يمكن للمرء أن يموت من الضحك حرفياً، إذ يروي المؤرخون عن أنواع من التعذيب خلال حرب "الثلاثين عاماً" الدينية في أوروبا. على سبيل المثال، كان الآسرون يضعون الملح على قدمي الأسير ويتركون الماعز ليلعقها حتى يموت المعذَّب من الضحك فعلاً، وهناك حالات منه يمكن أن تقتل فيها كأن يكون أثناء الأكل أو انغلاق المجرى التنفسي.
الضحك لغة عالمية
هذه حالات استثنائية يكون فيها الضحك قاتلاً، ولكنه في سائر الحالات هو مصدر حياة وسبب لإطالتها لدى المرضى أو المسنين، وسبب لتعزيز المناعة وطرد الاكتئاب لدى الأطفال والكبار، الأغنياء والفقراء، العقلاء والمجانين، المتزمتين والمنفتحين. هو لغة عالمية يفهمها الجميع، فلا فرق بين ضحكة فرد من الإسكيمو في القطب المتجمد الشمالي وآخر من الطوارق في الصحراء الكبرى. فالضحك هو الضحك كما الجوع والبكاء واللطف والحنان، وغيرها من المشاعر الإنسانية المشتركة.
هو شعور معدٍ أيضاً، أي إنه ينتشر ويتسع بالعدوى، فحين نرى شخصاً يضحك مقهقهاً، من دون أن نعرف السبب، فإننا تلقائياً نبدأ بالابتسام ومن ثم الضحك، ومن ثم نجاريه في ضحكه من دون أن ندري السبب، وقد أجريت مئات التجارب لهذه الحالة، ونشرت فيديوهات منها على شبكة "يوتيوب"، كأن يقف أحدهم في المترو يشاهد شيئاً ما في هاتفه ويضع سماعات في أذنيه، ولكنه يضحك متدرجاً من الضحك الخفيف إلى المتوسط فالمرتفع، فنلاحظ أن كل الراكبين في المترو، بعد استهجان يروحون يبتسمون، ثم فجأة يبدأون بالضحك مرتفع الصوت. أما المسلسلات الكوميدية فإنها تدخل أصوات الضاحكين غير المرئيين على المشاهد المفترض أنها مضحكة، وكأنها تدفع إلى مشاركة المشاهدين إليه، حتى يبدو الأمر وكأن صانعي البرنامج يحددون للمشاهد متى يضحك، وغالباً ما ينجح هذا الأمر.
هو حاجة إنسانية غريزية إلى رفع الهموم عن كواهلنا، وللتخفيف من القلق والتوتر، فنقول "اضحك تضحك لك الدنيا"، ولطالما كان شعوراً أساسياً في كل الفنون بل وعلى رأسها، مثل المسرح منذ نشوئه قبل عشرة آلاف سنة، والرسوم في مقدمتها الكاريكاتورية، وفي الأفلام الكوميدية التي صنعت سينما عظيمة مع شارلي شابلن ولوريل وهاردي، ومن ثم كل الكوميديا التي ما زالت الأكثر مبيعاً على شبابيك التذاكر في السينما العالمية. وهناك "الاستاند أب كوميدي"، الذي بات يحتل مراكز الصدارة في المشاهدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ظهر في هذا النوع من الفنون مؤدون اكتسبوا شهرة عالمية، خصوصاً أن هذا النوع من الفنون كما الرسم الكاريكاتوري يحتاج إلى ذكاء كبير ونظرة لماحة للأمور، لقول كل شيء في وقت قصير وذكي وصائب، يصيب الجمهور بسرعة بعدوى الضحك، لأن أي خطأ صغير في الأداء قد يذهب العمل كله مذهب الفشل.
الضحك ميزة بشرية
لكن الضحك ليس دائماً تعبيراً عن الفرح، فنقول "شر البلية ما يضحك"، أو نسمي فناً ما "الكوميديا السوداء"، أو نقول عن إنسان أنه يضحك من شدة الألم، أو نجد أشخاصاً يضحكون وحدهم بينما يسيرون أو يتأملون فنشعر أن ضحكهم هذا ليس دليل فرح بل برهان كمد وضيق ما.
وهناك بعض الشعوب لا تحب الضحك، كما يشاع عن الأتراك مثلاً، فيقال إنهم لا يضحكون للرغيف السخن، وفقاً للغة الشامية والمصرية الدارجة، وهناك أخرى تعتبر أن الضحك "يميت القلب" أي يفقد المرء هيبته وجديته. وثمة ثالثة تذهب إلى أنه من الواجب الضحك فيها ولو في الأحزان كما هو حال اليابانيين، إذ من الضروري على من يتلقى المواساة بوفاة عزيز عليه أن يبتسم للمعزي تعبيراً عن امتنان لهذه المواساة.
وفي كل الأحوال حتى لو كان الضحك لغة عالمية، إلا أنه يتأثر بالثقافات الاجتماعية بحسب الدول والمناطق والبلدان، فأحياناً ما يثير ضحك شخص إنجليزي مثلاً، لا يثيره لدى مصري أو روسي، والعكس صحيح. فالضحك مكتسب في بعض جوانبه، أي إنه يتأثر بالتربية والنشوء وفي معاني الأمور أو الأحداث التي نعتبرها فكاهية أو ليست كذلك.
