لم يحظَ الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا (1888-1935) بالشهرة على نطاق واسع إلا بعد بضع سنوات من رحيله، وهذا ما يشير إليه الإقبال الكثيف على ترجمة أعماله إلى أكثر من عشرين لغة أوروبية وغير أوروبية.
قصة اكتشاف تلك القارة المجهولة من الأدب كانت في خريف عام 1964، حين كان الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي (1943-2012) يدرس الفلسفة في باريس وإذا به يكتشف بالصدفة، نصاً مترجماً إلى الفرنسية بعنوان "دكان التبغ" لكاتب غير معروف اسمه فرناندو بيسوا. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها بهذا الاسم، ومنذ ذلك اليوم لم يفارقه قط. ومن أجله انكب تابوكي على اللغة البرتغالية ليتعلمها، فأتقنها وصار يكتب بها، وصار بالنسبة إلى بيسوا تابعاً له كظله، تماماً مثلما كان عليه سانشو بانشا بالنسبة إلى دون كيشوت، مما جعل الأديب والناقد الإيطالي يدخل عالم الأدب من بوابة بيسوا. فبالنسبة له لم يكن بيسوا مجرد كاتب كبير وحسب، بل كان معلِّماً ومرشداً.
ترجم تابوكي أعمال بيسوا، ولم يكتف بهذا، بل راح يكتب مقالات عن حياته وكتبه، ويلقي محاضرات لشرح نصوص بيسوا ودراسة أفكاره. بل إنه كتب نصاً قصصياً جميلاً بعنوان "الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بيسوا". إذ نقرأ أن بيسوا، على فراش الموت استقبل أنداده من الكتّاب، الذين كان صنعهم بنفسه، ليتبادل معهم الكلمات الأخيرة.
الحنين إلى الممكن
الكتاب الذي أصدره تابوكي باللغة الفرنسية بعنوان "الحنين إلى الممكن" نقله حديثاً إلى العربية المترجم السوري نزار آغري، وضم ثلاث محاضرات كان ألقاها تابوكي في المعهد العالي للدراسات الاجتماعية في باريس عام 1994. ففي الكتاب الصادر في نسخته الأصلية عن دار سوي الفرنسية، حاول تابوكي أن يبين إلى أي حد كان بيسوا معبّراً عن دخيلة الإنسان المعاصر، وكم كان مهووساً بالعلاقة التي تربط الإنسان بالزمن. وذلك الانشداد النوستالجي- ليس لما مضى وانصرم وحسب- بل لما هو ماثل في اللحظة الحاضرة أيضاً. فالحاضر ليس سوى ماض مؤجل، ومسألة الحنين لديه لا تكمن في البحث عن الزمن الماضي، بل عن الزمن الحاضر. إنه حنين ليس إلى ما كان، بل إلى ما كان يمكن أن يكون.
يندرج اسم فرناندو بيسوا اليوم في قائمة أسماء الكبار من المبدعين الذي ولدوا خلال سنوات الثمانينيات من القرن التاسع عشر، من أمثال سترافينسكي، وبيكاسو، وجيمس جويس. فكل السمات النموذجية لهذه المجموعة من الكتّاب إنما تتجسد في الشاعر البرتغالي، وذلك عبر القدرة الخارقة لديه في التغلب بشكل دائم على عاداته، والموهبة المنقطعة النظير في تمثّل كل تقليد قديم وإعادة صياغته، وكل نموذج غريب، من دون التفريط بالفرادة الشخصية المتجسدة في التعدد الصوتي المدهش للإبداعات الجديدة التي اجترحها.
كان بيسوا شخصية متشظية، مبعثرة، ضائعة بين الأمكنة والأزمنة. فكان يعيش في اللحظة الراهنة واللحظات المنقضية في وقت واحد، وكان يعيش حياته وحياة الآخرين في كل الأوقات، فلم يكن لدى هذا الشاعر أي يقين لأي شيء بما في ذلك شخصه، ولم يكن متيقناً مما إذا كان هو الذي صنع الشخصيات الأدبية، أم أن تلك الشخصيات هي التي صنعته. من هو الواقعي منها، ومن هو المتخيل: فرناندو بيسوا، أم ريكاردو رييس، أم ألفارو دي كامبوس، أم ألبيرتو كاييرو، أم برناندو سواريس، أم أنطونيو مورا؟ وكلها استعارات اسمية لأبرز الشخصيات التي استعارها من بين أكثر من سبعين شخصية أبدعها بيسوا وكتب باسمها.
