لطالما أثارت تصريحات نينا خروتشوفا، التي عرفها الغرب بوصفها حفيدة الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروتشوف، الجدل. وهي تصريحات في معظمها مناهضة لسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي الحقيقة، فإن نينا (58 عاماً) ليست حفيدة مباشرة لخروتشوف، إنما ابنة لحفيدة كانت عائلة خروتشوف تبنتها ومنحتها لقب العائلة، لتعيش في كنفها، بعد وفاة أبيها في إحدى المعارك الجوية إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من ذلك، فإنها تظل محسوبة على عائلة خروتشوف.
ونينا خروتشوفا (الألف في اللقب هي الزائدة التي تضاف في الألقاب الروسية دلالة على المؤنث)، التي كانت تعمل في جامعة "برينستون" الأميركية، قبل انتقالها للعمل أستاذة في كلية الدراسات العليا للعلاقات الدولية في نيويورك، وتحمل لقب بروفيسور العلوم السياسية والعلاقات الدولية، لا تكف عن توجيه انتقاداتها إلى الوطن الأم منذ غادرته قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الولايات المتحدة الأميركية، بغرض الدراسة، قبل رحيلها للمرة الثانية إلى الولايات المتحدة بغرض الإقامة والعمل. وهي توجه أحياناً انتقادات مماثلة إلى خصوم الوطن، ممن يحاولون استغلال الفرص المواتية لتوجيه ضرباتهم إلى روسيا وسياساتها.
وغالباً ما يتقاطع ما يصدر عن نينا خروتشوفا من انتقادات مع الحملات التي تتعرض لها روسيا، منذ كشف الرئيس بوتين مع أواخر سنوات ولايته الأولى عن توجه مغاير لما كان كشف عنه في أعقاب توليه سدة الرئاسة في الكرملين في عام 2000. وكان بوتين استهل سنوات حكمه بمواصلة ما سبق وانتهجه سلفه بوريس يلتسين من غزل مع الدوائر الغربية، وقد وصل في بعض جوانبه إلى حد إبداء الرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل وكشف صراحة في 2001 عن استعداده لبحث الانضمام إلى "الناتو". ودعا اللورد جورج روبرتسون، الأمين العام للحلف، إلى زيارة موسكو. لكنه عاد وتحول إلى المعسكر الآخر، منذ أعلن رفضه هيمنة القطب الواحد وحدد استراتيجيته، في خطابه الشهير الذي ألقاه في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في ميونيخ في 2007.
اللحظة المؤلمة
وكانت حدة الهجوم ضد بوتين وبلاده، تزايدت في أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية، في 2014، لتبلغ درجة غير مسبوقة بعد إعلان موسكو "ضم" القرم" في أعقاب الاستفتاء الشعبي الذي كشفت نتائجه في مارس (آذار) من العام نفسه عن رغبة الغالبية الساحقة من أبنائها في العودة إلى أحضان الوطن الأم. وانضم إلى ذلك عدد من جنرالات "كي جي بي" ممن انتقلوا إلى الولايات المتحدة. ومن هؤلاء أوليج كالوجين، ابن لينينغراد ونائب مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي، وخدم في الولايات المتحدة "جاسوساً" للاتحاد السوفياتي قبل أن يعود لينقلب على بلاده ويهرب إليها ثانية. وكذلك أندريه كوزيريف وزير الخارجية الأسبق الذي ترك مقعد الوزارة مفضلاً عضوية مجلس الدوما التي كانت بوابة للعبور إلى العمل الخاص كوكيل لإحدى شركات الأدوية الأميركية في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، قبل أن يحسم أمره ويختار الرحيل إلى الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن نينا خروتشوفا لم تكن لتبلغ في عدائها لسياسات موسكو، تلك الحدة التي بلغها كالوجين وعدد من جنرالات "كي جي بي"، فإنها بدت في مواقفها أقرب إلى البروفيسور مهندس الصواريخ سيرغي خروتشوف الابن الخامس للزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، الذي رحل عن الاتحاد السوفياتي بعد انهياره للإقامة والعمل في الولايات المتحدة حتى تاريخ انتحاره هناك.
وقد اختارت نينا خروتشوفا توقيت إجراء الانتخابات البرلمانية التي يعلق عليها الكرملين كثيراً من الآمال في إعادة ترتيب البيت من الداخل، لإعلان رفضها الاعتراف بشرعية هذه الانتخابات. وهي كانت، قبيل اللقاء الأول الذي جرى بين الرئيسين الروسي بوتين والأميركي جو بايدن في جنيف في 16 يوليو (تموز) الماضي، قد طالبت بايدن بأن يكون أكثر حدة وتشدداً في مباحثاته مع نظيره الروسي. وهو ما أشرنا إليه في تقرير سابق.
