إذا كان من قبيل المصادفة البحتة أن الفن السابع والتحليل النفسي ولدا في زمن واحد تقريباً، هو العقد الأخير من القرن التاسع عشر، الأول على يد الأخوين الفرنسيين لوميار، والثاني على يد النمساوي سيغموند فرويد. وإذا كان، أيضاً، من قبيل الصدفة أن يظهر كتاب فرويد الشهير عن الهستيريا، انطلاقاً مما يسمى "حالة دورا" في العام نفسه الذي قدم فيه الأخوان لوميار، العرض الأول في وسط باريس للفيلم الأول في تاريخ السينما، فإنه ليس من الصدفة في شيء أن يقدم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ - بعد مرور أكثر من قرن من الزمن، على تلك "الخطوات" المهمة في تاريخ الحداثة - على تحقيق واحد من أكثر الأفلام في تاريخ السينما التصاقاً بتاريخ التحليل النفسي، ونعني فيلمه "منهج خطير" الذي يتمحور موضوعه من حول الصراع بين فرويد وتلميذه ووريثه المعلن يونغ، وذلك بالتحديد لأن سينما كروننبرغ كانت دائماً منطلقة من مسائل ومواضيع ترتبط بالتحليل النفسي إما بصورة غير مباشرة (مثل "إكزستنز" و"تاريخ من العنف"...) وإما بصورة مباشرة كما في "سبايدر" ثم قبل سنوات "منهج خطير".
التحليل النفسي على الشاشة
أياً يكن الأمر، فإن كروننبرغ في إقدامه على هذا المشروع إنما كان يتبدى واحداً في سلسلة المخرجين السينمائيين، الذين شغل التحليل النفسي أعمالاً كثيرة لهم من هيتشكوك إلى فريتز لانغ وأساطين التعبيرية الألمانية، وصولاً إلى عدد من المخرجين العرب ومروراً طبعاً ببيلي وايلدر النمساوي الأصل والهوليوودي الهوى والهوية، الذي لم يتوقف في أفلامه عن السخرية من التحليل النفسي وصولاً إلى سخريته من فرويد نفسه. مهما يكن من أمر ففي كل مرة يجري فيها ذكر حضور التحليل النفسي، سينمائياً، فإن أول ما يقفز إلى الأذهان إنما هو فيلم جون هوستون عن حياة فرويد كسيرة سينمائية لفرويد ولولادة التحليل النفسي، ومع ذلك فإن الخبراء الأكثر جدية في هذا المجال يرون أن التزاوج بين السينما والتحليل النفسي كان أكثر وضوحاً في عدد من أفلام سيد التشويق ألفريد هيتشكوك، منه في المتن السينمائي لأي مبدع آخر. بالنسبة إلى هؤلاء، لم يحقق هيتشكوك أفلاماً عن "التحليل النفسي"، بل أفلاماً "تغوص" في التحليل النفسي.
الوصول إلى سكورسيزي
وعلى أية حال فإن أصحاب الأسماء التي ذكرت أعلاه، ليسوا وحدهم في الساحة، بل إننا نعيش منذ سنوات عدة زخماً مدهشاً في السينما "التحليل/ نفسية". وهذه السينما، بدأت على أية حال باكراً ومنذ العقود الأولى لبروز جماهيرية فن السينما -في الأقل منذ "عيادة الدكتور كاليغاري" وأفلام دراير وبابست وبعض بوليسيات فرتيز لانغ - وراحت تشهد ازدهاراً وتنويعاً في المواضيع بالتدريج. فهناك على مدى تاريخ السينما أفلام حول المصحات النفسية (تكاد تكون ترجمة بصرية لبعض نظريات ميشال فوكو حول السجون و"المراقبة والمعاقبة") – من أبرزها "واحد طار فوق عش الوقواق" لميلوش فورمان، و"حياة عائلية" لكين لوتش، و"ممر الصدمات" لصامويل فولر... وصولاً إلى تحفة مارتن سكورسيزي "شاتر آيلند".
خارج المألوف
للوهلة الأولى سيبدو للمشاهد المدمن أفلام مارتن سكورسيزي أن من الصعب إيجاد رابط ما بين فيلمه "شاتر آيلند"، وأفلامه الأخرى غير أن تبحراً في جوهر الفيلم وتواجهاً مع اللغة السينمائية المدهشة التي تسم هذا الفيلم الجديد، سيقولان لنا بسرعة إننا حقاً هنا في حضرة السينما السكورسيزية. ذلك أن فيلماً غنياً إلى هذا الحد، ومتقشفاً إلى هذا الحد، وفيه كل تلك الخبطات المسرحية والتنقل بين الأنواع السينمائية المختلفة، وكل ذلك الاختلاط في الهوية، مثل "شاتر آيلند" لن يصعب عزوه إلى صاحب "المرحلون" و"عصابات نيويورك".
