يبدو أن ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا سيبقى ساخناً وبلا نهاية. ويشكل السجال الفرنسي الجزائري الجديد محطة ودليلاً على استمرار معركة التاريخ المشترك.
فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصفح عن المتعاونين الجزائريين السابقين مع القوات الفرنسية خلال حرب التحرير، المعروفين بـ"الحركيين". وأعلن عن قانون لتعويضهم.
ورد وزير المحاربين الجزائري العيد ربيقة، الأربعاء 22 سبتمبر (أيلول)، على ذلك بالقول إنه شأن فرنسي ولا يعني بلاده. وقال "لا أحد يقدم لنا الدروس، والثورة فصلت في من كان حركياً ومن كان محارباً، ومن مات في الثورة التحريرية"، مضيفاً أنه "لا يمكن أن نتحدث عن مصالحة على حساب الذاكرة الجزائرية". وشدد على أن علاقة الجزائر مع الطرف الآخر تبنى على مبدأ احترام التاريخ والهوية والذاكرة الوطنية.
تاريخ "الحركي"
و"الحركي" تعني في الجزائر "العميل" أو "الخائن"، ويطلقها الجزائريون على الذين حاربوا إلى جانب الجيش الفرنسي خلال حرب تحرير الجزائر بين عامي 1954 و1962، سواء بحمل السلاح في وجه أبناء وطنهم من الجزائريين، أو الذين اعتمدوا الوشاية لكشف مخططات جيش التحرير وتحركات المحاربين.
وبحسب المؤرخين و"المحاربين"، فإن لفظة "حركي" ظهرت للمرة الأولى سنة 1954، مع تأسيس "الحركة الوطنية الجزائرية" التي كانت تستهدف مناهضة الاحتلال الفرنسي. وجاءت إثر خلاف حاد مع مناضلين جزائريين آخرين يتبنون أفكاراً أخرى في طريقة تحرير الجزائر. فالحركة الوطنية تمسكت بالمسار السياسي التفاوضي، بينما شدد الطرف الثاني على ضرورة الانتقال إلى العمل المسلح وإعلان الثورة التي انطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 وسط خلافات كبيرة بين الإخوة الفرقاء، جعلت كل من سار في فلك الحركة الوطنية يتحصل على لقب "حركي" لأنه رفض العمل المسلح، ثم شمل الوصف الذين قبلوا العمل مع الجيش الفرنسي ضد "ثورة التحرير"، وبات رديفاً لـ"الخونة".
فرنسيون؟
ويروي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، رابح لونيسي، أن "الحركيين هم الذين وقفوا مع فرنسا أثناء ثورة التحرير، ومن الطبيعي أن ترفضهم الجزائر، فهؤلاء يجب اعتبارهم فرنسيين ما داموا قد اختاروا فرنسا على حساب الجزائر". ويذكر أن "فرنسا تخلت عنهم في 1962، وكان ذلك درساً لكل خائن لوطنه، فمن هرب منهم عاش في الغيتوهات ملاحقاً بنظرة الاحتقار". وختم أن "فرنسا لا تثق بهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد رفضت السلطات الفرنسية إجلاء "الحركيين" بشكل جماعي بعد اتفاقيات إيفيان التي تم التوقيع عليها بين فرنسا والجزائر، في 18 مارس (آذار) 1962، وكرست هزيمة فرنسا في الجزائر، إذ تم نقل 42 ألفاً منهم برفقة أسرهم إلى فرنسا ووضعوا في مخيمات مؤقتة كانت ظروف العيش في غالبيتها بائسة. وتمكن 40 ألف "حركي" آخرين من الوصول إلى فرنسا، فيما ترك آخرون بعد أن جردوا من أسلحتهم لمصيرهم في الجزائر.
ولم يعرف ملف "الحركيين" الهدوء، ففي أغسطس (آب) 2001، أعلنت فرنسا 25 سبتمبر (أيلول) من كل عام، يوماً وطنياً لـ"الحركيين".
