ينتمي المخرج الأميركي من أصل لبناني، تيرانس مالك، إلى صنف نادر من السينمائيين المقلّين، الذين يستغرق إنجاز كل واحد من أفلامهم سنوات طويلة تصل أحياناً إلى عقدين من الزمن. عمله الأول "النزهة المتوحشة"، نال جائزة "المحارة الذهبية" في مهرجان سان سيباستيان الإسباني، وكرّسه على الفور في مصاف كبار الفن السابع. لكن اختفى بعد ذلك طوال خمس سنوات، على الرغم من العروض التي انهالت عليه من كل حدب وصوب. في العام 1978، عاد بفيلمه الأشهر "حصاد السماء"، الذي خطف جائزة الإخراج في مهرجان كان. ثم عاد واختفى طوال عشرين سنة كاملة قضاها في تأليف فيلم موسوعي كان يطمح إلى أن يسائل فيه أسرار الكون وماهية الوجود. إلا أنه قطع خلوته على نحو مفاجئ، في العام 1998، وطرح ذلك المشروع الضخم جانباً، ليقدم فيلمه الروائي الثالث "الخط الأحمر"، الذي أحرز جائزة "الدب الذهبي" في مهرجان برلين. ثم انقطع عن السينما مجدداً، طوال سبع سنوات، قبل أن يعود بفليمه الرابع "العالم الجديد"، الذي يحظى بالحفاوة النقدية التي كان يطمح إليها. ما دفعه إلى استعادة مشروع فيلمه الموسوعي الذي صارع لتأليفه طوال إحدى عشرة سنة (1978-1989). بعد خمس سنوات، أي في العام 2010، أعلن رسمياً أنه نجح أخيراً في استكمال الفيلم، وقرّر عرضه في مهرجان كان، تحت عنوان "شجرة الحياة". لكنه عاد وسحبه في آخر لحظة، وانكب على إعادة مونتاجه طوال عام كامل، ليقدّمه في مهرجان كان، خلال العام التالي. وكان ذلك العرض حدثاً فريداً من نوعه، سيبقى ماثلاً في ذاكرة عشاق السينما، وبخاصة أن الفيلم، على الرغم من السجالات النقدية الذي أثارها، تُوّج بـ "السعفة الذهبية".
وعلى الرغم من فترات الانقطاع الطويلة التي طبعت مساره السينمائي، حيث لم يقدّم سوى خمسة أفلام على مدى أربعة عقود من الزمن، إلا أن تيرانس مالك يصنّف ضمن أبرز السينمائيين المجدّدين، إذ إن لمسته الفنية المغايرة أحدثت ثورة في مجال السرد السينمائي. فقد طرح جانباً الحبكة السينمائية القائمة على أساس التنامي الخطّي للأحداث، ثم ألغى السيناريو والحوار بمفهوميهما التقليديين، مطلقاً العنان للارتجال والعفوية خلال التصوير، ليعود بعد ذلك إلى كتابة أفلامه بصرياً خلال عملية المونتاج التي يعتبرها المرحلة الأهم في العمل السينمائي، إذ يقوم بإعادة تأليف القصة وتوليفها على هواه. ما يستغرق منه، في كل مرة ما بين عام وثلاثة أعوام.
عمله الجديد "حياة خفيّة"، الذي ينافس هذه السنة على السعفة الذهبية، استُكمل تصويره رسمياً في خريف العام 2016. لكن المخرج استغرق عامين ونصف العام لاستكمال مونتاجه. وجاءت النتيجة مبهرة، سواء على الصعيد البصري أو على مستوى الرؤية الإخراجية. فقد انطلق مالك هنا من قصة واقعية لشاب نمساوي يُجنّد عنوة في القوات النازية، فيرفض أداء الخدمة، على الرغم من معرفته أنه سيُعدم بسبب موقفه. وعلى خلفية هذه القصة، اتخذ المخرج من الريف النمساوي، الذي يتحدّر منه هذا الجندي، معادلاً موضوعياً لقيم الخير والتسامح، التي يعتقد بأنها راسخة بالسليقة في الطبع البشري، وأن الحضارة الغربية هي التي شوّهت هذا الطبع وزرعت فيه بذور الشر. وهي الفكرة التي تشكل لازمة في أعماله كافة، وبشكل أخص في رائعتَيه "حصاد السماء" و"شجرة الحياة".
ومع العلم أن الفيلم طويل (أكثر من 3 ساعات) وشاق للغاية، إذ يتطلب من المشاهد جهداً بصرياً وفكرياً، إلا أن الجمهور في كان وقف في طوابير طويلة لمتابعة كل عروض الفيلم، الرسمية منها والاستدراكية. كما حظيَ الفيلم بحفاوة نقدية كبيرة تخوّل صاحبه نيل واحدة من جوائز المهرجان البارزة، ولمَ لا الانضمام إلى النادي الضيّق لعمالقة السينما من "أصحاب السعفتَين".