الأنا والآخر
لقد انشغل بيسوا كثيراً بالآخر. ولكن الآخر لم يكن أحداً سواه. فهو كان هذا الآخر، ليس للآخرين وحسب بل لنفسه أيضاً. كان في أعماقه شخصاً آخر، بل أشخاصاً آخرين لهم حيواتهم وأحلامهم وأحزانهم ومهنهم وأسرارهم. كانوا يتناقشون معاً، ويتساجلون، ويتبادلون الهواجس والأفكار. وإن كان بيسوا هو الذي صنعهم، فهم سرعان ما استقلوا عنه، وعن هذا قال الكاتب البرتغالي: "اخترعتُ لهم أسماء، صنعتُ تاريخاً لكل واحدٍ منهم، ثم سرعان ما صرت أراهم واقفين أمامي بوجوههم وقاماتهم وملابسهم وحركاتهم. وهكذا فقد صار عندي الكثير من الأصدقاء الذين لم ألتقِ بهم قط، ولم يكن لهم وجود على الإطلاق".
لقد وضع بيسوا لـ"أصدقائه الجدد" أعماراً وسيراً ذاتية، وجعلهم يكتبون ويسافرون ويعشقون ويفرحون ويحزنون، شأنهم في ذلك شأن أي إنسان آخر. بل كان في مقدور هؤلاء أن يقوموا بدورهم بصنع شخصيات جديدة. وهكذا فقد كانت مخيلة بيسوا كوكباً مستقلاً بحد ذاته. كانت هذه المخيلة - الكوكب تتهيأ لاستقبال ذرية كاملة من البشر. تلك هي ذرية المخيلة الكاتبة التي أبدعت وابتكرت من دون نهاية. فشخصية ريكاردو رييس، مثلاً، شخصية متخيّلة، (بفتح الياء)، ولكنها كانت شخصية متخيّلة أيضاً (بكسر الياء). وهي ثمرة الطاقة الجبارة للخيال الإبداعي لبيسوا، غير أنها نالت استقلالها الذاتي عن كاتبها، وصارت بدورها تنتج وتخلق وتبتكر. وكل هذا كان يجري لدى الكاتب بين دفتي كتاب.
يوضح الكاتب الإيطالي أنه بالنسبة لبيسوا فإن الحياة كتاب، والإنسان كتاب، والكون كتاب. ولهذا يقتبس على لسان بيسوا: "لقد تلقيتُ تكويناً ذهنياً جيداً، غذائي الأدبي الأول تمثّل في ما كنت قد صادفته من روايات المغامرات. لم تكن تستهويني الكتب الموجهة للأطفال بما تسرده من أحداث مؤثرة. لم تكن تجذبني الحياة السليمة والطبيعية. لم أكن أرغب في الممكن والمحتمل، بل في ما لا يصدق، في المستحيل بطبيعته".
الكيان اللاجسدي
ويورد تابوكي في كتابه كيف أن بيسوا كتب بعض القصائد في شكل محموم. فقد كان كثيراً ما يبدو وكأنه ممسوس، وتستولي على كيانه نوبة مذهلة من الانخطاف. هذا ما تورده النصوص الموجودة في الكتاب الصادر حديثاً عن دار نينوى- دمشق، والتي هي في الأصل محاضرات كان تابوكي قد ألقاها في المعهد العالي للدراسات الاجتماعية في باريس، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1994. وهي توضح إحدى السمات الأكثر خصوصية لبيسوا، والتي تفصله عن الثقافة السائدة في عصره، والتي تكمن في تنافره. فهو على الرغم من حضوره في مكانه، إلا أنه كان على الدوام في "مكانٍ آخر". حين كتب كشاعر هادم لأي عرف أو تقليد، ففعل ذلك بكل جوانحه، ولكنه في الوقت ذاته كان يراقب نفسه من موقع الهادم. إنه مستقبلي وتكعيبي وتلقائي بإتقان، إلا أنه وقف على طرفي نقيض من هذه المدارس عصياً على أي تصنيف أو قالب أدبي جاهز.
