Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"باندورا" والطماط والصندوق المبيّت

مصائر وثروات الشعوب يمكن أن تكون "طماطاً" في يد ساسة بلا ضمير

أكثر من 12 مليون وثيقة مصرفية وعقارية تعود لأكثر من 300 مسؤول حول العالم (أ ف ب)

هو حديث القرية الكونية: صندوق "باندورا" (Pandora’s Box)، مجموعة من الصحافيين المستقلين حصلوا على أكثر من 12 مليون وثيقة مصرفية وعقارية وغيرها تعود إلى أكثر من 35 زعيماً وأكثر من 300 مسؤول حول العالم وآلاف مؤلفة من الأثرياء ورجال الأعمال و"بيوع الشغل يحب الخفية". الوثائق تظهر ملكية هؤلاء لمليارات الدولارات في وقت تعيش معظم دولهم في الفقر المدقع والفاقة الملحة. هذه الوثائق تم الحصول عليها من بنوك "الأوفشور" في الغالب في جزر العذراء البريطانية. علّق أحد الظرفاء: أظن هذه الجزر قد فقدت عذريتها بعد هذه الفضيحة.

سأترك هذه الفضائح -التي نالت الساسة والمسؤولين لاطلاع القارئ الكريم الذي يمكنه تصفحها على شبكة الإنترنت، أو يطّلع على تقرير جماعي تعاونت صحيفة "غارديان" وبرنامج بانوراما على "بي بي سي" البريطانية على إنتاجه- جانباً، وسوف أنظر إلى الجانب اللغوي وأصل العبارة: صندوق "باندورا".

"باندورا" -على ما أذكر من مقرر الأساطير اليونانية الذي أخذته نهاية السبعينيات في جامعة الكويت- هي تلك المرأة الجامعة لكل شيء التي أتى بها زيوس ملك الآلهة ليتقدم لها عدد من الآلهة بهدايا مختلفة من بينها صندوق (BOX) وأصل الكلمة من اليونانية أيضاً، وقيل إنه لم يكن صندوقاً بل جرة من الفخار مثل تلك التي يخمر فيها النبيذ، وتحفظ فيها الأشياء الثمينة وجثامين الموتى في حال حرقها وتحويلها إلى رماد. قيل إن هذا الصندوق كان يحوي الشرور التي ما إن فتحته "باندورا" حتى خرج إلى العالم كل أنواع الرذيلة والإثم والشر، وهو شبيه بالقول الإنجليزي الدارج: علبة الديدان (Can of Worms)، ويقابله بالعربية عش الدبابير. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

و"باندورا" ليست "البندورا" كما تُسمّى في بلاد الشام، أي الطماطم في مصر ويصغرونها بطماطمايا، أو الطماطا في العراق، أو الطماط في الكويت والخليج العربي بضمّ الطاء الأولى. لا أعرف لماذا أخذ أهل الشام التسمية من الإيطالية "بومدورّا" أي تفاحة الذهب، ربما بسبب لونها الأصفر الذهبي قبل أن تنضج، بينما أخذنا في مصر والخليج الكلمة من الفرنسية والإنجليزية التي أخذت من لغة الأزتيك -سكان المكسيك الأصليين- حيث اكتشفت الطماطم للمرة الأولى في أميركا اللاتينية وجاء بها الإسبان من هناك في القرن السادس عشر للعالم القديم. ولعل معنى "توماتي" بلغة الأزتيك هناك تعني "الفاكهة المنفوخة".

وفي نهاية الأمر، فإن المسألة كلها "طماط في طماط"، لكن لدى "زعران" الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قصة مختلفة مع الطماطم. فمن طرائف الحرب الأهلية اللبنانية المضحكة-المبكية، أي الكوميديا السوداء التي نسجت أثناء تلك الحرب العبثية المدمرة، وما أكثر حروبنا العبثية، أن حواجز الميليشيات المختلفة تظهر "طماطة" لمن يرغب بالعبور للتعرف على هويته: هل هو فلسطيني أم لبناني؟ فتسكين النون في "بندورا" أو فتحها حين لفظها يحدد هوية العابر لحاجز الميليشيات المسلح! تخيّل أن سكوناً أو فتحةً على حرف النون قد تحدد مصيرك! وقد ينعت الزعران العابر للحاجز بأنه: "بَنْدورا" أو "بَنَدورا"!

وبندر اسم علم مذكر شائع في دول الخليج، ولا علاقة له بالصناديق ولا بالطماطم، فهو من أصل فارسي يعني الميناء أو المرسى، ومن هنا يأتي جمال هذا الاسم. وقد صرّفه أهل الخليج، فقد سمعت كباراً من أهل البحر يقولون: "بَندرنا في مَسْكَتْ" أي نزلنا في ميناء مسقط، لكن البندر في صعيد مصر يعني السوق. "أنا نازل عالبندر"، تعني أنا ذاهب إلى السوق.

ومن أشهر من حمل اسم بندر من الشعراء، الشاعر بندر بن سرور العتيبي، صاحب القصيدة الشهيرة التي مطلعها:

ماني وأنا بندر ببيّاع دمّه/ يقطعك يا بيّاع دمّه وشاريه

"وينك اليوم يا بندر"، فالبعض باع اليابس والأخضر، وباع الصندوق والطماط، فمصائر وثروات الشعوب يمكن أن تكون "طماطاً" في يد ساسة بلا ضمير أو رادع أو محاسبة، تموت شعوبهم جوعاً، وهم يتضورون "تخمة" من جوع الحمية والريجيم لتخفيف الأوزان وتحسين الصحة تطويلاً لأعمارهم لاستمرار مص دماء شعوبهم، فيكونون كمثل الباندا الصينية سمينة بالرغم من أنها تعتمد في غذائها على نبات البامبو بشكل شبه حصري. وعلى فكرة: لا علاقة لاسم الباندا بصندوق "باندورا" ولا بصندوق الطماطم، إلا أنها سمينة ثقيلة وشرسة جداً، فاسمها مشتق من النيبالية ويعني "آكل البامبو".

حين يشاهد الواحد من ساسة "ضميرسيز" أطفال شعبه يراهم كما يقول الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني: "يرى تورّم الجوف شحما!".

مثل معظم نساء جيلها، كان لدى والدتي -رحمها الله- صندوق تحفظ فيه الأشياء الثمينة والغالية على نفسها، ورثته من أمها -جدتي رحمها الله- كان يُسمّى "صندوق مبيّت"، يحفظ الذكريات ويحتفظ برائحة الأم والجدة معاً. وعلى عكس صندوق "باندورا"، لا يخرج منه إلا الخير والأشياء الجميلة، ويحتفظ بالخصوصية وبقايا الأسرار العائلية، فهو كقلب الرجل القوي، وكما يقولون "قلوب الرجال، صناديق مقفّلة".

فما كل صندوقٍ "باندورا"، ولا كل أحمرٍ طماطا، ولا كل سر مباح، ولا كل خبر متاح، وكل صندوق "باندورا" والفقراء بسعادة وارتياح.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء