب القصدية في انتهاج أساليب طائفية، بدأت ظاهرة الاقتتال الطائفي والقتل على أساس الهوية والمذهب، على أثر ذلك نشأت ظاهرة جديدة سميت "بالتهجير الداخلي" أو "التهجير المناطقي" بين المناطق داخل المحافظة الواحدة أو بين محافظة وأخرى، بينما هجر البعض وكان أغلبهم من المسيحيين إلى خارج العراق.
حركة الهجرة تمثلت بنزوح المكون السني من المناطق الشيعية، كما نزح الشيعي من المناطق السنية، ومن حينها جرى الاستيلاء على عقارات النازحين أو المهجرين. ولم يسلم منها مكون، ومن المعروف أن التوزيع الجغرافي لأغلب المكون السني في مناطق جهة الرصافة، أما الشيعي فيتركز معظمه في الكرخ.
مافيات تزوير
أكثر ما أبدعت به هذه "المافيات" هو الاستيلاء على عقارات المواطنين القاطنين خارج القطر، وبالذات العوائل الثرية، وبطرق ملتوية.
وفي تصريح لمحمد رحيم الربيعي، رئيس شبكة النهرين لدعم النزاهة والشفافية في كيفية التحايل ووضع اليد على العقارات، يبين "أن العصابات المنظمة تشتري أحد العقارات الصغيرة الرخيصة الثمن من الشخص المقصود، ويحصلون على مستمسكاته الرسمية، ويسهل بذلك القيام بعملية التزوير، ومن ثم تحويل العقارات الثمينة الأخرى، تليها عملية رفع دعوى ضد المالك الأصلي في محافظة أخرى على أساس الخطف أو السرقة، وبذلك لن يتمكن منهم. وحصل ذلك لرجل يتجاوز التسعين من عمره، ورفعت ضده هذه المافيات دعاوى تسليب وسرقة من أجل الاستيلاء على أحد عقاراته، وكي لا يتمكن من الدخول إلى بغداد ومقاضاتهم أو استرداد ملكية عقاراته".
وعلى خلفية هذا الموضوع يتحدث المحامي عبدالله الساعدي، رئيس محكمة النزاهة، "ما حدث في دائرة التسجيل العقاري من أهوال بسبب عمليات التزوير في العقارات كان بمساعدة الموظفين المرتشين في الدوائر التابعة لدائرة عقارات الدولة، ودائرة التسجيل العقاري، وهناك اثنتان من الدوائر (دائرة التسجيل العقاري في المدائن، والمنصور). حصلت فيها أعمال تزوير وصلت إلى القضاء فيما أغلقت الملفات بأمر من وزير العدل، وتم إيقاف موظفيها وحوكم قسم منهم، أما الآخرون الهاربون فزوروا سندات العقارات وباعوها. وزارة العدل تعتبر مرجعية لحزب وزيرها مع كل تشكيلة وزارية، وكانت المعاناة الأكثر لبعض الطوائف والأقليات مثل المسيحيين وحتى الطائفة اليهودية من تزوير عقاراتهم وبيع قسم منها، وعلمت الدولة بشكل متأخر فيما يخص هذه العقارات. وفي محاولة للحد من هذه الظاهرة أصبح من غير الممكن بيع عقارات المسيحيين إلا بموافقة من الكنيسة، إضافة إلى استحصال وكالة من الدرجة الأولى".
وعن هيمنة هذه المافيات في عدد من دوائر التسجيل العقاري بينت مديرة إحدى دوائر التسجيل العقاري، التي رفضت الكشف عن اسمها، وجود اختراق لدوائر العقاري ووجود تنسيق عالٍ يصل إلى إمكانية نقل الموظف المسؤول في حالة الاعتراض أو رفض تسيير معاملة عقارية غير سليمة، وانتخاب من لديه القدرة على تقديم مثل هذه التسهيلات، وقد يعاد الموظف إلى موقعه السابق بعد انتفاء الحاجة، واستكمال إجراءات المعاملة. هذه الأعمال تدار من قبل أفراد أو عصابات منظمة، وفي بعض الأحيان من قبل أفراد تابعين لأحزاب متنفذة.
وعن الأسباب التي سهلت عمليات التزوير تشير إلى ضعف النظام الورقي المتبع من قبل الأجهزة الحكومية في معالجة ومكافحة التزوير، كذلك سهولة إصدار الهويات والوكالات المزورة، وعدم إمكانية اكتشافها في دوائر الدولة، ضمنها التسجيل العقاري، إضافة إلى حالة الفساد الإداري والمالي المتفاقمة في مفاصل الحكومة وموظفيها.