حينما حظرت "طالبان" الموسيقى قبل 25 عاماً، وشكّل مجرد وجود شريط كاسيت في حوزة شخص ما، سبباً لتعريضه حينذاك للخطر، جازف المطرب الشعبي الأفغاني الذي سنطلق عليه اسماً مستعاراً هو رضوان (57 عاماً)، بمواجهة السجن لفترة طويلة، أو تحمل عقوبة أسوأ، من خلال إقامة حفلات سرية في غرف خاصة [وراء الأبواب المغلقة].
وآنذاك، دأب على التوجه كلما استطاع إلى بيشاور، في شمال غربي باكستان، كي يقوم بالعمل الذي يحبه أكثر من كل عمل آخر، أي عزف الموسيقى في أماكن عامة أمام حشود كبيرة من الناس. وفي نهاية المطاف، بات بوسعه أن يفعل ذلك في بلاده بشكل علني بعد إجبار "طالبان" على الخروج من السلطة في أوائل العقد الأول من القرن الـ21.
وفي أعقاب استيلاء "طالبان" على السلطة، أخيراً، بعد ربع قرن من الزمان، لم يجد رضوان نفسه مجبراً على مجرد إحياء الحفلات سراً في غرف خاصة، بل على مغادرة بلاده نهائياً.
إذ لم تحظر "طالبان" الموسيقى حتى الآن رسمياً. وتزعم أنها تمثل نسخة أكثر اعتدالاً من المجموعة التي حكمت البلاد بقبضة من حديد في أواخر التسعينيات من القرن العشرين. في المقابل، نقل ذبيح الله مجاهد، الناطق باسم "طالبان"، إلى صحيفة " نيويورك تايمز" أخيراً، أنه لن يسمح بالموسيقى في الأماكن العامة باعتبارها "ممنوعة في الإسلام".
وأضاف بمهارة، "نأمل أن نتمكن من إقناع الناس بعدم الإتيان بمثل تلك الأشياء، بدلاً من أن نضغط عليهم".
وفي المقابل، يبلغني رضوان أنه بعد ما رأى أن رزقه قد انقطع، وحياته قد تنتهي أيضاً، تسلل عبر الحدود إلى باكستان، مع ابنه (22 عاماً)، الذي سنطلق عليه اسم فؤاد الذي استطاع على مدى سنوات أن يحظى بعدد كبير من المتابعين عبر الإنترنت.
وقد حاول الأب وابنه اللذان اضطرا إلى قصّ شعريهما وإطلاق لحيتهما بغية التنكر، الهرب أربع مرات حتى نجحا في محاولتهما الأخيرة.
وبمرارة، يخبر رضوان وقد تربع على الأرض بحيث تصالبت قدماه مع بعضهما بعضاً فيما يبدو ثوبه الذي لا تشوبه شائبة متناقضاً تماماً مع الغرف الحقيرة التي يشغلها الآن بالقرب من بيشاور، أن "الفنانين في هذه المنطقة مكروهون الآن".
ويضيف، "نعرف نحن الفنانين والموسيقيين والكتاب جميعاً إلى أين تتجه الأمور، وحياتنا في خطر".
ويتابع رضوان، "هناك الآلاف من الموسيقيين في أفغانستان ممن يريدون الخروج منها. تركنا وراءنا عديداً من الأصدقاء الذين يرغبون في العبور [إلى باكستان[، لكن لا يمكنهم أن يقولوا أي شيء لأنهم يعيشون في خوف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ذلك الصدد، يشار إلى أن أفغانستان التي لقبت منذ فترة طويلة بـ"مفترق طرق آسيا" بسبب موقعها البالغ الأهمية على طرق التجارة العالمية كـ"طريق الحرير"، تتميز بتاريخها الموسيقي الغني. وكذلك تعد موسيقاها إلى حد بعيد بوتقة تنصهر فيها أنماط الألحان الكلاسيكية الإيرانية والهندية.
وقد ازدهر المشهد الموسيقي في أفغانستان بعد سقوط "طالبان" في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع رواج موسيقى البوب والراب التي تضج بالحيوية، واستعمال الآلات الإلكترونية والإيقاعات في تناول مواضيع أكثر تقليدية.
وكذلك أدى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي إلى ذيوع صيت الموسيقيين الذين باتوا من المشاهير عالمياً. وهكذا، أنشأ فؤاد ما يشبه نادي المعجبين، وتعاون في سياق ذلك مع فنانات، الأمر الذي لن تسمح به "طالبان" على الإطلاق. وفي أوقات سابقة، دأب الأب والابن اللذان يعزفان على آلات الساكسفون والناي وأنواع الإيقاع والطبلة، على الأطلال في شكل منتظم على شاشة التلفزيون الأفغاني.
