طرأ على مسألة الإنسان الفلسفية تحول جليل بفضل أعمال الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس شيلر (1874-1928) الذي أسهم إسهاماً بارزاً في نشوء علم جديد اسمه الأنثروبولوجيا الفلسفية، إذ كان له تأثير حاسم في تطور فنومنولوجيا هوسرل وإغنائها، وأكسب حقلَ علم اجتماع المعرفة مكانة بارزة وتوجهاً جديداً. حرمت الفلسفة من إنجاز مشروع الأنثروبولوجيا هذا من جراء وفاة شيلر المبكرة التي أتت كالصاعقة على أهله ومحبيه وطلابه في إثر نزيف دماغي حاد. من فرادة تأملاته أنه حاول الجمع بين الفنومنولوجيا التي ساعد في تطويرها والتي تقول بصدارة الوعي الذاتي في تأويل مقام العالم، وعلم الاجتماع الذي يحرص على إدراك العالم إدراكاً موضوعيا مجرداً من أحاسيس الذاتية وانفعالاتها وانطباعاتها. ومن ثم، يمكن القول إنه استثمر معارفه في حقول فلسفية ثلاثة: الفنومنولوجيا والأنثروبولوجيا والميتافيزيقا.
من جراء أزمة الإنسان في الحداثة، يعلن شيلر، في كتابه الفريد "مكانة الإنسان في الكون" (Die Stellung des Menschen im Kosmos)، أن الفكر يجب عليه أن يواجه النظريات القائلة بالانحطاط الحضاري الكلي، كتلك التي يعتمدها فيلسوف الطبيعة وعالم النفس الألماني لودفيغ كلاغس (1872-1956) والفيلسوف الألماني منظر الخطيئة اليهودية تيودور لسينغ (1872-1933)، والنظريات المنادية بالإلحاد المناضل الذي يناصره نيتشه (1844-1900) والفيلسوف الألماني الكانطي نيقولاي هارتمان (1882-1950) والفيلسوف الألماني ديتريش هاينريش كرلر (1882-1921). لا شك في أن أزمة الثقافة في مطلع القرن العشرين أوحت لشيلر باعتلان تحول خطير في مسألة الإنسان. أصل المشكلة المأزق الذي أفضت إليه العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية حين تخلت عن معنى التسامي، واستسلمت لتجربة النسبية المعرفية والتشكيك في صلاحية القانون الأخلاقي العام وجدارته الكونية. من جراء ذلك كله، انتصب الإنسان معبوداً وحيداً تخر أمامه جميع وقائع الوجود.
الروح المتسامية
سعى شيلر إلى مناهضة التأليه الإنساني المفرط هذا، مجتهداً في ترميم صورة الروح في الثقافة الإنسانية وغرسها في تربة الميتافيزيقا المتسامية. لذلك استحضر فكر الإنسية الحديثة، لا سيما إنسية كانط، ليبين أن الروح غير النفس، وأن القيَم ليست مقترنة باختبارات الإنسان التاريخية، بل تتجاوز الذات الفردية في تطلبها الكوني الشامل. واستعان ببرغسون الذي يخصص للحدس مقاماً مميزاً، جاعلاً المعرفة تتجاوز حدود الاختبار الحسي المحض. وما لبث أن استثمر مقولة اللغة، بحسب التصور الذي أنشأه الفيلسوف وعالم الألسنيات البروسي فيلهلم فون هومبولت (1767-1835)، فعاين فيها أسمى ما يميز مقام الإنسان بوصفها ظاهرة أصلية (Ürphänomen). غير أن الصفة الأنثروبولوجية الأبرز يعثر عليها شيلر في الكيان الإنساني العاجز (Mängelwesen)، إذ يعتقد أن الإنسان "خطوة ناقصة" خطتها الحياة على غير هدىً. إنه الحيوان السقيم الذي يروم أن يعوض عن عجزه الكياني. ومن ثم، فإنه يستطيع أن يتحول من مقام المأزق في الطبيعة إلى مقام الانعتاق من الطبيعة، وذلك على قدر ما يتطلع إلى الآفاق الإلهية السامية.
