بعد أكثر من 30 عاماً على سقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية ذات النمط السوفياتي في ألمانيا الشرقية، صوّت الناخبون في العاصمة الألمانية الموحدة بأغلبية ساحقة بلغت نسبتها 56 في المئة مقابل 39 في المئة في انتخابات الأحد لصالح إجراء استفتاء غير ملزم يدعو حكومة المدينة إلى التدخل ومصادرة الشقق السكنية المملوكة لشركات خاصة.
وصل الإحباط من التحسين ومن إيجارات السكن المتزايدة في مدينة تمتعت منذ زمن طويل بسمعة عالمية بفضل ما فيها من إيجارات منخفضة للغاية وأسلوب حياة بوهيمي، إلى ذروته في السنوات الأخيرة، ما أدى إلى إجراء أول محاولة فاشلة في العام الماضي لتجميد الزيادات بأنواعها كافة في إيجارات السكن لخمس سنوات، وإلى الاستفتاء الحالي الذي يدعو إلى البيع الإجباري لكل المساكن التي تعود ملكيتها إلى أصحاب عقارات لدى الواحد منهم ما يزيد على 3000 شقة تنتشر على نطاق واسع.
وقد أعلنت سلفاً أعلى محكمة ألمانية في كارلسروه في أبريل (نيسان) الماضي أن تجميد إيجارات السكن مخالف للدستور. ومن المرجح أن تنتهي آخر المحاولات الرامية إلى مصادرة ما يقدر بـ240 ألف شقة، تملكها ست من كبريات الشركات الخاصة، وتعادل 15 في المئة من كل الشقق المملوكة للقطاع الخاص في برلين، إلى نهاية مشابهة، بحسب ما يرى علماء القانون وبعض القادة السياسيين. يُذكر أن عدد سكان برلين 3.8 مليون نسمة، وهو إلى ازدياد بمعدل يتراوح بين 25 على 40 ألف نسمة سنوياً في الفترة الأخيرة، وفيها شقق سكنية يبلغ عددها الإجمالي مليوني شقة.
"نريد طرد المضاربين ووحوش العقارات من برلين." روزبة طاهري، أحد منظمي الاستفتاء
وأعربت فرانزيسكا غيفاي، وهي زعيمة الاشتراكيين الديمقراطيين في برلين، والذين خرجوا ظافرين من انتخابات ولاية المدينة يوم الأحد الماضي، عن معارضتها الشديدة لإجراء الاستفتاء ومطالبه المستوحاة من الاقتصاد المخطط [الذي يدار مركزياً على النمط الاشتراكي أو السوفياتي نقيض الاقتصاد الحر]. وجاء موقف غيافي هذا مع أنه من المتوقع أن تضم حكومة المدينة، التي ستشكلها من ممثلين عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر وحزب "لينك" اليساري المتطرف، ويتوقع أن تكون أقرب إلى اليسار، بعض من يؤيدون استعادة الشقق السكنية بالقوة بعد ما يزيد على عشرين عاماً من بيع المدينة التي كانت شبه مفلسة، حينذاك، هذه المساكن بأسعار بخسة لأنها لم تعد قادرة على تحمل تكاليف صيانتها وعمليات التجديد اللازمة لها.
وشهدت الانتخابات وصول قضية إيجارات السكن المرتفعة إلى موقع الصدارة بين القضايا المطروحة في الحملات الانتخابية، وأيضاً تجاوزتها من حيث الأهمية لدى الناخبين مسائل الأمن والتعليم والبيئة بأشواط. وكانت غيفاي (43 عاماً)، قد أوضحت قُبيل إجراء هذه الانتخابات أنه "إذا بدأت الدولة في مصادرة المساكن الخاصة، فإن ذلك سيكون نوعاً من تجاوز الخط الأحمر". وأضافت، "لا أريد أن أعيش في مدينة توجه إلى الخارج رسالة مفادها "هذا هو المكان الذي تتم فيه مصادرة الممتلكات". لقد ترعرعت في ألمانيا الشرقية، وجربت بشكل مباشر ما تعنيه المصادرة حقاً. لا أعتقد أن انتزاع الأملاك من أصحابها هو التوجه الصحيح الذي يجب أن نتبناه. نحن في حاجة لتوفير المزيد من المساكن غير الباهظة الثمن، من دون شك، كما يلزمنا أيضاً التحكم الفعال في الإيجارات، لكن مصادرة الأملاك ليست في عداد الأدوات التي نستعملها".
