أؤيد في شكل كامل إلقاء اللوم على (رئيس الوزراء البريطاني) بوريس جونسون وزملائه حين يتبيّن أن إحدى المبادرات الحكومية لم تأتِ وفق ما خُطّط لها. وواقعياً، يعود نفاد الوقود في المحطات وفراغ بعض الرفوف في محال السوبرماركت، بصورة جزئية إلى مغادرة سائقي الشاحنات المملكة المتحدة بعد "بريكست"، لكن يقتصر ذلك على كونه مجرد جزئي، لأن أوروبا وأميركا تشهدان أيضاً نقصاً في السائقين.
وفي الأحوال كلها، يؤدي التركيز على العمل السياسي إلى إهمال العوامل الاقتصادية، إذ يواجه اقتصاد العالم بأسره مشكلات على صعيد سلاسل الإمدادات [بالسلع والطاقة وغيرها]. وبما أننا بلد يستورد أشياء كثيرة، نعاني أكثر من معظم الاقتصادات الأخرى. وتبيّن مراجعة سريعة للنواقص العالمية، أجرتها وكالة "بلومبيرغ"، أن سعر لحم سرطان البحر في ماريلاند الأميركية ارتفع ثلاثة أضعاف، وينتظر مشترو السيارات الجديدة في بوخارست [رومانيا] ستة أشهر قبل استلامها، ويصطف مشترو أسرّة الأطفال في طوابير بهيوستن الأميركية، ويواجه تسليم الخضار تأخيرات في سيدني [أستراليا]، ويعاني إنتاج مشدّات الرقبة والركبة انخفاضاً في المكسيك.
لماذا؟ تكمن الإجابة في ثلاث كلمات هي الاضطراب والكفاءة والتعقيد.
ويعود الاضطراب إجمالاً إلى جائحة "كوفيد- 19". ويخلف ذلك التعطل أثراً متعدد الطبقات. مثلاً، ولّد التحول إلى التسليم المنزلي وظائف كثيرة لكنه قضى أيضاً على وظائف كثيرة أخرى. فخلال الإغلاقات المبكرة، تعرّضت سلسلة التوزيع الجديدة إلى ضغط كبير، وبات من الصعب الحصول على مجالات للتسليم. واستقر الوضع الآن، لكن استقراره تطلّب وقتاً. والآن تصيب صدمة مماثلة قطاع الشحن البحري. وبدلاً من نقص الطلب على البضائع خلال الإغلاقات، حلّت قفزة "الشراء الانتقامي"، إذ يسعى الناس إلى استعادة وتيرة الشراء الخاصة بهم [بالشكل الذي كانت عليه قبل الجائحة]. ولا يملك قطاع الشحن البحري القدرة على المواكبة، ما يؤدي ليس إلى مجرد تضاعف تكاليف الشحن البحري أربعة أضعاف، بل كذلك إلى تأخير في مواعيد التسليم.
وإلى جانب النواقص في البضائع هناك أيضاً نواقص في العمالة. وليست مشكلتنا على صعيد سائقي المركبات الثقيلة للبضائع سوى مثل واضح على ذلك، مع وجود أمثلة كثيرة أخرى. وأعتقد بأن ما حصل يتمثل في أن صدمة الجائحة جعلت أشخاصاً كثراً يشككون في خياراتهم المهنية. فنحن نطرح على أنفسنا سؤال "هل هذا هو ما نريد فعله خلال ما تبقى من حياتنا"؟ ونعي أننا إذا رغبنا بتحقيق تغيير، فإن الآن يشكّل الوقت المناسب لذلك، مع توافر عدد كبير من الوظائف. فقد ارتفع عدد الوظائف المتوافرة في المملكة المتحدة إلى أكثر من مليون وظيفة في أغسطس (آب) 2021، وذلك أعلى مستوى على الإطلاق سجله "مكتب الإحصاءات الوطنية"، ويفوق مستواه في زمن ما قبل كورونا بربع مليون وظيفة.