هنا قد لا نجد أنفسنا أمام "سينما المؤلف" التي كان يمكن ربطها بمارتن سكورسيزي، بمعنى أننا لسنا هنا أمام مخرج يطابق بين ذاته ومواضيعه مثل ما حدث في "سائق التاكسي" أو "رفاق طيبون". نحن هنا الآن في عالم تعاطي سكورسيزي مع حكايات وتواريخ ونصوص أدبية تبتعد كثيراً عن ذاته. ومع هذا يبقى ثمة جوهر أساسي، نجده في "شاتر آيلند" وهو: مسألة الهوية، بل إن هذه المسألة تكاد تكون، بعد كل شيء، الموضوع الأساس في هذا الفيلم، حتى وإن لم يتكشف لنا هذا، إلا في الجزء الأخير من الفيلم. قبل ذلك كنا أمام عمل يبدو على شكل تحقيق بوليسي تشويقي، من نوع كثيراً ما رأيناه في سينما الأربعينيات والخمسينيات الأميركية مثل أفلام ألفريد هيتشكوك أو أفلام "النوار" لجون هيوستن غير أننا بالتدريج، بل حتى من دون أن نتنبه تماماً، نجد أنفسنا وسط بحث تلعب فيه الذاكرة والأحلام دوراً متصاعداً.
أبعاد غير متوقعة
في البداية هناك سرد لتحقيق بوليسي يقوم به شرطي وزميل له، استدعيا إلى مستشفى الأمراض العصبية الكائن في جزيرة معزولة غير بعيدة من بوسطن، كي يكشفا السر عن اختفاء واحدة من المرضى المحتجزين هناك. وهؤلاء المرضى هم جميعاً مجرمون معتقلون موضوعون في تلك العزلة لخطورتهم. لكن الفيلم سرعان ما يبدو كأنه تحقيق حول ممارسات حكومية تجريبية تستخدم المرضى - المجرمين، كحيوانات اختبار. وهذا ما يجعل الشرطي تيدي دانيلز (ليوناردو دي كابريو)، يستعيد مشاهد من معسكر الاعتقال النازي داشاو الذي كان قد أسهم في تحرير أسراه -أو من بقي منهم- خلال الحرب العالمية الثانية كجندي أميركي، ما يجعل الفيلم يبدو أشبه بعمل يريد المقارنة بين ما فعله النازيون في داشاو، وما يبدو أن السلطات الأميركية تفعله في شاتر آيلند.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتفال مزدوج على طريقة سكورسيزي
مارتن سكورسيزي في رحلة بحثه عن ذات بطله في هذا العمل لن يحول الفيلم إلى بحث فلسفي، أو سيكولوجي فقط، وإنما سيبقى محافظاً على سينماه المفاجئة والممتعة والقاسية في آن معاً. السينما التي يعرف سكورسيزي سر لغتها المدهشة. وقد يكون ممكناً القول إن هذا يتجلى بخاصة في القلبات المسرحية لا سيما المتخيلة والمتعلقة بالهوية. وهي قلبات أساسية تضع الفيلم و"منطقه" على حبل مشدود، وربما تضع المتفرج أيضاً على ما يدنو من ذلك الحبل وحتى ما بعد النهاية، التي نقل سكورسيزي غموضها والتباساتها من الرواية التي اقتبس الفيلم عنها، وهي للكاتب دينيس لاهان، الذي كان سبق لكلينت إيستوود أن اقتبس واحدة أخرى من رواياته في فيلمه، المميز أيضاً "مستيك ريفير" الذي يدنو خطوات كثيرة من عالم التحليل النفسي. وهذا العالم يبدو في "شاتر آيلند" ثرياً ويعبق بدلالات لا يمكن توقعها في فيلم بدا أول الأمر خطياً، ليتخذ بالتدريج مساراً بالغ الغرابة يفترق عن السينما السكورسيزية ليقترب من سينما دافيد كروننبرغ وربما كذلك من سينما هيتشكوك. وهذا ما يجعل هذا الفيلم يبدو كأنه تحية للسينما من ناحية وللتحليل النفسي من ناحية ثانية، واضعاً إيانا نحن المتفرجين في قلب تلك الاحتفالية المزدوجة بتاريخ هذين الصنفين الفني والعلمي، إنما بلغة سينمائية شديدة الأناقة وإدارة ممثلين ومشاهد تنتمي إلى أحلام كابوسية مدهشة. باختصار تمكن سكورسيزي في هذا الفيلم من أن يضافر بين الصورة وما وراء الصورة كما بين الوعي وما وراء الوعي بلغة قد يصعب على فن غير فن السينما الوصول إليه.