يتمحور معظم الروايات العشر للكاتب التركي جليل أوقار (1952 – 2019) حول شخصية المحقّق رمزي أونال. بدءاً من روايته الأولى "جثّة عارية"، مروراً بروايتيه "إسطنبول لا تطلقي عليّ النار" و"الجثّة"، وصولاً إلى روايته "الجثّة التي سرقت الدور"، الصادرة حديثاً عن "الدار العربية للعلوم- ناشرون"، بترجمة مجد الدين صالح. وإذا كانت شخصية المحقّق هي نفسها في معظم الروايات، بصفاتها وآليات عملها، فإنّ المهمّة المنوطة بها تختلف من رواية إلى أخرى، وإن كان الجامع بين المهام المختلفة هو التحقيق في جريمة معيّنة واكتشاف المجرم. الجرائم مختلفة، المجرمون مختلفون، لكنّ المحقّق واحد.
تبدأ الرواية في عيد ميلاد وتنتهي في آخر. على أنّ الفارق بين العيدين هو: أنّ الأوّل واقعي يتحوّل إلى حفلة رعب بفعل تدخّل بطل الرواية وراويها المحقّق رمزي أونال، ويتمخّض عن سقوط فتاة جميلة من الطابق السابع، ما يجعله يستبطن إحساساً بالذنب. وأنّ الثاني افتراضي يتحوّل إلى مناسبة يكتشف فيها المحقّق قاتل فتاة جميلة أخرى، ما يؤدّي إلى تخفّفه من الإحساس بالذنب الناجم عن عدم تدخّله لمساعدتها في الوقت المناسب. وبين العيدين سلسلة من الأحداث المتموضعة بين ارتكاب الجريمة واكتشاف القاتل. تنخرط فيها مجموعة من الشخوص، وتتمحور حول بطل الرواية وراويها رمزي أونال الذي يقوم بالتحقيق في الجريمة تسديداً لدين معنوي يدين به للضحية، وتكفيراً عن تقصيره إزاءها. وحين يستوي التدخّل وعدم التدخّل، ويؤدّيان إلى النتيجة نفسها، يتحرّر البطل من وطأة شعوره بتغيير حياة الآخرين، ويقرّر الاستمرار في عمله.
يُسنِد جليل أوقار مهمّة الروي في "الجثّة التي سرقت الدور" إلى بطل الرواية، فيقوم بسرد حركته خلال التحقيق خطوةً خطوة، ووصف ما تقع عليه حواسّه تفصيلاً تفصيلاً، في مزاوجة بين النمطين السردي والوصفي. ولعلّ هذه المزاوجة هي ما يمنح النص حركيّته وتنوّعه، ويُسرّع عملية القراءة، فيتدفّق على رسله، في ستة عشر فصلاً، تتسلسل كحلقات السلسلة، فيبدأ الفصل اللاحق من حيث ينتهي السابق، باستثناء ما نلاحظه من فجوة بين الفصلين الأوّل والثاني. وتطغى الوقائع على الفصول المختلفة، وقلّما نقع فيها على الذكريات، ما خلا الفصل الأخير الذي يزاوج بين الراهن المعيش للتدريب الرياضي في جمعية متخرّجي مدرسة النخبة والمستقبل المتخيّل لسيناريو عيد الميلاد الثاني في حانة الأصدقاء.
فضاءات مدينية
تقع أحداث الرواية في مدينة إسطنبول، في فضاءات مكانية مُسَمّاة بأسمائها، فنتعرّف إلى شوارع وحانات ومطاعم ومقاهٍ محدّدة في المدينة، ونكون إزاء فضاء روائي مديني بامتياز. وفي الوقائع المروية، تقتفي الممثّلة الجميلة المتدرّبة توتشان يافاش أثر المحقّق رمزي أونال لدى مغادرته قاعة التدريب في جمعية متخرّجي مدرسة النخبة، الواقعة في الشارع المنحدر من أحد أبراج روملي حصار إلى ميدان تشينار أتشلي. وتسأله أن يُقلّها معه في سيارته، فيفعل، حتى إذا ما لاحظا أنّ ثمّة من يتعقّبهما في الطريق، تطلب منه أن يضلّل المتعقّب، وأن يساعدها للتخلّص منه. غير أنّ أونال المتسبّب للتو في سقوط فتاة جميلة من الطابق السابع الذي يفكّر في الامتناع عن التدخّل في حياة الآخرين تلافياً لتغييرها، يقرّر عدم التدخّل في ما لا يعنيه. وحين يعلم مساءً من شريكه في التدريب صاحب وكالة الإعلانات أنّ الفتاة قد عُثِرَ عليها قتيلة في شقّتها الواقعة في منطقة مودا، يحسّ بأنّه مدينٌ لها، ويقرّر المطالبة بحقّها كدائن. ويجد نفسه، من حيث لم يرد، منخرطاً في عملية التحقيق.
