منذ بداياته في مطلع الخمسينيات المنصرمة، اختار الفنان الجزائري الرائد رابح درياسة، الذي غادرنا أمس الجمعة، أسلوباً غنائياً يشبهه ولا يشبه سواه. وعلى مدار عقود ظل صاحب "نجمة قطبية" و"التفاحة" و"الممرضة" و"يا قاري سورة النسا" الصوت الأكثر تعبيراً عن الأصالة الجزائرية. ولد سنة 1934 في مدينة البليدة الجزائرية، ويصفه كثيرون بـ"مجدد الأغنية البدوية"، ويرى فيه آخرون النموذج الأرقى للأغنية "العائلية". فهو وإن مال في كثير من أغانيه إلى الجانب الوجداني، تظل أغاني الحكمة والالتزام والمديح النبوي تشكل المضمار الذي تجيد خيوله الركض فيه. ويمكن أن نتوقف في تجربة رابح درياسة عند ما يمكن أن نسميه "الأغنية الاجتماعية"، التي تطرقت في عديد من المقطوعات التي أداها، إلى ما يعيشه المجتمع من مشكلات، وإلى القضايا التي تؤثر في الشباب والأسرة. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، غنى الجزائر و الحرية و الأمير عبد القادر وحزب الثوار و الجالية الجزائرية في أوروبا.
آثر أن يكون قريباً من الناس، ليس من قضاياهم ومشاغلهم فحسب، بل أيضاً من لغتهم، لذلك اختار اللهجة الجزائرية، بعدما عمل على تشذيبها من المفردات الغارقة في محليتها، حتى يتأتى لأكبر قدر من المستمعين فهمها. وعمل أيضاً على الابتعاد عن كل المفردات غير العائلية رغبة منه في أن يبقى المطرب الذي يمكن سماع أغانيه في البيت الجزائري، ومن لدن جميع أفراده. وظل متشبثاً بخياراته على الرغم من هجمة الغناء الشبابي منذ الثمانينيات، بما حمله من تحولات لغوية وإيقاعية اتسمت بالجرأة والسعي إلى الخروج عن كل إطار فني محافظ.
مجدّد الأغنية البدوية
ما قام به درياسة على المستوى التقني هو تجديد الأغنية الشعبية في الجزائر، ففي غمرة حضور الفنون الغنائية الأصيلة مثل "الصحراوي" و"العلاوي" قام درياسة بـ"تمدين الأغنية البدوية"، وبتقريب مفرداتها وإيقاعاتها من الحياة الحضرية، باحثاً عن قاعدة موسعة لأغنيته، بدل حصرها في فئة محددة من المستمعين.
منذ أول أغنية له في الإذاعة الجزائرية اختار أن يكون هو ملحنها، وظل على مدار ستة عقود يلحن أغانيه بنفسه، حتى أن أسلوبه في التلحين صار معروفاً لدى المستمعين وأهل الفن، و يمكن أن يعرف محبوه أن الأغنية تعود إليه عند انطلاق العزف قبل سماع صوت المطرب.
تحفل أغاني رابح درياسة بالمضامين الإنسانية الأكثر دفقاً، فثمة كثير من الشجن حتى في أغانيه التي تدعو إلى الفرح، وربما يعود هذا إلى يتمه المبكر. فهو فقد والدته و لم يتجاوز بعد عامه الثاني عشر، ثم فقد والده بعد ثلاث سنوات. ومما سيزيد من جراح الطفولة خروجه المبكر أيضاً للعمل من أجل مساعدة إخوته الخمسة، فقد اشتغل منذ صغره في حرف مختلفة تفوق سنه، كان أولها النحت على الزجاج. غير أن هذه المهنة كانت طريقاً نحو هواية موازية لا يعرفها إلا القليل، فقد كان رابح درياسة رساماً أيضاً، وله مجموعة من الأعمال الفنية غير متداولة على نطاق واسع تنتمي بالأساس إلى فن الزخرفة والمنمنات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صوت أصيل ونادر
يقول بوزيد حرز الله أحد أبرز شعراء الجزائر لـ"اندنبدنت عربية"، بعدما أبدى تأثراً كبيراً لفقدان رابح درياسة، "نحن نفقد أهرامنا بشكل متتابع. رابح درياسة من الأصوات المغاربية النادرة جداً. فهو من جيل عبد الوهاب الدوكالي وعبد الهادي بلخياط. لقد تشبعنا بأغانيه صغاراً وشباباً وكهولاً. هو الصوت المغاربي الذي غنى بلغة يفهمها الجميع. لهجته كانت راقية جداً. وقد غنى مختلف الأنواع، حتى بلغ صوته أصقاع العالم العربي، وتجاوزه إلى القارات الأخرى. إن صوت رابح درياسة فريد ولن يتكرر".
وبالفعل لم يكن صوت رابح درياسة وقفاً على الجزائريين، على الرغم من أنه اختار أن يغني باللهجة الجزائرية وحدها، بل كان اسماً كبيراً خارج الجزائر أيضاً، وفناناً محبوباً لدى المغاربة والتونسيين والليبيين بالأساس، قبل أن يمتد صوته ليصل إلى مختلف البلدان العربية، سواء عبر حضوره المكثف في المهرجانات والتظاهرات الفنية العربية، أو من خلال أشرطته الموسيقية التي كانت تعبر الحدود. غنى الرحيل والسفر والأمل والغربة والأم الغائبة والشباب الحائر والنخلة السامقة والإنسان في حالات قوته وضعفه، وتشعبت مواضيعه وتعددت، حتى أن المستمع الجزائري يحس أن رابح درياسة لم يترك موضوعاً إلا وغنى فيه.
يرحل صاحب "الزين المفقود" و"غبت عليكم"، غير أنه سيبقى أحد الأصوات العذبة في تاريخ الفن الجزائري، وأحد الأسماء الفنية التي حظيت بكثير من التقدير والاحترام داخل الجزائر وخارجها.