أخطار روسيا
وها هي "الحفيدة" تعود بعد قرابة عشرين عاماً ظلت خلالها تلوح بما تصفه بالأخطار التي تشكلها روسيا ضد الغرب والولايات المتحدة، لتعلن في حديث أدلت به إلى صحيفة "لا ناسيون" الأرجنتينية، "أن الجد نيكيتا خروتشوف، لو كان حياً اليوم لما وافق على ما يفعله الرئيس بوتين". ولم تقتصر نينا على الحاضر، وما "يقترفه بوتين من أخطاء"، على حد تعبيرها، بل أعادت إلى الأذهان ما ارتكبه الجد من تصرفات كادت تدفع العالم إلى شفا حرب نووية، في إشارة إلى ما يعرفه العالم تحت اسم "أزمة خليج الخنازير" والصواريخ السوفياتية في كوبا، بل وكذلك إلى ما لم تثبت صحته تاريخياً، بشأن ما قيل عن استخدام الجد نيكيتا خروتشوف حذاءه في قرعه لمنصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلاً عن تعدادها سلبيات سياسات الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، وما اسفرت عنه "البيريسترويكا" من خطايا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن ذلك لم يكن القول الفصل، إذ سرعان ما عادت نينا خروتشوفا، في حديثها إلى "لا ناسيون"، لتتحدث باسم الجد وكأنه "كان يمكنه تفهم العديد من تصرفات بوتين من منظور الافتقار إلى التعاون والتفاهم والاحترام المتبادلين من جانب الغرب". وقد سبق لها أن قالت في حديث آخر، إن الجد كان يفعل مثلما فعل بوتين باتخاذه قرار إعادة ضم القرم إلى أحضان الوطن، مؤكدة أن يلتسين هو المسؤول عن تسليم القرم إلى أوكرانيا، وليس خروتشوف.
وقالت من دون اعتبار لما تردد عن تهديدها أكثر من مرة بعدم تجديد جواز سفرها الروسي، إنها تعتقد أن "الركود الاقتصادي والتضخم والأزمة الصحية المستمرة الناجمة عن فيروس كورونا، فضلاً عن الكوارث البيئية، أضعفت مستوى الدعم للحزب الحاكم، روسيا الموحدة". وأضافت أن هذا الحزب "غير الشعبي" لا يحظى إلا بتأييد نسبة لا تزيد على ثلث الناخبين"، وفقاً لاستطلاعات الرأي المستقلة التي أجرتها المراكز الاجتماعية ذات التوجه الغربي. أما عن آفاق استمرار الرئيس بوتين في الحكم، فقالت إنه أمر يصعب التنبؤ به، وإن كشفت عن توقعاتها بأنه سيواصل البقاء في الكرملين حتى يتخذ الشعب القرار، في إشارة إلى أنها تتوقع كل الاحتمالات. وروت أن جدها خروتشوف طُرد "بين عشية وضحاها"، وأن غورباتشوف رحل أيضاً، مع الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي الذي لم يكن يتوقعه أحد.
غورباتشوف "رجل عظيم"
وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فنشير إلى ما ذكرته نينا خروتشوفا عن انطباعاتها بشأن الزعيمين غورباتشوف وبوتين. بداية، قالت إنها لم تترك الاتحاد السوفياتي بغرض الهجرة، وإنما بهدف الدراسة، وقد ساعدها في ذلك السفير الأميركي الأسبق جاك ميتلوك الذي كان على معرفة بعائلتها. وكانت عادت بالفعل بعد انتهاء دراستها في الولايات المتحدة، وعملت في كلية الصحافة في جامعة موسكو. وعلى الرغم من عودتها بهدف الإقامة والعمل بعد تغيير تخصصها من دراسة الأدب إلى السياسة والعلاقات الدولية، فإنها لا تزال تعتبر نفسها في الولايات المتحدة "مغتربة"، وليست "مهاجرة"! أما عن السبب، فقالت إنه تأثرها بما قاله غورباتشوف، وكانت التقته مراراً. ونقلت عنه قوله إن "الاتحاد السوفياتي بلد حر، لكل من فيه أن يفعل ما يريد، فلا يمكننا الاحتفاظ بالناس إذا كانوا لا يريدون أن يكونوا معنا، قررت أن أحاول، كيف يمكن أن أعيش في مكان ما لا أشعر فيه بكينونتي. أنا شخص يحمل الاسم نفسه واللقب نفسه (اسم نينا خروتشوفا وهو اسم قرينة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف ولقبها)، لكني أعيش بلغة مختلفة وفي فئات ثقافية وسياسية مختلفة أياً كانت التسميات". وأضافت أنها "يمكن أن تنتقل للعيش في مكان آخر، إذا تغيرت ظروف حياتها"، بل وقالت باحتمالات أن تعود إلى روسيا التي تعيش الآن متنقلة بينها وبين نيويورك. وبينما قالت إن لديها ملاحظاتها على روسيا، أشارت إلى "ارتياحها" للعيش في الولايات المتحدة.
