تحتفل الأوساط الثقافية هذا العام في إيطاليا والعالم، بالذكرى المئوية السابعة لوفاة الشاعر الإيطالي دانتي اليغييري (1265- 1321) صاحب "الكوميديا الإلهية"، هذا الصرح الأدبي الكبير الذي عده الكاتب الأرجنتيني بورخيس "أفضل كتاب أنتجه الأدب على الإطلاق".
أطلق الشاعر على هذ العمل الذي يصور في أغلب فصوله عذاب البشر وتباريحهم اسم الكوميديا، مُعرضاً عن مصطلح التراجيديا، وقد برر ذلك بالعودة إلى العمل نفسه، إذ أشار إلى نهايته السعيدة وانتقال الحال فيه من الشقاء إلى السعادة، بحيث تختتم الملحمة بدخول الشاعر بعد طواف طويل إلى الفردوس، أرض النور الدافق والخير العميم تقوده في درجاتها حبيبته بياتريسيا التي ملكت قلبه منذ طفولتها الأولى .
اكتفى دانتي بعبارة "الكوميديا "عنواناً لملحمته، ثم أضافت إليها الأجيال اللاحقة صفة "الإلهية"، ويقال إن بوكاشيو، الكاتب الإيطالي الشهير، هو الذي قام بهذه الإضافة.
تصور هذه الملحمة رحلة قام بها الشاعر في الممالك الثلاث، الجنة والمطهر والجحيم، متصفحاً خلال تلك الرحلة وجوه العصاة والتقاة من أهل العلم والسياسة والمال، مسلطاً الضوء على فضائل الناس في عصره ورذائلهم، ويبرز من خلال أحداث خيالية بعض المآثر، ساعياً بطرق شتى إلى تخليدها في الذاكرة والوجدان. ومن أجل هذا استخدم المتداول من الكلام، والمألوف من الصور، لكن أهم وظيفة نهض بها هذا النص هي ربط الصلة بين نص العالم وعالم النص، بين حياة اللغة، ولغة الحياة .في هذا السياق تجنب دانتي لغة الآداب التقليدية اللاتينية، وكتب عمله الكبير باللغة الفلورنسية... وهي لغة عامة الناس "وربات البيوت" في عصر النهضة، كما أشار أحد النقاد. فكان بذلك من مؤسسي اللغة الأيطالية الحديثة، فما إن نشر هذا العمل حتى اقتفى أثره عدد كبير من الأدباء، فكتبوا أعمالهم بهذه اللغة الجديدة، ولعل أهم هؤلاء الأدباء الكاتب الشهير بوكاشيو.
غنيمة البطولة
تقتسم بياتريسيا مع الشاعر غنيمة البطولة فهي دليلته في العالم الآخر تقود خطاه في درجات الفردوس، وهذه المرشدة هي المرأة التي شغف بها حباً في حياته وفقدها وهي في العشرينيات من عمرها. كان حباً من طرف واحد، ترك في قلبه جروحاً غائرة ودفعه إلى أن يكتب فيها أجمل غزلياته ومراثيه التي جمعها في ديوانه، "لافيتا نوفا" (الحياة الجديدة). لكن احتفاءه بهذه المرأة كان أكبر في الكوميديا، إذ جعلها مرشدته إلى الفردوس، وطن النور الذي لا ينطفئ أبداً. والطريف أن الكنيسة التي رأى فيها الشاعر محبوبته بياتريسيا أول مرة باتت، بعد ممات الشاعر محجة العشاق الذين لم يحظوا بعطف معشوقاتهم، يزورونها ليلقوا في رحابها برسائل حبهم التي تصف محنتهم وحبهم اليائس التي لن تصل إلى المحبوبات أبداً.
أما الشخصية الثالثة التي تنهض بدور البطولة في الكوميديا الإلهية فهي شخصية الشاعر فيرجيل. فالملحمة تستهل بمشهد دانتي يضل طريقه في غابة مظلمة، وبعد ليلة من السير على غير هدى يأتي فيرجيل ويعده بالخروج من الغاب، والمضي صعداً نحو السماء لبلوغ الجحيم.
منذ تلك اللحظة يصبح فيرجيل دليل دانتي ومعلمه يقوده إلى دركات الجحيم ثم إلى جبل المطهر، فأبواب جنائن الفردوس حيث تتولى بياتريسيا إرشاده.
مصادر الكوميديا
اختلف الدارسون في تحديد مصادر الكوميديا الإلهية وجذورها البعيدة، فمنهم من ذهب إلى أن الشاعر الإيطالي قد استرفد الثقافة المسيحية في عصره، ومنها استمد صورة الممالك الثلاث، الجحيم والمطهر والفردوس، ومنهم من قال إن دانتي ابن بيئته الفلورنسية، والكوميديا تعكس تصور هذه البيئة لليوم الآخر و للثواب والعقاب.
لكن فريقاً آخر من الدارسين استدرك على هؤلاء وأبرز من خلال قراءة مقارنة أن دانتي كان على اطلاع على ثقافات أخرى كثيرة، لعل أهمها الثقافة العربية، فالكوميديا لم تكن زهرة برية نبتت على هامش الثقافة الإنسانية والمتوسطية على وجه الخصوص، وإنما كانت إحدى بناتها ، وثمرة من ثمارها. ومن أهم المستشرقين الذين انتصروا لهذا الموقف الباحث الإسباني آسين بلاسيوس في كتابه الشهير "الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية (1919)، حيث أبرز من خلال الموازنة والمقارنة عناصر التشابه والتطابق بين "الكوميديا الإلهية" وعدد من الآثارالعربية والإسلامية، من هذه الآثار نذكر أدب المعارج و"رسالة الغفران" والمعراج الصوفي.
