في الإحصاءات أولاً، ودائماً في حالات كهذه، لا بد من الإحصاءات وأرقامها قبل أي شيء آخر، وهي تقول لنا مثلاً إن ما لا يقل عن 30 ألف زائر يجهدون يومياً لزيارة ما يسمى بـ"قاعة الدول" في متحف اللوفر الباريسي، لمجرد أن يشاهدوا تلك اللوحة التي يمكن اعتبارها الأشهر في تاريخ الفنون التشكيلية "الموناليزا"، وأن العام 2018 وحده شهد تدفق أكثر من 10 ملايين زائر على "اللوفر"، أعلن 80 في المئة منهم أنهم هنا لمجرد أن يزوروا لوحة ليوناردو دافنشي هذه، وأن الحوانيت الملحقة بالمتحف نفسه شهدت في ذلك العام ما يدل على أن 45 في المئة من المبيعات تعلقت بأقلام ومراوح ومنسوخات وشالات وأقداح وصحون، وغير ذلك من البضائع التي تصور تلك اللوحة نفسها أو تتحدث عنها، ولا شك في أن الأرقام فصيحة حتى من دون أن يصار إلى تحليلها.
أشهر "المجهولين"
الأرقام تقول كذلك إن العدد الأكبر من زائري "الموناليزا" أو عارفيها لا يعرفون شيئاً عن مبدعها سوى اسمه وربما أنه إيطالي آخر، ومنهم من يعتقد في الأزمنة الأقرب إلينا كثيراً أنه شخصية في رواية الكاتب المعاصر الرائج دان براون صاحب "شيفرة دافنشي"، فيما يعرف آخرون أن الرسام كان عبقرياً ورسم لوحات أخرى عدة، لكنهم يقرون بأنهم نادراً ما تعرفوا عليها تعرفهم على "موناليزا"، حتى وإن كان جلهم يعرف أن للوحة نفسها اسماً ثانياً هو "الجوكوندا".
ولنكتف هنا بهذه الإحصاءات والمعلومات العامة وننتقل إلى مستوى ثان من الحديث، مستوى لا بد من أن ينطلق دائماً من تأكيد فحواه أن ليوناردو دافنشي ليس فقط الرسام الذي تعتقدون، وأن من الصعب دائماً، وعلى الرغم من شهرة "الموناليزا" المطلقة، اعتبارها أهم لوحاته وأجملها، حتى ولو خالفنا هنا كل تلك الآراء الرائجة.
أما ما يمكن أن نبدأ به حديثنا هنا فهو أن مناسبة الذكرى المئوية الخامسة لرحيل دافنشي كانت طوال العام 2019 فرصة في فرنسا وإيطاليا وكذلك في أنحاء عدة من العالم للتعرف على الوجوه المتعددة الأخرى لهذا المبدع الذي ربما يكون فريداً من نوعه في تاريخ العالم، هو الذي كان رساماً عبقرياً واستثنائياً علم منذ طفولته كيف يعلم نفسه قبل انتمائه إلى محترف أستاذه فيروكيو، لكنه سيصبح لاحقاً، ومن دون أي إعداد دراسي انطلاقاً من فطرته وحدها، مهندساً ومبتكر أسلحة ومنظراً في تاريخ الفن، ونحاتاً ومخترعاً وعالم تشريح، ودارساً للجسم الإنساني ومكتشفاً لبعض أسراره التي كانت غامضة من قبله.
الرسم أولاً وأخيراً
لقد كان دافنشي ذلك كله على الرغم من طفولته البائسة التي لم تتح له أي فرص ليتعلم ولو نزراً يسيراً مما كان قد بدأ يحمل في زمنه، اسم العلوم الإنسانية. ومع ذلك قد تبدو كل اختراعاته المبكرة عادية اليوم، وقد تبدو منحوتاته ضئيلة الأهمية أمام ما أنجزه مجايله ومنافسه ميكائيل أنجلو في هذا المجال، بل سيكون ثمة دائماً من يعلي من شأن سقيفة كنيسة السستين الفاتيكانية التي تحمل تلك اللوحة المدهشة التي صور فيها ميكائيل أنجلو حكاية الخليقة، على حساب معظم إنجازات دافنشي الفنية، ولن يكون ذلك ظلماً لدافنشي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أنه ليس في مقدور أحد أن يتجاوز حقيقة فنية ساطعة باتت من المسلمات في تاريخ الفن، وربما منذ الأحكام الصائبة التي أطلقها جورجيو فازاري الذي كتب أول سيرة حياة لدافنشي فاعتمدت وبنى اللاحقون عليها، حقيقة تقول بكل بساطة إننا حتى لو وضعنا لوحة "موناليزا" جانباً سيتبقى لنا، من بين نحو دزينتين من لوحات خلفها دافنشي بعد حياة متنقلة من مكان إلى آخر، نحو 10 لوحات يمكن اعتبارها اللوحات الـ 10 الأعظم في تاريخ الفن الغربي، وليس فقط بفضل قيمتها الذاتية بل حتى التأثيرية، إذ إن مؤرخي الفن يعتبرون دائماً أن تلك اللوحات تشكل في حد ذاتها مدرسة فنية ناهيك عن صياغتها قوانين ثابتة للجمال، ولا يعنون بهذا قوانين تطاول الجمال الإنساني وحسب، بل جمال كل شيء: الطبيعة والعمران والعلاقات بين البشر والحياة الاجتماعية والمشاهد الدينية وما إلى ذلك.
