في يونيو (حزيران) 2016، تحرّرت مدينة الفلوجة بشكل كامل من تنظيم "داعش"، وعلى الرغم من تأخر عودة الحياة الطبيعية إلى المدينة بسبب تضرّر الأحياء السكنية والأماكن العامة جراء الحرب، لكن النقاب الذي فرضه التنظيم المتشدّد على النساء بدأ يغادر وجوههنّ تدريجياً حتى خلعت جميع النساء النقاب وعدنَ إلى حياتهنّ الطبيعية.
ومنذ ذلك الحين بدأت النساء تظهر بوجه مكشوف من دون خوف، واحتفظن بغطاء الرأس التقليديّ الذي كان دارجاً قبل مرحلة "داعش". لكن المدينة اليوم بدأت تتغير. إذ ظهرت النساء المنقبات في أسواقها بشكل ملحوظ إثر عودة بعض عائلات التنظيم للعيش فيها مجدداً، بعدما غادرت المخيمات عقب تسويات جرت بين العشائر والحكومة المحلية.
يقول كمال حسن نعمة، وهو من سكان مدينة الفلوجة، إن "ظهور النساء المرتديات النقاب هو تغيير جديدٌ منذ مغادرة تنظيم داعش، وبات اليوم يميّز عائلات المتشدّدين. فالنساء المنقبات هنّ من عائلات التنظيم التي سُمح لها بالعودة بعدما أعلنت البراءة من ابنها وأفعاله ووقّعت على وثيقة بهذا الخصوص".
ويضيف "عائلتان من جيراني عادتا بالطريقة ذاتها، لكن لا أحد يتواصل معهما. إذ تعاملان من قبل سكان الحيّ كأنهما غرباء".
الأوضاع في الفلوجة تغيرت كثيراً منذ عامين، وباتت المدينة أكثر تحرّراً في مجالات عدة على الرغم من احتفاظها بالطابع العشائري، الذي يميزها. لكن النقاب اختفى نهائياً بعد مغادرة التنظيم ولم يشاهد السكان أو زوار المدينة الغرباء نساءً منقباتٍ إلا في الشهرين الماضيين.
مخيمات عائلات "داعش"
تتركز معظم المخيمات التي تقطنها عائلات "داعش" في الفلوجة في منطقة عامرية الفلوجة (40 كلم غرب بغداد)، وهي تُمنع من مغادرة مخيماتها، فيما ترتدي معظم النساء النقاب الذي يغطي كامل ملامح وجوههنّ ولا يظهر سوى العينين.
تبرّر الحكومة العراقية عدم السماح لهذه العائلات بالخروج من المخيمات بما قد تتعرّض له من عمليات انتقام، مثلما حدث في مدن عراقية أخرى. إذ استهدفها بعض أهالي ضحايا "داعش" بعمليات هجوم سريع أو استهدفوا عائلات عمل أفرادها مع "داعش" وتقطن خارج المخيمات، فضلاً عن أهمية عزل العائلات عن التواصل مع أبنائها من عناصر "داعش"، الذين فروا خارج البلاد عقب تحرير المدن التي كان يسيطر عليها التنظيم قبل طرده منها.
أما العشائر العراقية والحكومة المحلية فتخشيان من فوضى القتال بين العشائر التي ينتمي أبناؤها إلى "داعش" وعشائر أهالي ضحايا التنظيم. لذا، فضّلتا بقاء تلك العائلات في المخيمات إلى حين التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة، وتقديم أهالي عناصر "داعش" أدلة حول عدم اقتناعهم بانتماء أبنائهم إلى التنظيم. لكن المشكلة الأكبر هي أن معظم العائلات تتبنى أفكار أبنائها، وعدداً محدوداً منها فقط يتبرأ من أفعال ذويه ويصفهم بالمتمردين على المجتمع والأسرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ناحية البغدادي، تقطن بعض عائلات "داعش"، التي نزحت حديثاً خوفاً من الانتقام لكنها تعيش بين العشائر ولم تُعزل في المخيمات مثلما حدث مع عائلات "داعش" في الفلوجة، ولأن سلطة العشائر هناك هي الأقوى بين السلطات الأخرى، لا تستطيع الحكومة المركزية محاكمة تلك العشائر أو وضعها في المحتجزات.
منظمة "برج بابل" هي واحدة من المنظمات التي عملت في مجال تأهيل عائلات داعش ضمن برنامج استمر عامين، كان يحمل عنوان "تعزيز قدرات السلم الأهلي"، الذي التقت خلاله المنظمة بعائلات كثيرة عمل أبناؤها مع "داعش"، داخل المخيمات أو التي هربت إلى مناطق أخرى.
يقول رحيم الشمري، منسّق المنظمة، إنه يستبعد إغلاق مخيمات عائلات "داعش" والسماح لها بالعودة إلى المدن قريباً، وإن ما حدث هو مصالحات فردية ناتجة من توافق بين الحكومة المحلية والعشائر التي تملك السلطة الأقوى في المدينة.
وجه جديد للفلوجة
عودة سكان المدينة الصغيرة غيّر بعض التقاليد السائدة قبل عهد "داعش". إذ عادت النساء بملابس أكثر عصرية مع احتفاظهنّ بالحجاب، فضلاً عن ظهور حركات شبابية عدة تقوم بأعمال تطوّعية في مجالات مختلفة. فالمطاعم باتت مفتوحة للجنسين في الوجبات اليومية، والنساء تشاركنَ في المحافل العامة أكثر، وزاد عدد المولات والأسواق الكبيرة.
هذا التغيير الذي اعتاده السكان بعد "داعش" جعل رؤية نساء منقّبات مجدداً في المدينة أمراً غريباً، لا سيما بالنسبة إلى السكان الذين غادروا المدينة في زمن "داعش"، ولم يعايشوا قراراته ضد السكان بشكل عام، خصوصاً النساء. فالعيون تلتقط الأجساد السوداء للنساء المنقّبات وتتفحصهنّ بحذر لأن السائرين في الأسواق والشوارع التي تُشاهد فيها المنقّبات يعلمون أنهنّ من عائلات "داعش".