ربما يكون أفضل الطرق لكي يفهم عامة البريطانيين نتائج الانتخابات الألمانية هي تذكّر نتائج البرلمان المعلق [عجلته لا تدور] في ويستمنستر في عام 2017، وقد تكون نتائج عام 2010 ملائمة أكثر بعد. ففي تلك المرحلة، كان "برلماناً من الخاسرين" لكن بدا واضحاً أن حكومة العمال التي يرأسها غوردون براون خسرت تفويض الحكم، أو حتى ترؤس تحالف حاكم على الرغم من أن حزب المعارضة الرئيس لم يحصد أغلبية، مع أنه الحزب الأكبر. وكان "الرابحون" هم الأحزاب الأصغر حجماً، لا سيما الديمقراطيين الأحرار (بعد ارتفاع عابر لشعبية رئيسهم نيك كليغ). وما يمكن قوله فقط دون أي تناقض عن عام 2010 هو أن حزب العمال خسر.
إن أوجه الشبه غير دقيقة [بين الانتخابات البريطانية ونظيرتها الألمانية]، ولكن الوضع الذي يقابله في ألمانيا الآن هو الاعتراف بأن الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU/CSU) خسر الانتخابات فحصد أقل نسبة من التصويت في تاريخ الجمهورية الفيدرالية وخلال 16 عاماً في الحكم برئاسة أنغيلا ميركل التي حاولت تسليم دفة منصبها إلى أرمين لاشيت، وفشلت. وعاد الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" الذي تشارك السلطة فعلياً مع ميركل معظم العقدين السابقين، بعد أن كاد النسيان يطويه، ليتصدر الانتخابات بفارق بسيط ويكسب لقب الفائز الرسمي. وهو ما زعمه فعلياً رئيس هذا الحزب ووزير المالية في حكومة ميركل، أولاف شولتز. ومع ذلك، لم يكسب أي من الحزبين "الرئيسين" سوى ربع الأصوات تقريباً لكل منهما، وبالكاد استطاعا تسجيل أغلبية لتشكيل "تحالف كبير" ثان، بات الآن غير ممكن سياسياً.
وصل تشظي نظام الأحزاب الألماني إلى حد برزت معه الحاجة إلى [الجمع بين] ثلاثة أحزاب الآن لكسب أغلبية المقاعد في البرلمان الفيدرالي، البوندستاغ. حددت جميع الأحزاب موقفها الرافض من التعامل مع حزب اليمين المتطرف، "البديل من أجل ألمانيا"، مما يجعل الحسابات أكثر تعقيداً. ومن جهته، يشكل حزب اليسار المتطرف 'داي لينك'، وهو لاعب صغير آخر ورث شيوعيي ألمانيا الشرقية، حزباً هامشياً يفضل الآخرون كذلك عدم التعامل معه. وبالتالي أصبح حزب "الخضر" وحزب "الديمقراطيين الأحرار" (Free Democrats، وهو حزب وسطي نوعاً ما يؤيد ليبرالية السوق [رفع القيود عن حركته])، صاحبا النفوذ الآن لكن المشكلة هي أن هذين الحزبين الصغيرين لا يملكان كثيراً من القواسم المشتركة وسوف يطالب كل منهما الأحزاب الأكبر بأمور بالغة الاختلاف.
تتفاوت التركيبات الثلاثية المحتملة وتكثر، وتحمل أسماء متنوعة وملونة تبعاً لألوان كل حزب (الديمقراطي المسيحي=أسود، الاشتراكي الديمقراطي=أحمر، الديمقراطيون الأحرار=أصفر، الخضر=أخضر). وهي تشمل مزيجاً مثل "إشارة المرور الضوئية" (الاشتراكي الديمقراطي والديمقراطيون الأحرار والخضر)، و"علم جامايكا" (الديمقراطي المسيحي والديمقراطيون الأحرار والخضر)، و"علم كينيا" (الديمقراطي المسيحي والاشتراكي الديمقراطي والخضر). وفي الحقيقة، على الأغلب أن شولتز سيضطر للتوصل إلى اتفاق مع "الخضر" و"الديمقراطيين الأحرار"، لكن ذلك سيحتاج إلى وقت. سوف يسعون إلى الانتهاء من هذه العملية قبل عيد الميلاد، لكي لا تضطر ميركل، المستشارة المنتهية ولايتها، أن تدلي بخطاب جديد في رأس السنة.
لكن لا يلوح طيف أزمة [وشيكة] في ألمانيا. فعلى خلاف حكومة المملكة المتحدة وغيرها، لا يسهل الدستور الألماني أمر إجراء انتخابات أخرى، وهم يدركون بالتالي أنهم مضطرون للتوصل إلى صيغة معينة ولهذا تجري المحادثات بهدوء وثبات كما حدث طيلة أشهر بعد انتخابات عام 2017 التي أفرزت نتائج غير حاسمة. وفي هذه الأثناء، سوف تواصل ميركل، والإلفة بها قديمة [لا تحمل مخاطر المجهول]، بإدارة أكبر اقتصاد في أوروبا من دون أن تلقى معارضة تذكر (كانت لتفوز بولاية خامسة لو شاءت).
ومع ذلك، يحيط بحاضر ألمانيا ومستقبلها بعض الفراغ والضبابية. لا تستطيع ميركل، بعيداً عن موقعها الشخصي الواضح، أن تزعم أنها تتمتع بأي شرعية ديمقراطية كبيرة حالياً، لا سيما فيما تستعد فرنسا لترؤس الاتحاد الأوروبي وتتحضر غلاسكو لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة المناخي (كوب 26) في نوفمبر (تشرين الثاني). ومن حسن طالع كل الأطراف المعنية، يبدو أن ثمة توافقاً يبرز- على وجه التحديد بسبب أداء "الخضر" في الانتخابات- بشأن جدول الأعمال البيئي، وبعض الإقرار بأن الاقتصاد الألماني، وقطاع التصنيع الكبير فيه ويستخدم الفحم الحجري، أقذر [أكثر تلويثاً] مما يجب ويحتاج إلى عملية تنظيف [تخفيض الانبعاثات]. ومن الناحية الأخرى، ليست ميركل بموقع يسمح لها بإطلاق أي مبادرات ضخمة أو المخاطرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويا لها من مفارقة. معظم فترة ما بعد الحرب الثانية، سادت في ألمانيا سياسات حزبية مستقرة في ظل وجود نظام حزبين ونصف ("الديمقراطي المسيحي"، و"الاشتراكي الديمقراطي" و"الديمقراطيون الأحرار"). والآن أصبح نظامها الحزبي أقرب إلى مشهد ملون ومختلط، فيما يتحول نظام التمثيل النسبي إلى نوع من خيار الناخبين الأقرب إلى الطراز الإيطالي أو الهولندي، واضطراب محتمل. ولكن "الديمقراطي المسيحي" أمضى فترة طويلة جداً في قيادة حكومة تتولى زمام الحكم، في ظل وجود المستشارة نفسها. فقد تعاملت ميركل مثلاً، مع ثلاثة رؤساء جمهورية فرنسيين وأميركيين، وأربعة رؤساء وزراء بريطانيين وقد كانت سنداً [ركناً] ثابتاً للقارة إن لم نقل العالم أثناء فترات الاضطراب. وما نعلمه علم اليقين، هو أن هذا الأمر قد انتهى، بغض النظر عمن يتولى الحكم في برلين.
© The Independent