استحضر شيلر قول غوته الذي كان يتوجس من فكرة التطور البشري ويسترهب أن يتحول الإنسان إلى حارس مريض يسهر على نظيره الإنسان سهر الارتباك الذي يهدد مصير البشر. منذ أن عرفت الفلسفة اليونانية الإنسان حيواناً عاقلاً، وحددته المسيحية صورة عن الله (imago dei)، ما فتئ الفكر يخبط خبط عشواء حتى استحال العثور على التعريف الأنثروبولوجي الأنسب. يبقى السبيل الوحيد، في نظر شيلر، أن يَظهر الإنسان في صورة المجهول أو موضع العبور الدائم، لا تجري عليه أحكام التعريفات العقلانية، ولا تصح فيه سوى علاقته العمودية بالألوهية المتسامية.
أنثروبوجيا التميز الإنساني
يعرف شيلر الإنسان كائناً يتجسد فيه الروح المتسامي الذي يتساكن والنفس المتحققة في الأنا والجسد الخاص. أما مفهوم الشخص، فينطوي على وحدة عميقة تضم إليها جميع أفعال الإنسان. غير أن الإشكال ينشأ من صعوبة تحويل الشخص إلى شيء ملموس، أو موضوع حسي، أو غرض مادي. ذلك بأن الشخص الإنساني يتصف بصفة المطلق الذي يتجاوز كل التسويغات السببية، والانتسابات المكانية، والانخراطات الزمانية. إنه كتلة حية من المشاعر تتصل اتصالاً وثيقاً بالإنسان الآخر المنتصب أمامنا وبالعالم المنبسط في مدانا المنظور. في هذا السياق، يتصور شيلر الله شخصاً مطلقاً يتجاوز كل محدودية تاريخية، ولو أنه يلاقي العالم في علاقة إرادية مقصودة. لذلك يصعب علينا أن ندنو من الله دنوناً من موضوع معرفي ذهني محض. لا سبيل إلى معرفة الله، أو بالأحرى إلى الاعتراف به، إلا من خلال استقباله عطية ذاتية يمنحها من صميم كيانه حتى تتجلى بها لنا وللعالم محبة الله (amare in Deo) ورغبته في مشاركتنا في معاناة الزمان.
ومن ثم، فإن الأنثروبولوجيا الفلسفية التي ينادي بها شيلر لا تفصل في الوجود التاريخي بين الحياة (Leben) والروح (Geist). ذلك أن التاريخ يستضيف علاقة استثنائية بين الحب الروحي والانصهارية الجنسية الحيوية (Einsfühlung)، تذكر بالعلاقة المبدعة بين المحبة الباذلة (agapè) والهوى الإروسي (éros). لذلك يستجلي شيلر في عمق البنيان الإنساني المنغرس في تربة الحياة الملكات الحية الناشطة، فيعاين فيها قوى متوقدة من الجدارة الفاعلة والتمكين التهذيبي، ويرتبها بحسب ارتقائها الانفتاحي: الدفق العاطفي، فالغريزة، فالذاكرة التشاركية، فالذكاء العملي.
مفهوم الشخص
بالاستناد إلى مفهوم الشخص الإنساني، يجتهد شيلر في نحت مفهوم الشخص المشترك أو الجماعي (Gesamtperson) الذي ينبثق من ائتلاف الأشخاص الأفراد والتئامهم في محفل أرحب يفصح عنه كيان الأمة على سبيل المثال. فالأمة أكبر من مجموع الأفراد المنضوين إليها، إذ إنها تتكون من رباط اجتماعي وثيق يعززه اختبار إنساني مشترك يحولها إلى شخص جماعي واحد فريد يتحلى بوعي خاص وقوام مستقل ينموان وينتعشان بمعزل عن غياب الأفراد وانقضاء أجلهم. ومن ثم، فإن قيمة الشخص الجماعي تتخطى، في نظر شيلر، قيمة الأشخاص الذين يؤلفونها، وتنبسط انبساطاً زمانياً يخضع لأحكام وقواعد مستخرجة من ناموس الحدث التاريخي.