في القسم الأول من الكتاب يشرح تابوكي ما أسماه "الكيان اللاجسدي" لأشعار بيسوا. موضحاً أن الشعر لديه كان منزوعاً من كل ما هو جسدي، ومحيلاً كل ما هو واقعي إلى مجرد افتراض. أما في القسم الثاني من هذا النقاش فتنبثق عبره عوالم شخصيات بيسوا، مثل برناردو سواريس أو كامبوس، ثم تغوص من جديد في النشوة عبر الشاعر الذي يكتب الحياة على أنها محض كتاب. والكتابة كما يعرفها بيسوا هي: "الإحساس بكل شيء بكل طريقة، أن تكون كل الناس في كل مكان. الكتابة هي امتلاك أكثر من وجود، أكثر من حياة، والركون إلى غيرية مسعورة وتعددية لا نهائية، كما لو كان الكون مصنوعاً من الكتابة".
فضلاً عن هذا فإن الحوارات "البيسوية" التي أجراها تابوكي في لشبونة مع باتريك كيلييه، أسهمت في إغناء هذا الكتاب بالعديد من النصوص غير المنشورة لبيسوا، على الرغم من أنها لم تكن ضمن جدول جولته الباريسية التي قام بها الكاتب عام 1998، وذلك من أجل شرح المسافة التي تقوم بين أسماء بيسوا المستعارة وبينه، هو الذي كان يسمي نفسه "أورثونيم"، فقد شبهها دوماً بشخصيات شكسبير، إذ قال: "كامبوسورييس ليس أنا بقدر ما أن هاملت والملك لير ليسا شكسبير. بكلام آخر فإن مشاعر كامبوسورييس ليست مشاعر بيسوا، مثلما أن مشاعر هاملت والملك لير ليست مشاعر شكسبير". هذه الشخصيات هي شخصيات متخيلة إذن، غير أن المشاعر التي تنتابها هي مشاعر حقيقية، أي أنها تنتمي إلى حقيقة رمزية تملك حقيقة كونية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ترك بيسوا، عبر اجتراح أسمائه المستعارة، صنيعاً معقداً. فشخصيات بيسوا ليست شخصيات عادية لها تاريخ، بل هي شخصيات يتوجب عليها أن تتظاهر بأن لها تاريخاً. إنها مخلوقات خالقة، شعراء، أي مخلوقات متخيلة تقوم، بدورها، باجتراح الأدب، وهذه المخلوقات المتخيلة، وهذا الأدب المجترح، وأخيراً هذه الخصوصية القائمة على الحقيقة المزدوجة لبيسوا، تنهض على مفاهيم مقبولة من جميع الناس، أي مفاهيم كونية، أو "أندوكسات" كما يسميها أرسطو.
ومن بين المفاهيم الكونية التي تخللت أعمال بيسوا، وانطوت على قدر كبير من المعاني والدلالات، في أعمال الشاعر هي الحنين. ويتقصى بحث تابوكي مفردة الحنين في القاموس الكبير للغة البرتغالية "لوموراييس" ليجد أن معناها يأتي على هذا النحو: "الرغبة العميقة في العودة لرؤية بلد أو شخص أو شيء كان مصدر سرور لنا". هذا بالطبع تعريف قاموسي، إلا أن ما يحن إليه المرء هو ما لا يمكن استعادته، أي أنه شيء على علاقة بالماضي. وهذا الماضي، لا سيما في ما يتعلق بالزمن، هو في الغالب ما لا يمكن استعادته بالمطلق، وهذا ما يفنده الكاتب الإيطالي مستشهداً ببناء قصيدة "الأنشودة البحرية" لبيسوا، التي اعتبرها ذروة الحنين الذي يبدأ بأشياء ملموسة، من مثل المرفأ، والأفق، والبحر، ثم سرعان ما يتحول إلى حنين للبعيد المطلق، للرحيل المطلق، للمسافة المطلقة.