أعمال خالدة
وحسبنا هنا أن نحاول في هذه العجالة تعداد بعض هذه الأعمال التي لا بد من الإشارة أولاً أن العدد الأكبر من نقاد الفن ومؤرخيه يفضلون معظمها على "موناليزا"، ففي المقام الأول هناك تلك اللوحة المعلقة في "ناشنال غاليري أوف آرت" في واشنطن وتدعى "بورتريه جينيفرا ديل بنشي"، وفيها رسم ذلك الفنان الذي كان يقول "حتى في الرسم يمكن لفني أن يعادل أي فن كان" ملامح فتاة غامضة ساحرة من المستحيل لعاقل أن يدعي قدرة "موناليزا" على منافستها، وإثر ذلك لدينا لوحة "البشارة" المعلقة في متحف "الأوفيتشي" في فلورنسا، وتنم عن ترتيب مكاني مدهش، وكأنه "ميزانسين" مسرحي لمشهد بشارة الملاك للسيدة العذراء، ويقيناً أن ما من فنان آخر من عصر النهضة عرف كيف يوصل هذا المشهد إلى الذروة التي وصلت لدى دافنشي، وربما تأتي بعد هذه اللوحة "النهضوية" بامتياز نسختان لمشهد واحد للوحة تحمل عنوان "عذراء الصخور"، أولاهما رسمت بين 1483 – 1484 والثانية بين 1490 -1508، والحال أن النقاد حين يتحدثون عن هذه اللوحة يذكرون فكرة الحرية، لا سيما في التعبير الفني كما في الدلالة التي توخاها الفنان من تعبيره هذا، إذ إن من الواضح أنه إنما أراد اختصار معنى المسيحية وعلاقة السيدة العذراء بها وبجذورها من خلال المشهد الذي توجد أولى لوحتيه معلقة في "اللوفر" الباريسي، فيما الثانية معلقة في "ناشينال غاليري" في لندن، وتعتبر كلتا اللوحتين فخراً وكنزاً في المتحف المعلقة فيه.
وصولاً إلى العشاء الأخير
أما ما يلي هذا المشهد المزدوج، ودائماً في تفضيل المؤرخين، فواحدة من أكثر لوحات دافنشي خصوصية وجمالاً هي تلك التي تمثل السيدة سيسيليا غاليراني التي كانت المحظية المفضلة لحاكم ميلانو لودو فيكو سفورزا، وأبدع ليوناردو في رسمها مضفياً على سماتها جمالاً وكبرياء، نادراً ما تمكن فنان من أن يرسم به بورتريه سيدة حقيقية، ناهيك برسمه ذلك الحيوان الطفل بين يديها تحنو عليها ويبادلها هو حنانها بهدوء ودعة.
غير أن سمات الغموض الأكثر بهاء التي تتمتع بها لوحة من لوحات الفن النهضوي، ومن المستحيل أن تضاهيها أي سمات عبر عنها الفن في لوحة أخرى، فمن نصيب تلك اللوحة الصغيرة الحجم (63 سنتيمتراً ارتفاعاً مقابل 43 سنتيمتراً عرضاً) والمعلقة في "اللوفر" بدورها، وتعرف بـ"بورتريه امرأة"، وهي لوحة رسمها ليوناردو خلال أول زيارة قام بها إلى ميلانو، ويبدو واضحاً أنه أراد من خلالها، وبحسب تعبير فازاري، أن "يصور حركات الروح الداخلية" من خلال تصوير حركة الجسد الماثلة بقوة، إنما من "دون أن تكون واضحة كل الوضوح"، علماً بأن هذه المرأة وتدعى لوكريزيا كريفالي كانت بدورها من محظيات سفورزا نفسه، تتمتع بنظرة ساحرة كانت أكثر ما فتن ليوناردو بها، وهو الذي قال عن رسمها إياها إن "العين هي مفتاح الروح ونافذتها"، ولا بد من أن نذكر هنا أخيراً بين لوحات هذه السلسلة التي من غرائب الأمور أن النقاد والمؤرخين يستنكفون عن اعتبار "موناليزا" واحدة منها، تلك اللوحة الأعظم والأشهر التي رسمها ليوناردو بين 1495 و1497 بعنوان "العشاء الأخير"، ورممت قبل سنوات فاستعادت بهاءها وقوتها لتعتبر واحدة من أعظم اللوحات التي حققها فنان نهضوي، إيطالي أو غير إيطالي عن ذلك العشاء الذي جمع السيد المسيح بتلامذته، ومن بينهم يوضاس "الخائن" والسيدة العذراء التي نادراً ما ضمها فنان إلى لوحة تمثل المناسبة، فانتهى الأمر حينها بإلقاء القبض على صاحب العشاء بخيانة من يوضاس.