أدب المعارج هو من أهم مصادر الكوميديا في نظر عديد من الباحثين، أدب المعارج الذي انتشر في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح أدباً قائماً بذاته، له خصائصه الفارقة. والمعراج هو الذهاب في صعود، كما تقول المعاجم، والمقصود من أدب المعارج كل القصص التي دارت حول رحلة الإسراء والمعراج التي قام بها النبي.
رسالة الغفران
ولئن وصف عدد من الأحاديث النبوية هذه الرحلة بإسهاب واضح، فإن القرن الرابع الهجري شهد ميلاد قصص كثيرة دارت حول هذين الحدثين صاغها بنباهة فائقة الخيال الشعبي في عدد من البلاد الإسلامية. بحيث أصبحت أقاصيص المعراج لوناً أدبيا له سماته الدلالية والجمالية المخصوصة. في هذا السياق ظهرت كتب كثيرة حول هذه الرحلة تميزت بخصوبة الخيال ورهافة الحس، سرعان ما انتقلت إلى أوروبا ليتلقفها المترجمون بحماسة كبيرة، وينقلونها الى اللغات الأوربية. ولعله من المفيد أن نشير إلى أن هذه الكتب لم تقتصر على سرد حادثتي الإسراء والمعراج، بل أطنبت في الحديث عن عالم ما بعد الموت، ووصف مشاهد الجزاء والعقاب، وهي المشاهد التي كانت تشد القراء وتلهب خيالهم.
ومن المستشرقين الذين أثبتوا العلائق السرية بين الكوميديا وأدب المعارج نذكر المستشرق الإيطالي تشيرولي الذي أوضح أن أدب المعارج الإسلامي كان منتشراً في البلاد الإيطالية خلال القرن الثالث عشر تتداوله عامة الناس، فليس غريباً بعد هذا أن يتأثّر به دانتي ويقتبس بعض صوره ومشاهده.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما رسالة الغفران فيذهب كثير من الدارسين إلى أن الكوميديا استلهمت أيضاً "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري التي تصور رحلة خيالية إلى الجنة والنار، قام بها بطل الرسالة ابن القارح. ويذهب الباحثون إلى أن وجوه التشابه بين الكوميديا والرسالة كثيرة فهي في نظرهم "تتجاوز التفاصيل الوضعية وتفاصيل الأحداث ومختلف الصور الحية المثيرة والنابضة بالحركة، إلى ما يسمى هندسة الممالك الأخروية إلى التصور الطوبوغرافي لدركات النار ودرجات الجنة... فالمهندس الذي صمم العملين مهندس واحد هو المهندس الإسلامي".
والواقع أن دانتي جاء في عصر استعراب كامل لأوروبا، وهو يقر من خلال الكوميديا اطلاعة على الفكر الإسلامي، وتعرفه إلى أهم الفلاسفة المسلمين.
كيمياء السعادة
ومن الكتب الأخرى التي ألم بها دانتي، في نظر بعض الباحثين، كتاب "التوابع والزوابع" لابن شهيد الذي يصور رحلة خيالية في عالم الجن يلتقي خلالها بشياطين الشعراء. ويشير العنوان إلى هذا العالم الغريب، فالتوابع جمع تابع وهو الجن يتبع الإنسان حيث ما ذهب، أما الزوابع فجمع زوبعة وهو اسم شيطان أو رئيس الجن.
ولا بد من التوقف أمام كتب المعارج الصوفية، فقد أشار كثير من الدارسين إلى تأثر دانتي بكتب المعارج الصوفية التي تصور عروج بعض المتصوفة إلى السماء كمعارج عبد الكريم الجيلي وأبي زيد البسطامي اللذين تحدثا عن ارتفاع روحيهما إلى السماوات. لكن بلاسيوس يذكر أن تأثر دانتي بابن عربي كان أوضح وأعمق، مشيراً إلى إلمامه الجلي بعملين اثنين، أولهما أحد فصول "الفتوحات المكية" الموسوم بـ"كيمياء السعادة" وهو الفصل رقم 167 الذي يصف من خلاله الشيخ الأكبر المعراج الروحي والصعود إلى الفردوس، وثانيهما رسالة "الإسراء إلى مقام الأسرى" التي تصف رحلة النفس إلى المقام الأعلى، حيث تنكشف لها حقائق الكون في عالم الملكوت.
إن مدار هذا العمل هو الانسان، الإنسان بما ينطوي عليه من رذائل وفضائل، من قيم ترفعه إلى مقام الملائكة، وغرائز تلقي به إلى مهاوي الجحيم. كل الملحمة تصوير لهذا الكائن العجيب في تناقضاته، الغريب في تعدد حالاته... لكن الملحمة قبل ذلك قصيدة حب طويله في مديح الكائن الأنثوي الذي قاد الشاعر إلى رؤية الخير الأعظم ، والظفر بكيمياء السعادة على حد تعبير ابن عربي.