أما عن رأيها في غورباتشوف، فقالت إنها تعتقد بأنه "رجل عظيم للغاية في القرن العشرين، وقد فعل أمراً رائعاً لروسيا. فتح لنا وأعطانا الفرصة لنكون أحراراً". لكنها عادت لتحمل على شعبها بقولها "بشكل عام، نحن أفسدنا هذه الحرية، ولم نتصرف كما ينبغي". وعن "البيريسترويكا"، التي أشرنا إليها في أكثر من موقع حول أنها كانت مقدمة لفكرة الثورات الملونة التي اجتاحت كثيراً من بلدان الفضاء السوفياتي السابق، قالت نينا خروتشوف إنها "من أشد المعجبين بالبيريسترويكا، وأعتقد أنها قد حررت العالم، وخصوصاً في عام 1989". ونقلت ما قاله غورباتشوف لها في أحد لقاءاتهما، "لا يمكننا أن نملي على الناس كيف نعيش. اتصل بي نيكولاي (كان يقصد نيكولاي تشاوشيسكو) وقال إننا بحاجة إلى الدبابات، على وجه السرعة، الآن". قال، "لا أستطيع. لقد وعدت هيلموت (وهو ما يعني به هيلموت كول، المستشار الألماني الأسبق) بأن الاتحاد السوفياتي لن يتدخل". وأضاف، "لقد كان عملاً هائلاً من جانبه". وكان غورباتشوف أعلن عن ذلك صراحة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1989، إذ كشف عن تخلي الاتحاد السوفياتي عن "مذهب بريجنيف" الذي كان يقضي بحق الاتحاد السوفياتي في "التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان شرق أوروبا".
نقد السياسات الغربية
وعلى الرغم مما كالته وتكيله نينا خروتشوفا للسياسات الروسية من انتقادات، فإنها لم تتردد في انتقاد الجانب الآخر الذي قالت إنه "لم يتورع عن تسخير كل الطاقات، سياسية كانت أو فنية، لشن هجماته ضد روسيا". وأعادت خروتشوفا إلى الأذهان ما فعلته هوليوود في تسعينيات القرن الماضي. وقالت إن هذه الاستوديوهات، "حتى في اللحظات التي كان كل شيء فيها جيداً ورائعاً، في تسعينيات القرن الماضي مع بوريس يلتسين (الذي كان ينتهج سياسات غربية الهوى)، لم تتخلف عن الركب". وذكرت أن هوليوود أنتجت، على سبيل المثال، في عام 1997 وحده ثلاثة أفلام دفعة واحدة، تحمل كلها مضموناً مناهضاً لروسيا، وشارك فيها ممثلون روس من "الحاضرين دائماً". وانتقدت خروتشوفا السياسات الغربية في هذا الصدد بقولها إن روسيا "متهمة بشكل غير عادل في نواح كثيرة، لكنها متهمة في كثير من النواحي وعادلة أيضاً. لذلك، من الذي سيكتشف ذلك، هل كانت المنشطات (الرياضية التي كانت سبباً في استبعاد المنتخبات الروسية عن بعض البطولات العالمية وحظر رفعها علم روسيا أو عزف نشيدها القومي في الدورات الأولمبية)؟ أي أن كل هذا غير سار بالنسبة إلى روسيا، لكن بشكل عام لديها ما يجري لومها بشأنه. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية فهي مريحة، لأنها لا تزال ثقافة ما تعرفه بشكل طبيعي".
وتناولت نينا خروتشوفا في كثير من أحاديثها الأجهزة الإعلامية الغربية، ومنها "بي بي سي" و"دويتشه فيله"، لتعيد إلى الأذهان ما كانت عليه سياسات الرئيس بوتين في سني ولايته الأولى، وكان آنذاك كما أشرنا إليه، قريباً من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعلى استعداد للانضمام إلى "الناتو"، وهو ما كشف عنه في معرض رده على سؤال لمراسلة "بي بي سي" بشأن ذلك، سائلاً "ولم لا؟". وأشارت إلى علاقاته القوية مع كثيرين من زعماء الماضي، ومنهم سيلفيو برلسكوني في إيطاليا وغيرهارد شرودر في ألمانيا وبنيامين نتنياهو في إسرائيل، بل ومع دونالد ترمب في الولايات المتحدة، على الرغم من كل ما كاله له من ضربات واتخذه ضده من عقوبات وقرارات.