ولذا، يشير هذان الفنانان إلى أن المجتمع الدولي ينبغي أن يساعد الموسيقيين والفنانين الأفغان في الوصول إلى بر الأمان لأنهم سيستهدفون بصرف النظر، عما تروجه "طالبان". ويضيفان أن ذلك الأمر ضروري للغاية من أجل حماية الموسيقى الأفغانية الكلاسيكية والحديثة المعرضتين لخطر الاضمحلال والتلاشي.
وبحسب فؤاد، "نخشى أن تتعرض حياتنا إلى الخطر في أفغانستان، ولا يمكننا العودة"، موضحاً أنهما لا يملكان الوثائق القانونية اللازمة للبقاء في باكستان، بالتالي يشعران بالقلق من إجبارهما على العودة إلى ديارهما.
ويتابع فؤاد، "نحن نطلب المساعدة من العالم، وكذلك باكستان، كي نضفي شرعية علينا لأن الموسيقى محظورة في أفغانستان ونحن مستهدفان [من قبل "طالبان"].
وبصورة عامة، ينبغي على المؤسسات الثقافية الدولية أن تحاول التدخل من أجل مساعدة الموسيقيين، وقد فعلت مجموعة منها ذلك، إذ مورست ضغوط على حكومات مختلفة، منها الأميركية، كي تسرع إصدار تأشيرات الهجرة الخاصة بالموسيقيين، وأيضاً تأشيرات للعاملين الثقافيين وفناني الأداء، إضافة إلى ضمان عدم دراسة الطلبات ومعالجتها في بلد ثالث لأن ذلك يعتبر أمراً مستحيلاً، بل إنه خطير عملياً.
وتذكيراً، حظيت مجموعة "الفنون من أجل أفغانستان" بتأييد مئات المشاهير، من بينهم المصورة الأميركية سوزان ميسيلاس، وكذلك الفنانان هانك ويليس توماس ووليد رعد، ممن مهروا بتواقيعهم رسالة مفتوحة موجهة إلى حكومة الولايات المتحدة، تحثها على "بذل قصارى جهدها" في مساعدة الأفغان المعرضين للخطر، على أن تشمل هذه المساعدة "الفنانين والمخرجين وفناني الأداء والكتاب".
كذلك وجه أولئك الفنانون دعوة إلى المواطنين الأميركيين كي يتصلوا بنوابهم بغية ممارسة مزيد من الضغط على الحكومة أيضاً.
في ذلك الصدد، ذكرت صحيفة "لوس أنجليس تايمز" أن منظمة "فنانون متحركون" غير الحكومية التي تتخذ من "بلباو" الإسبانية مقراً لها وتهتم بإقامة روابط بين الفنانين الغربيين ونظرائهم الذين يعيشون في مناطق نزاع، تمارس ضغوطاً على الحكومة الإسبانية هدفها وضع الفنانين الأفغان والسينمائيين والأكاديميين على قوائم الإجلاء.
وكذلك وجهت اتهامات للحكومة البريطانية من جانب أكاديميين يتخذون من المملكة المتحدة مقراً لهم، بأنها كانت "مهملة" في هذا المجال، وقد تعرضت لضغوط مماثلة. واستكمالاً، دعت صحيفة "اندبندنت" الحكومة البريطانية إلى استقبال المزيد من اللاجئين الأفغان، وذلك في إطار حملة "مرحباً باللاجئين".
من جهة أخرى، تستطيع المؤسسات الثقافية البريطانية فعل المزيد من أجل المساعدة على توصيل جميع المعرضين للخطر إلى بر الأمان، وطمأنة أولئك الذين تمكنوا من الانتقال إلى بعض البلدان المجاورة لأفغانستان، على غرار الحال مع رضوان وفؤاد، بأنه سيكون في مقدورهم تأمين الوثائق القانونية المطلوبة في المكان الذي يسعون للحصول على لجوء فيه.
في إطار عام، ليس هنالك من يعرف عدد الموسيقيين والفنانين الذين باتوا في حاجة إلى المساعدة، أو من نجحوا في الفرار من أفغانستان. وسيشكل أولئك الفنانون حتماً جزءاً كبيراً من 35400 أفغاني تفيد الأمم المتحدة في تقرير جديد صدر هذا الأسبوع، أنهم وصلوا إلى بلدان مجاورة لأفغانستان منذ يناير (كانون الثاني) الماضي.
في ذلك السياق، يخلص رضوان فيما يرفع كفيه بشكل ينم عن اليأس، إلى أن "الأمر بسيط، الفنانون مدرجون على قائمة أعداء "طالبان"، ولن يسمحوا لنا بالعيش بسلام. نريد البقاء. ويجب أن يسمح لنا بالبقاء في أفغانستان أحراراً مثل الآخرين، لكننا نعلم أن هذا غير ممكن".
ويتابع، "إن الفن ضرورة للثقافة وللحياة. ويتمثل جل ما نريده في متابعة تأليف موسيقانا، والعيش بسلام وأمان".
© The Independent