لكن لا بد من القول إن الضحك بالنسبة إلى فلاسفة قدماء كثر، وبالنسبة إلى باحثين ومتخصصين حديثين، هو فعل بشري بحت، أي إن الإنسان ليس "حيواناً ناطقاً" فقط كما يشاع، بل هو حيوان ضاحك، وهذا ما لا يمكن لأي حيوان أن يقوم به، وحتى الدراسات التي أجريت على الشمبانزي الأقرب جينياً إلى البشر، لم تؤكد حتى اليوم أن الهمهمات التي يطلقها الشمبانزي حين تفتر شفتاه وتظهر أسنانه في موقف ما، تعني الضحك كما يعرفه البشر، وما زالت هذه الأبحاث قائمة حتى الآن، ومنها على الدلافين والفيلة التي ما يزال هناك شك بأنها تبتسم أو تعبر عن فرح ما. بينما يرى علماء النفس أننا ما دمنا لا نعرف لغة الحيوان والطير فلن نعرف أبداً إذا كانت تضحك أم لا.
من الفلاسفة العرب، أبو حيان التوحيدي الذي يفسر الضحك على أنه قوة ناشئة من تفاعل بين قوتي العقل والغريزة في الإنسان، وهو حالة من أحوال النفس تنشأ عندما يرد إليها استظراف أي شيء طارئ يجعلها تتعجب، ويقول في كتاب "البصائر"، "إياك أن تعاف سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل الجارية على السخف، فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك وتبلد طبعك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجسم الضاحك شكلاً وتأثيراً
"عندما يضحك الإنسان تتقلص عضلات الوجه، لا سيما حول الفم مؤدية إلى شد الشفتين نحو الجانبين، وتتكون تجاعيد السرور على جانبي الوجه. وقد تظهر حفرة صغيرة على كل من الجانبين مكسبة الوجه جمالاً خاصاً. ومن ثم ينفتح الفم مظهراً الأسنان حسب شدة الضحك. ويرافق ذلك صدور صوت تختلف شدته من شخص لآخر، بسبب خروج الهواء زفيراً من الحنجرة واهتزاز حبال الصوت ومصادره الأخرى". كما كتبت الباحثة أريج المحفوظ في بحثها الممتع حول الضحك، المنشور في مجلة "القافلة".
وبرأي الباحثة المحفوظ "فإن خلاصة تقلصات عضلات الوجه تؤدي إلى سحنة خاصة تنم عن الفرح. وتشارك العينان في الضحك حيث تنهمر الدموع منهما تعبيراً عن شدة الفرح، لأن عضلة الضحك تضم العضلات المحيطة بكيس الدمع. كما تحتقن الأوعية الدموية في الوجه وتمتلئ دماً فتظهر حمرة الوجنات. ويتبدل التوازن الهرموني خلال الضحك، ويزيد الضغط داخل البطن وقد يؤدي إلى انفلات مصرة البول عند البعض. وقد يتحرك الإنسان حركات معينة أثناء الضحك كأن يحرك يديه أو يصفق بهما أو يمسكهما ويضعهما أمام صدره أو فمه، أو قد يقفز فرحاً أثناء الضحك الشديد".
وتأكيداً لهذه الفكرة لاحظ المبدع الإنساني ليوناردو دافنشي عن الانفعال الإنساني في رسالة في فن التصوير عام 1551، ألا فرق بين الوجه الذي يبكي والذي يضحك في العينين أو الفم أو الوجنتين، لكن الفرق البارز يكون فقط في صلابة حاجبي العينين إذ يقتربان لدى الأول ويرتفعان عند الأخير.
بعض الخبراء وجدوا أن إضحاك المرضى وإدخال البهجة في نفوسهم يعطي أثراً مباشراً في أجهزة المناعة الطبيعية في أجسامهم. إذ يؤكدون أن فائدته لا تقتصر على تحسين حالة المرضى النفسية، بل تتجاوزها بشحذها قدرة الجسم على مقاومة الأمراض. ويحفز الضحك الجسم على إنتاج مسكن الألم الطبيعي الذي ينتجه الأخير. ويخفض إفراز المواد الكيماوية المرتبطة بحالات التوتر العصبي، ويساعد في تخفيف توتر العضلات.
والضحك للقلب مثل التمارين البدنية يجعل الأوعية الدموية تعمل بكفاءة أعلى، كما أكد باحثون في جامعة ميريلاند الأميركية أن الضحك يزيد انبساط الأوعية الدموية فتسمح بتدفق الدم بسهولة إلى أعضاء الجسم، لا سيما القلب والمخ فتقلل التوتر الذهني والعصبي. وأوضح الباحث مايكل ميلر أن حصول الشخص على قسط من الفكاهة والضحك مفيد جداً.
كما أن له فوائد كبيرة في علاج بعض الأمراض النفسية، مثل الاكتئاب والقلق. ويرى الأطباء أيضاً أن المرح داخل مراكز العلاج مفيد للأطباء والممرضين أيضاً، لأنه يساعدهم في التخلص من الضغط العصبي الناتج من طبيعة عملهم الشاقة. وأثبتت الدراسات أن الضحك يرفع مستوى الأداء العقلي، وقدرة الإنسان على الاحتفاظ بالمعلومات أطول مدة ويقوي الذاكرة، ويحد من آثار الشيخوخة، ويزيد القدرة على التأمل والاسترخاء، وهو دواء مضاد للتشاؤم واليأس والغضب. بل يساعد الضحك والمرح في جعل العلاقة الزوجية أكثر استقراراً وراحة.