إلا أن غيفاي تعهدت باحترام الاستفتاء والسماح لخبراء قانونيين بمعاينة الاقتراح الذي يسميه بعض الذين يغلب عليهم الاتزان بين مؤيدي الاستفتاء ببساطة "التنشئة الاجتماعية" لكل المساكن المملوكة من قبل "الشركات الربحية" الكبيرة في برلين.
من ناحيتهم، شعر منظمو الاستفتاء ببهجة غامرة. وقال روزبة طاهري، الذي قام بإعداد العريضة، "كان هذا تفويضاً واضحاً، وقراراً واضحاً، بالمصادرة". وأضاف، "نريد أن نطرد المضاربين ووحوش العقارات من برلين. أتوقع أن أرى خريطة طريق واضحة في شأن ترجمة هذا الاستفتاء إلى أفعال من قبل الحكومة المقبلة".
وقد خرج عشرات الآلاف من المحتجين في تظاهرات مفعمة بالحماس سارت في كثير من الأحيان في شوارع المدينة خلال السنوات الأخيرة من أجل المطالبة بمزيد من الحماية ضد ارتفاع الإيجارات. ولطالما كان لدى برلين تقليد يدعو إلى الفخر يتمثل في دعم الدولة القوي للمساكن ذات التكلفة المنخفضة والخاصة بالطبقة العاملة، ولا سيما في النصف الشرقي من المدينة والشيوعي سابقاً، حيث كانت إيجارات السكن ميسورة بسهولة، ولم تكد عمليات الإخلاء تحصل على الإطلاق. وهذا هو سبب تفضيل نسبة عالية، أو نحو 85 في المئة من سكان برلين، استئجار الشقق التي يعيشون فيها بدلاً من تملكها.
ويميل أبناء برلين إلى عدم احترام أصحاب العقارات، ويرفضون أي فكرة تعتبر العقار "سلعة". نتيجة لذلك، لطالما تجنب المستثمرون العقاريون برلين حتى العقد الأخير، وانخفضت أسعار العقارات فعلياً في تسعينيات القرن الماضي وأوائل الحالي، وهي الفترة التي باعت فيها برلين 220 ألف شقة من أصل الـ336 ألف وحدة سكنية اجتماعية مدعومة مخصصة للإيجار ]تدفع الحكومة عملياً جزءاً من الإيجار لتخفيف العبء على أصحاب الدخل المحدود[ حين انخفضت الأسعار.
وقدرت حكومة ولاية مدينة برلين التي تعاني ضائقة مالية أن تكلفة استعادة 220 إلى 240 ألف شقة مملوكة حالياً للقطاع الخاص، قد تتراوح بين 29 و36 مليار يورو (33.57 و41.67 دولار). غير أن أنصار الاستفتاء ردوا مؤكدين أن التكلفة الحقيقية لن تزيد على ثلث المبلغ الذي ذكرته حكومة الولاية. ويجادل هؤلاء بأن الدستور يسمح للدولة بأن "تضفي طابعاً اجتماعياً" على الإسكان إذا لزم الأمر، ويمكنها بالتالي أن تجبر المالكين على إعادة بيع الشقق إلى المدينة بأسعار أدنى من سعرها السوقي.