يرسم جليل أوقار في روايته صورة نموذجية للمحقّق الخاص، تُستخلَص معالمها من خلال الاستراتيجية التي ينطلق منها، والتكتيكات التي يتّبعها، والنتائج التي يُحققها. أمّا الاستراتيجية فتقوم على إغراق المحقَّق معه بالأسئلة، حتى يفقد القدرة على المقاومة، ويسقط في فخ المحقِّق. وأمّا التكتيكات فتقوم على المداورة، والمناورة، والمفاجأة، والمراوغة، والحيلة، والدهاء، وغيرها. وأمّا النتائج فغالباً ما تكون الوصول إلى الحقيقة واكتشاف المجرم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشمل حركة المحقّق، خلال التحقيق، مجموعة من الفضاءات المكانية. تتّخِذ مساراً دائرياًّ، بدءاً من جمعية متخرّجي مدرسة النخبة، مروراً بالتسلسل الآتي: مؤسّسة رضا سوفو أوغلو التجارية، حانة الأصدقاء، شقّة الضحية، حديقة الشاي، منزل المحقّق، المسرح، حانة ماتركس، مكتبة باندورا، شقّة شيدا، المكتبة، شقّة الضحية، حانة الأصدقاء، وصولاً إلى جمعية متخرجي مدرسة النخبة مجدّداً. وهكذا، ينتهي التحقيق، على المستوى المكاني، من حيث يبدأ. وخلال هذه الحركة، يقوم أوزال باستقصاء المعلومات، وإجراء الاتصالات، واستجواب الأشخاص، وزيارة الأماكن، وطرح الأسئلة لتحقيق أهدافه في الوصول إلى الحقيقة واكتشاف الفاعل. وإذا كان استخدام هذه التقنيات يدخل في باب المشروع، فإنّه لا يتورّع عن استخدام أخرى غير مشروعة لتحقيق تلك الأهداف. الغاية، عنده، تبرّر الوسيلة. لذلك، نراه يقتحم الشقق بمفتاح سويسري، ويصادر محتويات علب البريد، ويفحص الأغراض الخاصة، ويتشاجر مع بعض المستجوَبين، ويبتزّ بعضهم الآخر. على أنّه لا يسلم من التعرّض للتنمّر والوعيد والتهديد والطرد والضرب المبرّح خلال قيامه بعمله.
انطلاقاً من هذه المعطيات، نكون أمام صورة نموذجية للمحقّق، يرسمها أوقار بدقّة متناهية. نستخلصها من خلال الأفعال التي يقوم بها، والأقوال الصادرة عنه، والسلوكيات المنسوبة إليه. ومن ملامح تلك الصورة: الذكاء، الجرأة، التحفّظ، التكتّم، المناورة، الوقاحة، قوّة الملاحظة، حدّة الذاكرة، المقارنة، الربط، صحّة الاستنتاج، تجاهل العارف، إثارة الشكوك، وغيرها، ما يعني أنّنا إزاء محقّق نموذجي بامتياز. ولعلّ هذه النموذجية جعلته ينتبه إلى تفصيل صغير لا يتعدّى إضافة حرفٍ إلى اسمٍ في كتاب، يتّخذ منه دليلاً يقوده إلى المجرم الحقيقي.
أعطاب الشخوص
على أنّ هذه النموذجية لا تنسحب على بقية الشخوص في الرواية ما يمنح شخصية المحقّق التفوّق عليها؛ فرضا سوفو أوغلو صاحب المؤسّسة التجارية الذي يصطنع الاستقامة، وينتحل شخصية الأب الحريص على مصلحة ولده، سرعان ما يسقط في فخ المحقّق حين يحاصره بأسئلته، ليتبيّن أنّه قتل الضحية لمجرّد حصول شجار بينه وبينها. والقبرصي الذي يدير محلاً للعب القمار، ويتظاهر بالقوّة مستنداً إلى بعض الحرّاس، سرعان ما يتكشّف عن الضعف، ويرضخ لابتزاز المحقّق، ويشطب ديون بعض المقامرين. ويوتشه المحامية، شقيقة الضحية، سرعان ما تقع تحت تأثير المحقّق الذي يضعها في دائرة الاشتباه مع الآخرين ليتبيّن أنها محامية ضعيفة. والمخرج المسرحي علي مومجو الذي يتظاهر بالقوّة ويمارس التنمّر، سرعان ما يخضع لقوّة المحقق البدنية، ليتبيّن أنّه مقامر مدين يطارده الدائنون. وحقّان شوكور الحارس الضخم البنية الذي يستخدم قوّته البدنية لإرهاب الآخرين، سرعان ما يسقط على رجليه، بفعل ضغط المحقّق على معصمه. وهكذا، تعاني الشخوص المختلفة من أعطاب، جسدية أو نفسية، ما يمنح المحقق فرصة التفوّق عليها، ووضعها في بؤرة الشبهة والشك.
إذا كان المحقق يكتشف بنهاية التحقيق أنّ الممثّلة الشابة الضحية حاولت الإفادة من غنى التاجر الكهل القاتل لتقيم مسرحها، وحاول هو بدوره أن يستمتع بشبابها الغض، ما أدّى إلى قيام علاقة بينهما، فإنّ تخلّفه عن موعدهما، وخروجها مع رجل آخر، أدّيا إلى قيامه بتعقّبها، والانخراط في شجار معها، وقتلها في نهاية المطاف. وهكذا، يتبيّن عدم وجود سبب وجيه للقتل، ما يجعل تساؤل المحقّق في نهاية الرواية: "لماذا يقتل شخصٌ شخصاً آخر؟" (ص 253) واقعاً في مكانه الصحيح.
إلى ذلك، تغرق الرواية في التفاصيل والجزئيات التي تلتقطها حواسّ البطل الراوي. وكثيراً ما تكون غير مفيدة في نموّ الأحداث. غير أنّ تدفّق تيّار السرد يجرف في طريقة تلك التفاصيل والجزئيات، ويذيبها في مياهه، فلا تعترض حركته، ولا تغيّر مجراه. وبذلك، تطفو "الجثّة التي سرقت الدور" على سطح المجرى، وتصبّ في بحر القراءة الممتعة.