في خضم هذا الانبساط يظهر الإنسان الفريد الحاوي (Allmensch) الذي يستجمع كل هيئات الإنسان التاريخية المتعاقبة، ابتداء من الإنسان العارف (sapiens)، والإنسان الصانع (faber)، مروراً بالإنسان المتدين (religiosus)، انتهاءً بالإنسان المنكفئ عن الحياة والإنسان الأعلى (Übermensch). يتميز الإنسان الحاوي بقدرته على التوفيق بين الروح والاندفاع الكياني الدفين، وذلك بفضل قدرة الطاقة الحيوية العمياء التي تستوطن كيان الإنسان. في تأملاته الأخيرة، أخذ شيلر يدرك المادة عينها في هيئة الصورة التي ترتسم فيها الطاقة الحيوية المتدفقة من أعماق الكيان، بحيث إن الله يضحى حينئذ في حال التطور المطرد المقترن بمصائر هذه الطاقة وباستعداد الإنسان التعاوني. من صميم التفاعل الحي بين الروح والاندفاع الحي تنبثق الألوهية ملتزمة حقيقة الإنسان الساعي إلى تحقيق ذاته في معترك الوصال العشقي بين الوجدانات المضطرمة فكراً وحباً وإبداعاً.
فلسفة الأخلاق
ينفرد شيلر باعتنائه المرهف بمسألة القيم، وقد تناولها في موضوعيتها الواقعية التي يعارض بها تصور كانط الصوري المجرد المبني على مسلمات الذات الإنسانية العارفة. فالأخلاق تتسم بانتسابها إلى الانفعالية العاطفية الذاتية الساعية إلى تجاوز تناقضات الرغبة الإنسانية. لذلك يستطيع المرء أن يصنف القيم الإنسانية بحسب مراتبها، مبتدئاً بالأدنى ومنتهياً بالأعلى. تعنى القيم أولاً باللذيذ والمفيد، ومن ثم بالضروري والحيوي، وتنتهي بالروحي والمقدس. أما ما يسوغ انتهاج هذه التراتبية في القيم، فعامل الشعور الوجداني الذي يترجح بين المحبة والبغض، بين الخضوغ والمفاضلة، بين الانطواء والانفتاح.
في هذا السياق، يضطلع مفهوم الشخص الإنساني بمقام أخلاقي أساسي، إذ إن تراتبية القيم تتعلق بإيثاراته الأصلية ومفاضلاته الوجودية. على غرار برغسون الذي يستلهم صورة المثال الأخلاقي الأعلى، يستحضر شيلر النماذج التي تجسد مثال القيم الشخصية، ومنها البطل والعبقري والقديس والشخص الاستثنائي الذي يلهم الحضارة الإنسانية، وفنان الملذات الفكرية الرفيعة. هؤلاء جميعهم يجسدون القيم، لا بل يبتكرون قيماً جديدة تحتاج إليها المجتمعات المتطورة على إيقاع التحديات الزمنية المستجدة.