ويشير منتقدو المشروع إلى أن شبح المصادرة القسرية لممتلكات خاصة في برلين من شأنه أن يخنق قطاع إنشاء المساكن الجديدة، ويخيف أيضاً المستثمرين القادمين من أنحاء المانيا ومن حول العالم، وهو ما بدأ يحصل فعلاً منذ العام الماضي مع قانون تجميد زيادات الإيجارات الفاشل. ويرى هؤلاء أن المصادرة ستؤدي إلى تفاقم النقص في المساكن.
"إنه باهظ بشكل مفرط، وصعب من الناحية القانونية، وسيكون تنفيذه من الصعوبة بمكان، وهو ببساطة خاطئ." رائد صالح، زعيم كتلة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مجلس المدينة
ويلفت النقاد أيضاً إلى أن مليارات اليورو المطلوبة يمكن أن يجري إنفاقها بشكل حكيم على بناء مساكن جديدة قليلة التكلفة في برلين للمساعدة في تخفيف الضغط الذي سبب ارتفاع الإيجارات بشكل حاد في السنوات الأخيرة. وقالوا إن التمويل المطلوب لاستعادة 240 ألفاً لن يضيف شقة واحدة على المساكن المتوفرة حالياً في برلين. يُذكر أن إيجارات الشقق المملوكة للقطاع الخاص تبقى عادةً أقل من إيجارات السوق، وذلك بناءً على تعليمات حكومة المدينة وإرشاداتها.
ووصف رائد صالح، زعيم كتلة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في مجلس المدينة، الاستفتاء بأنه "باهظ بشكل مفرط، وصعب من الناحية القانونية، وسيكون تنفيذه من الصعوبة بمكان، وهو ببساطة خاطئ". وأضاف، "نحن نعارض المصادرة"، لكنه أردف موضحاً أنه مع ذلك، ونظراً إلى أن 56 في المئة من الناخبين قد دعموا الاستفتاء فإن الحكومة ستدرس الفكرة دراسة دقيقة.
وقد ارتفع متوسط الإيجار في برلين من 6.65 يورو (7.70 دولار) للمتر المربع في عام 2011 إلى 10.49 يورو (12.149 دولار) في عام 2021. ويمكن التمثيل على ذلك عملياً بارتفاع ثمن شقة متواضعة مؤلفة من غرفتين بمساحة تبلغ 60 متراً مربعاً (أو 650 قدماً مربعة) من 400 يورو (463.17 دولار) قبل عشر سنوات إلى 630 يورو (729.50 دولار) في هذه الأيام، وذلك بحسب الأرقام التي يوردها مكتب الإحصاء. وقالت بعض شركات الاستشارات العقارية الخاصة إن عقود الإيجار لشقق سكنية في برلين قد زادت بنسبة تصل إلى 20 في المئة سنوياً، على الرغم من أن متوسط الزيادة الاجمالية هو في الواقع أقل بكثير، لأن التكاليف في العديد من عقود الإيجار الحالية نادراً ما يجري رفعها على الإطلاق.
يتمتع كثير من سكان برلين ممن لديهم عقود إيجار تعود إلى ما قبل عام 2010، بالحماية من وطأة هذه الزيادات الأخيرة في الإيجارات. وغالباً ما يدفع هؤلاء مجرد 300 إلى 400 يورو للشقق ذات الحجم المتواضع التي تضم غرفتي نوم، والكائنة في وسط المدينة، بينما تعادل قيمة المبالغ المطلوبة في عقود الإيجار الجديدة للشقق ذاتها في الغالب ضعف ذلك.
واعتبر غونار شوبليوس، وهو كاتب عمود في صحيفة "بي زد" ذات القطع الصغير، أن "الاستفتاء اجتذب مؤيدين من خارج الطيف اليساري المتطرف لأن حججهم اتبعت منطقاً بسيطاً: يتحمل كبار مالكي العقارات الخاصة مسؤولية ارتفاع الإيجارات ونقص المساكن، بالتالي يجب إيقافهم عند حدهم... وليس من المنطقي على الإطلاق مصادرة تلك الشقق".
© The Independent