وفي 25 سبتمبر 2016، اعترف الرئيس فرنسوا هولاند رسمياً بـ"مسؤوليات الحكومات الفرنسية في التخلي عن الحركيين والمذابح التي تعرض لها من بقي في الجزائر"، وتحدث عن "شروط الاستقبال اللاإنسانية للعائلات التي نقلت إلى مخيمات في فرنسا".
في المقابل، بيَّن القائد الأعلى السابق للحركيين بالجزائر، الجنرال موريس فيفر، أنه باستثناء العاملين الرسميين مع الجيش الفرنسي الذين حاربوا معه في عدد من الجبهات الأخرى كحرب الهند الصينية والحرب العالمية الثانية، فقد انضم باقي الجزائريين الحركيين إلى صفوف فرنسا، إما بسبب الخوف من الجيش الفرنسي نفسه، وإما الالتزام بالنظام الفرنسي الذي كان يحكم البلاد لأكثر من قرن، وفي أحيان أخرى الاقتناع الكامل بالفرانكفونية كمبدأ وأسلوب للحياة أو المعارضة الفكرية والأيديولوجية لفكرة الاستقلال، على اعتبار أنها ستعيد الجزائر إلى الوراء، وتبعدها عن الحداثة الأوروبية، ثم وفي حالات كثيرة أيضاً، لوجود خصومة أو ثأر مع جبهة التحرير الجزائرية، بسبب قتلها أحد أفراد عائلة الجندي نفسه من الذين كانوا حركيين قبله.
كما أبرز رئيس جمعية "الحركيين القاصرين" في فرنسا، إبراهيم سعدوني، أن أوضاعهم مأساوية للغاية، ولقد وقعوا ضحايا فرنسا والجزائر على حد سواء، إذ رمتهم الحكومات الفرنسية المتعاقبة في مزبلة التاريخ، أما الجزائر فصفَّت العديد منهم مباشرة بعد نهاية حرب التحرير في 1962، فيما أرغمت البعض الآخر على الفرار خارج الجزائر والعيش هم وعائلاتهم في المنفى مدى الحياة، مضيفاً في تصريحات صحافية، أن الحركيين يعانون من عبء التاريخ الذي جعلهم يعيشون على هامش المجتمع الفرنسي، في حين تتهمهم الجزائر بالخيانة من دون أن تقدمهم إلى القضاء.
وتابع سعدوني، وهو حركي، أنه من غير المعقول أن يذهب الرئيس الفرنسي إلى الأمم المتحدة ويدافع عن حقوق الشعوب، في وقت يدير ظهره لضحايا آخرين يعيشون في البلد نفسه الذي يعيش فيه، منتقداً رفض الجزائر عودته إلى بلده الأصلي، لأنه مقيد في لائحة سوداء بالقنصليات الجزائرية بفرنسا.
القضية محسومة في الجزائر
ويعتقد الإعلامي عبد الحكيم مسعودي أن "الحركيين الذين تحدث عنهم ماكرون، هم جزائريون اختاروا خدمة الاستعمار الفرنسي ضد أبناء جلدتهم بدوافع مختلفة، بعضهم بالوراثة أي أنهم كانوا حركيين أباً عن جد منذ دخول القوات الفرنسية الجزائر في 1830، والبعض الآخر بدافع الاسترزاق تحت ضغط الظروف المعيشية الصعبة، وآخرون بغية النفوذ والمرتبة الاجتماعية، وفئة بدافع الانتقام".
ويتابع مسعودي أن "رفض الجزائر لهم يعود إلى خياناتهم أولاً، ثم إلى عدم امتثالهم للعقوبات التي تقررت بشأنهم بعد الاستقلال، كونهم هاجروا إلى فرنسا اختيارياً، عكس آخرين فضلوا دفع الثمن والبقاء في الجزائر، حيث قتل بعضهم بحكم الإعدام، وسجن آخرون بين 7 و10 سنوات قبل أن يندمجوا في المجتمع، غير أن العديد منهم أنصفتهم شهادات بعض المقاتلين في صفوف جيش التحرير الجزائري".
ويختم كلامه بالقول إن "قضية الحركيين محسومة في الجزائر، باعتبارهم خونة، أما في فرنسا فالأمر يختلف لأنهم تعرضوا للإهانة والإساءة من قبل الدولة التي خدموها".