الحاجة الكونية إلى الإنسان
من الواضح أن شيلر لم يشأ أن يستعيد صورة الإنسان في الأدبيات الكلاسيكية التي تدافع عن نظرية الروح الكامن في تضاعيف الكيان الإنساني، وفي اعتقاده أنها صورة ناقصة تستثير ردوداً قاسية أبلغها نقض فرويد الذي يعري هذا الكيان من كل بعد روحي. لذلك يقترح علينا أن نتناول الإنسان في انفتاح كيانه، من غير أن نغلق عليه في جوهر ثابت. عوضاً عن تصويره كائناً باحثاً عن التسامي الإلهي، محتاجاً إلى الألوهية، وحاجاً إليها في مسرى وجوده، ينبغي القول إن الله أضحى الكائن الذي يحتاج إلى الإنسان من أجل أن يتجلى في بهاء جوهره. بذلك يرفض شيلر إلحاد نيتشه المشيئي، إذ إن العالم ينطوي على معنى رفيع لا ينعقد ويتحقق إلا بإسهام فعل الالتزام الإنساني. بيد أن مثل هذا الإلحاد يذكرنا بمسؤولية الإنسان الأساسية في القرار الوجودي وفي المصير التاريخي. من صلب مقام الإنسان أن يضحى موضع القرار الإلهي. في مصنع حريته الوجودية، يحيي الروح ويروحن الحياة. في قراره الوجودي الحكيم، يتحول إلى أصل أخلاقي ذاتي. لذلك لا بد من توبة عميقة في كيان الإنسان الأعلى (Übermensch) حتى يصبح الإنسان الحاوي (Allmensch) الذي يستطيع وحده أن يقيم التوازن الدقيق بين متطلبات الحياة ومقتضيات الروح. إذا صح أن العقلانية الحديثة انحرفت انحرافاً خطيراً في الأنظمة القومية الاستبدادية والآلية التقنية الجارفة، فإنه من المجحف اعتماد لهجة التهويل ونبرة الانحطاط، على غرار ما ذهب إليه المؤرخ الألماني التشاؤمي أوسفالد شبنغلر (1880-1936) في كتابه "أفول الغرب" (Der Untergang des Abenlandes). ذلك بأن "الروح ليس عدو الحياة. لا شك في أنه يدمي بجراحه، ولكنه أيضاً قادر على أن يداويها" (شيلر، "الإنسان في عصر التعويض"). يعتقد شيلر أن فقدان اليقينيات في عصر الحداثة يمكن أن يفضي إلى عملية يولد منها إله جديد ليس الإله المخلص والمعين خارج العالم، بل إله الحرية ينمو من خلال فعلنا الحر وعفويتنا ومبادئنا (شيلر، "مكانة الإنسان في العالم").
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استثارت تأملات شيلر الفلسفية موجة من الانتقادات تناولت بعض مفاهيمه الملتبسة التي كان يصوغها ويطورها حتى تنجب للفكر خصوبته الإبداعية. من جراء جرأته الفلسفية هذه، اتسعت دائرة تأثيره، فوصفه غير فيلسوف بأوصاف تبرز طبيعة إسهاماته الأنثروبولوجية الفريدة. فإذا بالفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني إرنست ترولتش (1865-1923) يطلق عليه لقب "نيتشه الكاثوليكي". أما هايدغر، فاعتبره يجسد أعظم القوى إلهاماً في الفلسفة الجرمانية. ومنهم من عاين فيه "أوغسطينس الجديد". في جميع الأحوال، ما برح أثره الفلسفي واضحاً في أعمال هايدغر وإديت شتاين وهانس غيورغ غادمر ونيقولاي هارتمان وغابريل مارسل وسارتر ومرلو-بونتي وريكور. يشبه الفيلسوف الفرنسي ألكسندر كوجف (1902-1968)، في أبحاثه الهيغيلية، الإنسان بالليل أو العدم الفارغ الذي يحتوي كل شيء، على الرغم من خوائه، إذ إنه مستودع من التصورات اللانهائية المتدافعة المتنافرة. في عام 1928، قبل وفاته، صرح شيلر: "في العشرة آلاف سنة الأخيرة من التاريخ على وجه التقريب، نحن الجيل الأول الذي أشكل فيه الإنسان على نفسه إشكالاً شاملاً، إذ غدا لا يعرف ما هو، ويعرف أيضاً في الوقت نفسه أنه لا يعرف".