في المقابل، لا تدور المسألة حول الجائحة فحسب. فمن أسباب القفزة في أسعار الغاز، تضاؤل الاستثمار في منشآته خلال الأعوام الأخيرة. ولا شك في أن هدف الحكومة المتمثل في خفض انبعاثات الكربون جدير بالإعجاب وضروري، لكن هذه الخيارات البعيدة الأجل في مجال السياسات، زادت بالتأكيد مستوى الاضطراب في سوق الغاز. وقد يكون من شأن تلك المشلكة أنها ستبرز في أي حال، لأن العالم يعاني نقصاً في الغاز، لكن في الأجل القريب، زاد [الاضطراب] في الطين بلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكفاءة؟ من المؤكد أنها أمر جيد، فلماذا تشكل مشكلة؟ تتكون الفكرة هنا في أن السعي الصلب عالمياً إلى الكفاءة أنتج اقتصاداً يجب أن يحصل فيه كل شيء وفق ما هو مخطط له وإلا تطرأ نواقص. وهكذا تُصنَّع السيارات في الوقت المناسب بالضبط، إذ تصل المكونات قبل بضع ساعات من أن تدعو الحاجة إليها في مصانع التجميع، فلا توجد مخزونات غير ضرورية.
واستطراداً، فمن الأكفأ إدارة المصانع بهذه الطريقة، لكن كل شيء يجب أن يكون على ما يرام. وحين تطرأ مشكلة في تدفق رقاقات الكمبيوتر من شرق آسيا، بحسب ما يحصل الآن، على المصانع إغلاق أبوابها.
أو انظروا في محال السوبرماركت. إنها تُدَار على أساس أنها تتلقى تسليمات عدة في اليوم مع ارتفاع الطلب على بنود معينة وانخفاضه. وهذا جيد، إلى أن يقلّ عدد السائقين عن اللازم لإبقاء الرفوف مليئة. لقد صممنا اقتصاداً عالمياً كفوءاً في شكل مذهل، لكنه في الوقت ذاته غير متين جداً حين تحصل أمور غير متوقعة.
ومن ناحية أخرى، إنه اقتصاد معقد جداً. انظروا في العلامات الخاصة بالملابس التي ترتدونها. بالنسبة لي، أرتدي الآن سترة صوفية مصنوعة في الصين، وملابس داخلية مستوردة من بنغلاديش، وبنطلون قطني وارد من رومانيا وما إلى ذلك. في المقابل، إن كل ذلك بسيط حين يُقارَن بكيفية إنتاج البضائع المصنعة. ففي هاتف "آيفون" مكونات من 43 بلداً. ولا عجب أن تحصل تأخيرات حين تعاني سلسلة الإمداد العالمية من مشكلة ما.
إذاً، ماذا يحدث بعد ذلك ؟ سيعود الإنتاج إلى موطنه. ويحصل ذلك بالفعل. مثلاً، تصنع "أبل" الآن مزيداً من المكونات في الولايات المتحدة. وتوقعوا من المملكة المتحدة أن تصنع مزيداً من المنتجات وتزرع مزيداً من المحاصيل وتستورد بنوداً أقل. هناك بالطبع حدود عملية لذلك، لكن في كل مكان سيبرز اتجاه إلى الإنتاج المحلي. ولقد صيغت سلسلة من العبارات لوصف ذلك تشمل إعادة الإنتاج إلى الوطن، وإرجاع الإنتاج إلى الوطن، وتقريب الإنتاج من الوطن، وما إلى ذلك.
من جهة أخرى، ستظل الحاجة تدعو إلى استيراد بعض الأشياء، وسيتضمن الاتجاه في هذا الصدد الإكثار من عدد الموردين وبناء مخزونات. ويشكل ذلك عبارة عن حس سليم. ولو أن محطات الوقود احتفظت بمخزونات أكبر لما شرع البنزين والديزل ينفدان لديها الآن.
وأخيراً، ستكون الخيارات أكثر محدودية، إذ سيعني المزج بين سلاسل إمداد أبسط وبين الحاجة إلى الاحتفاظ بمخزونات أكبر، أننا لن نتوفر على المجموعة الواسعة من الخدمات والمنتجات التي نعتبرها الآن طبيعية، أو أننا حين نتوفر عليها سندفع أثماناً أعلى للحصول عليها.
في المقابل، لن نضطر إلى الاعتياد على الطوابير أمام محطات الوقود، أو الرفوف الفارغة في السوبرماركت، أو التعطلات في الإمدادات الكهربائية، مع ملاحظة أن تلك الأخيرة مصدر قلق حقيقي. واستطراداً، لا تستطيع أي حكومة البقاء في وضع كهذا. ويجب عدم السماح لها بذلك.
© The Independent